لمـــــــــــاذا الــــــــــــــــفــــــــــــــن؟

ياسين سليماني

 

بالنسبة لفيلسوف مثل برغسون فإنّ الفن قد لا يعني شيئا متى لم يبرز في شكل أثر يجسّد عظمة الفكر الخلاّق ويعطي القيمة القصوى للجهد الذي يعمل على خلق الآثار الفنية. إنّ هذا الارتباط بين الفن والفكر يفتح المجال أمام تساؤل أكثر من مشروع في العملية الفنية وهو «لماذا الفن» أو «ما الذي يجعلنا نقدر الفن؟» وهو السؤال الجوهري الذي يطرحه المفكران الإنجليزيان كريس هورنر وإمريس ويستاكوت في كتابهما الصادر قبل سنوات قليلة بعنوان «التفكير فلسفيا» بدل السؤال التقليدي الذي يبحث عن ماهيته ومفهومه. 



إنّ السؤال يصبح ذا أهمية كبرى من خلال تقصي الواقع والمشاهدات العيانية وما نلاحظه من صرف لمبالغ طائلة سنويا وإنفاق آلاف الساعات والأوراق تكريسا لإنتاج واستهلاك وتحليل الفن. وهو يدور في فلك القضايا والمسائل التي اهتمّ بها الفن واعتبرت جزءا أصيلا من تاريخ الأفكار. إنّ الجوهر الإنساني في هذا التاريخ كان الأكثر تأملا في مفاهيم الحقيقة المبنية على تناقض الثنائيات، من بينها ثنائية الجميل والقبيح. إنّ أهمية مثل هذه الأسئلة تكمن في قدرتها على دفع الذات الباحثة إلى المزيد من التطوير والتجاوز، والابتعاد عن التوقف على هيئة أو شكل أو حقيقة بعينها.

.I الـــفـــن والمتــعــــة:
قد يجيب بعضنا عن هذا السؤال بأنّنا نحترم الفن بل ونحبه لأنه يمنحنا المتعة. هذه الإجابة المباشرة والفطرية يمكن أن تبدو جذابة. إنها بسيطة أيضا، ويمكن اختبارها بيسر وسهولة، فإذا وصلنا إلى المتعة المنشودة فالفن هنا جيّد، وكلما كانت المتعة أكبر فضلنا العمل الفني على غيره، وهكذا فالعمل الفني الأكثر متعة هو الأفضل.
مع الأسف، لا تبدو هذه المقاربة مفيدة كما يظهر من البداية. إذ أنّ إحدى الإشكاليات اللصيقة بهذه المقاربة عدم قدرتها على منح أية خصوصية للفن، فهناك العديد من الأشياء التي تمنحنا المتعة دون أن تكون عملا فنيّا، كالتمتع بالطبيعة في الريف أو تناول نوع من الشوكولا أو المثلجات، بل ربما تمنحنا بعض هذه الأشياء متعة أكثر من الفن ذاته، وبما أننا نتصور أنّ الفن ذا قيمة أكبر من الشوكولا مثلا فإنّ الظن بأنّ المتعة هي ما يجعلنا نحب الفن لا يعدو أن يكون وهما.
 كما أنّ الكثير من الأعمال الفنية التي اعتبرت ناجحة جدا لا يظهر أنها تعطي متعة في الحدود المقبولة لهذه الكلمة، ففي لوحة «رعب الحرب» لغويا goya لا نجد إلاّ جثثا للموتى وشعورا قاسيا بالكآبة. اختبار المتعة إذن لا يستطيع أن يفسر قيمة الفن في مقابل ما ليس فنا.
في المضمار ذاته يمكن أن نفترض وجود نوع خاص من المتعة في الفن، يمكن تسميتها بالمتعة الإستطيقية (الجمالية) هكذا يمكن تمييز الفن عن الأنواع الأخرى للمتعة مثل التسلية والترفيه.
لكن مع هذا فاستخدام المتعة كمعيار وحيد للقيمة الإستطيقية يجعل من الصعوبة تفسير الاختلافات في الرأي حول قيمة أعمال فنية معينة، فلنفرض أننا ذهبنا لمشاهدة فيلم سينمائي، وأنك شعرت بمتعة كبيرة عند مشاهدته ولكنني لم أشعر بذلك بتاتا، في هذه الحالة، يبدو استكشاف أفلام وكتب وقطع موسيقية جيدة نوعا من امتلاك حدس خاص، يملكه البعض ولا يملكه البعض الآخر، على ما قال «هيوم» : «نحن نختار مؤلفنا المفضل تماما كما نختار الصديق، من خلال الاتفاق مع المزاج أو الاستعداد الخاص بنا».
إنّ السؤال الآتي: ما الذي يجعل الناس يتفقون في إعجابهم بهوميروس أو أريستوفان أو سرفانتس رغم اختلاف العصور والأماكن، ويتفقون على نفورهم من كتاب آخرين؟ يجيب عنه هيوم بأنّه توجد بين هذا الاختلاف في الأذواق والأهواء مبادئ معينة عامة للإعجاب أو الانتقاد، وأنّ العين الفاحصة الواعية قد تتبع الدلائل الخاصة بهذه العوامل لتعطي حكمها.
إنّ رأي هيوم هنا، على الرغم من سطوته، إلاّ أنّه يحتكم إلى الذاتية، حتى وإن كان الحكم جماعيا فهو لا يعدو أن يكون انطباعا غير معلّل، فالحكم على العمل الفني بهذا المنظور لا يكون إلا من خلال مزاج ما، إنّ كوفكا يقول أنّ المنظر الطبيعي الذي تحتويه لوحة ما إذا بدا حزينا فليس معنى ذلك أنّ هذا المنظر حزين، أو أنه يحتوي على شيء حزين بشكل خاص، لكن الخبرة الخاصة بنا خلال تفاعلنا مع هذه اللوحة هي التي تجعلها تعبّر عن مثل هذا الحزن. إنّ قيمة الفن هنا تبدو معطى ذاتيا، لا يعدو أن يكون مزاجيا، وهكذا فالعمل الفني إذا أعطى لشخص ما متعة كبيرة، ولم يعطها لغيره تصبح عندها المتعة نوعا من الذوق الشخصي، وهذا الأخير لا يمكن أن يفسر لنا مطلقا السبب الذي يجعلنا نقدر هذا الفن ونعطيه قيمة. وبالتالي، تبدو محاولة البرهنة على العلاقة بين المتعة والفن فاشلة، كما تعتبر فكرة وجود نوع من الحدس فكرة غامضة لا تشكل تفسيرا للظاهرة.

.II الــفــن والمحـــاكـــاة:
يستند البعض في تقديره للفن لـ«قدرته على تمثيل الواقع أو محاكاته”، فإذا كان الفن هو مرآة الطبيعة كما يقال، فإننا نستمتع به لأنه يشبه العالم الواقعي، ونرى قيمة البورتريه إذا تحدثنا عن الرسم كمثال، عندما يشبه وجه الشخص الحقيقي، فإذا كان كذلك فإنّ العمل يكون ناجحا جدا يقول آخر: تشابه جيد. فإن لم يكن كذلك حكمنا عليه بالفشل.
إننا نجد فيلسوفا معاصرا مثل «خوسيه أورتيغا إي غاسيت» في كتابه الهام «تجريد الفن من النزعة الإنسانية» يرى مثل هذا الرأي. فالناس يعجبون بعمل ما عندما يلامس هذا العمل أقدارهم الإنسانية التي يناقشها، الحب، الكراهية، الآلام، سعادة الشخصيات، كل هذا يلامس قلوبهم، يمثّل حيزا منهم كما لو كانت حالات حقيقية من الحياة. إنهم يقولون عن العمل أنه «جيّد» عندما يثير كمّا هائلا من الوهم اللازم تتساوى فيه الشخصيات الوهمية المتخيلة مع قيمتها كشخصيات حقيقية حية. فعندما نقرأ رواية «الجريمة والعقاب» لدوستوفسكي، قصة راسكولينكوف الطالب المفصول من الجامعة الذي بلغ عتبة الفقر وإقدامه على قتل العجوز المرابية وأخيرا إقناع الغانية الشابة سونيا له للاعتراف بجريمته نجد على الرغم من اللمسة الرومانتيكية التي تبدو عليها إلا أنها عمل واقعي يأخذ من هذه الحياة التي نعيشها بعض الأجزاء والتفصيلات، كما من الممكن أن نضع الرواية جانبا ونفكر بشخصياتها وكأنهم أشخاص قابلناهم في حياتنا. ومع أننا نعرف أنّ هؤلاء من صنع الخيال ولكن يبدو أنّ الرواية قد التقطت شيئا واقعيا عن هذه الشخصيات وهو ما نراه أيضا في بعض الفنون الأخرى مثل الدراما والنحت التي تسعى جاهدة لتحقيق تمثيل دقيق للواقع.
إن الكثير من الناس كما يرى إي غاسيت يعتبر أهمية الفن نابعة من احتوائه على نواة الواقع الإنساني الذي بدوره يشكل مادة رئيسية في الجسم الجمالي، وهذا هو الشكل الأكثر طبيعية. إنه الطبيعة مرئيةً.  
لم يبتعد عبد المعطي حجازي عن إي غاسيت في هذه النظرة. إنّه يرى أن المسرح مثلا «يحضر لنا حياتنا الداخلية ويشخصها كأنها واقع حي، وحاضر مشهود نلعب فيه أدوار الأبطال وأدوار الشهود في وقت واحد، فنحن نندمج دون أن نغادر مقاعدنا في قاعة المسرح ونتابع ما يدور على الخشبة دون أن نكون محايدين.

.III الــفــن والتـعــبــير:
إننا نلتقي هنا بنظرية ثالثة، قيمة الفن تكمن في قدرته التعبيرية، أو القدرة على نقل الانفعالات الخاصة بالفنان، فإذا كان الفنان يشعر بانفعال غاضب ويقوم برسم لوحة تعبر عن هذا الشعور، وتجعل الناظر يشعر بالغضب أيضا. هنا يكون الرسام قد «عبّر» عن انفعاله في لوحته، والمتلقي «التقط» الشعور. يمكن تسمية هذا بـ«الانفعال المنقول” ويُحكم على اللوحة بالنجاح إذا وافقنا على الانفعال الذي تحمله اللوحة بسبب صدق الرسام أو بسبب فعالية اللوحة في النقل.
يبدو هذا التفسير مهما بالنسبة للفن، حتى وإن كان الفن أكبر من مجرد تعبير، وهو أكثر إقناعا مقارنة بفكرة الفن كمحاكاة، حيث تستثير الكلمات والصور حياة وخبرات الناس، ولكن الأمر في الأطروحة الجديدة تكتنفه صعوبة بالغة حين نفكر بتلك الفنون غير الرمزية أو الموسيقى الآلاتية الصرفة. إذ ليس من السهل قطعا ربط هذه الأشكال الفنية بنمط التعبير الذي تحدثنا عنه. فبدون حضور الكلمات أو الأشكال المأخوذة من الحياة يصعب التكهن بما تعبر عنه هذه الأعمال، ففي حالة الموسيقى مثلا كيف يمكن لانعدام الكلمات والصور في تدرّجات الصوت والإيقاعات أن يعبر عن الغضب والأسى والسعادة والرضا؟ إنّ القول بأنّ الموسيقى في هذا المثال هي لغة انفعالات فهذا يجعلنا نفقد أي تفسير دقيق حول كيفية امتلاك العناصر الموسيقية القوةَ التعبيرية التي لديها. وإذا كانت هذه هي الطريقة التي تتكلم بها الموسيقى فهل نفترض أنّ جميع المؤلفين الموسيقيين يتحدثون اللغة نفسها؟ إنّ الألماني باخ (1685-1750) والفرنسي من أصل روسي سترافنسكي (1882-1971) والأمريكي إلينجتون (1899-1974) مؤلفون مختلفون جدا، وإذا كانوا تعبيريين فإنهم بالتأكيد ليسوا تعبيريين بالطريقة نفسها.

.IV الـشـكـل والجـمـال:
كان دوستويفسكي يردد دائماً العبارة التالية: «الجمال سينقذ البشرية»، ولكن ما هو الجمال؟ ما هو العمل الجميل بوجه عام؟ لقد كان القديس أوغسطين ينظر إلى الفن باعتباره مبررا لتوق الإنسان الدائم إلى الجمال، إذ رأى أنّ كل ما خلقه الإنسان من فن ذي قيمة يرمز إلى الحقيقة، والحقيقة ترتبط بالجمال، والفن يعكس بعض صور هذا الجمال. كما نظر كانط إلى «الجميل» على أنه رمز للخير، وتصوّر النشاط الجمالي باعتباره نوعا من اللعب الحر للخيال، ورأى أنّ البهجة التي تخصّ العمل الجميل بهجة خاصة بالملكات المعرفية المتعلقة بالخيال والحكم، وقد تحرّرا من خضوعهما للعقل والفهم، أي تحررا من قيود الخطاب المنطقي. إنّ كانط يرى أنّ الأحكام التي يعطيها الذوق ليست أحكاما معرفية، ومن ثمة فهي بالضرورة ليست أحكاما منطقية، إنها أحكام جمالية تتحدّد على نحو ذاتي. الحكم الذوقي كما يراه كانط لا يتم من خلال المعرفة بل من خلال الخيال والوجدان وهو يرتبط بشكل جوهري بالمتعة والألم.
إننا نجد ثنائية الفن والجمال عند الشكلانيين أيضا فبالنسبة لهؤلاء، فإنّ ما نقدره في الفن هو الجمال، لكن من الصعب جدا تحديد تعريف موحد لهذا المصطلح، فغالبا ما يرتبط الجمال بالحدس، وإذا كان الحدس مغرقا في الذاتية، فإنّ هذا يعيق جميع أنواع النقاشات ويوصل إلى عدم الاتفاق، ويجعل من الصعوبة فهم سبب موافقتنا أو عدم موافقتنا حول أي الأشياء جميلة. فإذا استمعنا مع غيرنا إلى أعمال بيتهوفن، فإنّه ليس لدينا ما نقوله سوى أنها جميلة. وإذا لم يوافق شخص على قولنا فلا يوجد نقاش أو حوار لأننا وصلنا إلى حكمنا بالجمال من خلال حدسنا أمّا الآخر فلم يستطع. وهي الفكرة التي رآها زيادة عن الشكلانيين الفيلسوف الألماني غادامير (1900-2002)، فهو يشير إلى أنّ الجميل لا يمكن أن يستمد ولا أن يبرهن عليه من خلال مبدأ شامل أو عام، كما أنّ قضايا التذوق في رأيه لا يمكن الحديث عنها من خلال مفاهيم الحجة والبرهان.

مـــــاذا بــــعــد هــــذه الــتــفــســــــيرات؟
إنّ السؤال المثار عندنا هو: لماذا نرى قيمة في العمل الفني؟ بنوع من الاستخلاص والإيجاز لما سبق، نجد أننا قدمنا عدة تفسيرات. المتعة التي يمنحها لنا الفن، قدرته على صنع تمثيلات تجدد وتنعش الطريقة التي نرى ونسمع من خلالها، وفي نظرية أخرى تحدثنا عن خواص الفن التعبيرية التي ندخل من خلالها إلى خبرات وانفعالات الآخرين المتخيلين، كما تناولنا ربط الفن بالجمال. وأي محاولة لاختزال قيمة الفن إلى أحد هذه التفسيرات من المتعذر الدفاع عنها، ومع ذلك يبقى جميعها على قدر كبير من الأهمية.
كما وجدنا أيضا أنّ صعوبة الاقتناع بأي تفسير من التفسيرات السابقة حول سبب تقديرنا للفن يقودنا إلى رؤيا شكلانية ذاتية للقيمة الإستطيقية. وربما ما يغري في هذا الموقف جزئيا كونه يحررنا من أي التزام لتبرير أحكامنا الإستطيقية.
إنّ هذه التصورات والتفسيرات يجب ألا يستبعد أحدها الآخر لأنها توجد معا في كل عمل فني وأصيل، فهناك قدر من المحاكاة في كل عمل فني لجانب من جوانب الطبيعة بكل ما تشتمل عليه من مكونات مختلفة والفن هو شكل من أشكال التعبير عن وجهة نظر الفنان المعرفية والانفعالية حول الذات والعالم، كما أنه من الواضح أنّ أي محاولة لاستبعاد الجمال عن الفن يشوّه الإبداع تشويها يخرجه من سياقه العام وقد حدث في بعض المجتمعات لأسباب اجتماعية ودينية أن حدث شيء من الاختزال للفن، فاستبعد منه العنصر التشبيهي الخاص بالمحاكاة ثم استبعد منه أيضا العنصر التعبيري الخاص بالانفعالات وأبقي على العنصر الذهني أو التجريدي ومن ثمة أصبح الفن نوعا من النمطية أو التكرار لموتيفات لا تتجدّد فسقط الفن في وهدة الخمود والتكرار والتخلف.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024