من ذخائر الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح..

شـذرات مـن “منطق العرب في علوم اللّسان”..

 لقد اعتمد النحاة العرب الأولون في بحوثهم الخاصة باللّغة العربية على وسائل تحليلية، وهي وسائل تعتمد بالضرورة على العقل. إلا أنّ لتدخّل العقل أكثر من طريقة، وإن كان يتفق جميع البشر من العلماء خاصة، في الاعتماد على أصول عقلية أولية، فإنّ طريقة النظر لتحصيل العلم تختلف من قوم إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، ولكلّ قوم وكلّ زمان تصوّر ومنظور أو أكثر من منظور.
وقد لاحظ المؤرّخون للعلوم والصنائع، أنّ بعض الحضارات في القديم تميّزت عن غيرها بمعرفتها لطرائق علمية مارستها بالفعل منذ زمان قديم، كالمصريين والبابليين والفينيقيين والهنود وأهل الصين واليونان والمايا في أمريكا والعرب وغيرهم. وقد توسّع المؤرخون للعلوم في إحصاء كلّ الوسائل العقلية التي عرفت واستخدمت عبر العصور، وحلّلوها تحليلا دقيقا، وأثبتوا كيفية تطوّرها على مرّ الزمان، والغريب والعجيب بالنسبة لعلوم اللّسان عند العرب، أن يكون وأن لا يزال ميدانا محفوفا بالأوهام الخطيرة إلى هذه الساعة، حتى عند أبرز هؤلاء المؤرّخين.
ثم كثيرا ما نسمع العلماء العرب في زماننا يشكون من هذا الذي يسمونه غموضا فيما يخص القياس النحوي. وقد حاولوا أن يوضّحوا ما غمض من ذلك. فمن معتقدين اقتباس العرب لكلّ هذه الوسائل من غيرهم، وأكثرهم يصرّحون أنّ الذي اقتبسوه هو من منطق أرسطو، وقصر ذلك بعضهم على النحاة البصريين، ومن معتقدين أنه منطق أصيل، إلا أنّهم يجعلونه مطابقا من أكثر جوانبه لما استخدمه الفقهاء، فالمعروف عن النحاة العرب أنّهم توصّلوا إلى إثبات مجموعة من الأصول استخرجوها بالنظر في كلام العرب، وحاولوا أن يفسّروا ما خرج عنها كما صرحوا عن ذلك هم بأنفسهم وباصطلاحهم الخاص. فما كانت ماهية هذا النظر وإلى أيّ نوع من الطرائق العقلية كان ينتمي؟
وسنتساءل فيما يلي عن سبب بقاء الغموض حول الوسائل العقلية التي لجأ إليها النحاة القدامي، وسبب الضعف الذي تتصف به الكثير من الافتراضات والآراء التي ظهرت حول هذه الوسائل في زماننا.
وقبل أن نشرع في الإجابة عن هذه الأسئلة، نودّ أن ننبّه على شيئين من الآن: فالأول يخصّ ما نعنيه بالمنطق في دراستنا. فالذي نعنيه بهذه التسمية يحصر المعنى الضيق والمعنى الواسع، فأما الأول فهو ما يتعلق بالحدّ والاستدلال وصحتهما، وكيفية صوغهما لهذا الغرض. وأما المعنى الواسع فهو مجموع الوسائل العقلية التي يعتمد عليها البحث العلمي سواء كان ذلك في طرائق المشاهدة وحصر المعطيات وتصنيفها وإحصائها وتصحيحها، أو في طرائق التحليل للمعطيات واستنباط الأصول وإثبات العلاقات بين الوحدات اللّغوية وطرائق اكتشافها وغير ذلك ممّا يغطي كلّ الجانب العقلي للبحوث الرامية إلى تحصيل العلم ويدخل ذلك في إبستمولوجية العلوم.
أما الشئ الثاني فيخصّ العلماء العرب وعلوم اللسان..
إنّ العلماء العرب في علوم اللّسان الذين سنتطرق إلى أعمالهم، هم المبدعون منهم، أيّ العلماء الذين أسّسوا هذه العلوم وفروعها وتم نموها على أيديهم، وذلك من القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع، وبعض من جاء بعدهم من العباقرة. ثم إنّ ما تطرق إليه أحد هؤلاء النحاة المبدعين وهو سيبويه في كتابه وهو أقدم ما وصل إلينا من كتبهم وأوفاها، وبالتالي يحتوي على ما عالجه أصحابه وأتباعه هو أساسا الجانب النحوي الصرفي الصوتي للّغة ولم يكن هذا الميدان مع ذلك مجرد نحو وصرف؛ لأنّه لم يهمل أبدا الجانب الدلالي لأنواع الأبنية والتراكيب العربية من جهة، ومن جهة أخرى، المعاني الخارجة عن دلالة اللفظ كدلالة الحال وغيرها (ومن ذلك الخلف). ثم اعتد سيبويه كثيرا بظواهر الاستعمال ومنها نظريته في ظواهر التخاطب (Pragmatics) وكلّ هذا يدخل في الميدان الواسع المسمى بعلوم اللّسان، وإن لم يغط جميع ما تحتوي عليه شعبه مثل البلاغة والمعجميات والعروض وغير ذلك.
لماذا ما تزال الوسائل العقلية التي استعملت في النحو القديم محفوفة بالغموض عند بعضهم؟!
الحق أنّ هناك أكثر من سبب، فأهم شيء في ذلك، يكمن في انحصار البحث في تاريخ النحو في دائرة الاختصاصيين في اللّغة، سواء كان ذلك في اللّسانيات الحديثة من غربيين وعرب أم في اللّغة العربية من عرب ومستشرقين. وهو أمر طبيعي أن يلجأ إلى ذلك أهل اللغة، إلا أنّ اللّغوي أو اللّساني قد يحتاج في ذلك، بل وفي البحث الخاص باللّغة، أن يعرف إلى أين وصل في تطوّره، المنطق الذي يعتمد عليه العلماء وخاصة إلى ما صار إليه اليوم؛ لأنّ اقتصار الباحث أيّا كان في معرفته للمنطق العلمي على منطق أرسطو وحده، قد يمنعه من فهم كلّ منطق لا یمتّ بسبب إلى أرسطو.
هذا، والذي منع أيضا الباحثين من الاهتمام أو الالتفات على الأقلّ إلى ما كان يجري في القديم من البحوث العلمية من الناحية الإبستمولوجية، هو الاقتناع المطلق بتطور العلوم وارتقائها على خط مستقيم لا يكون فيه سبق أبدا حسب ما يقرره المذهب الإيجابي الذي أسّسه أكوست كونت (A.Comte) الفيلسوف الفرنسي وكل من اتبعه ابتداء من القرن التاسع عشر الميلادي إلى عهد قريب. وذلك بإقرارهم الأطوار الثلاثة لتطور الفكر الإنساني عندهم، الديني والميتافيزيقي والإيجابي. فلا يتصور، على هذا، أن يكون ظهر أيّ مفهوم علمي حقيقي، حسب زعمهم، قبل العصر الإيجابي وهو عصر النهضة الأوروبية. وهذا من أبعد الأقوال إلى الحقيقة.
وفيما يخص العلوم عند العرب وكلّ من سبقهم أيضا، فإنّ هناك اعتقادا أعم وأشمل ممّا يقوله الإيجابيون. فإنّ أكثر من أرّخ للعلوم من الغربيين منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، قد أجمعوا على أنّ ما ظهر من دراسات عند العرب وفي الحضارات غير الإغريقية، هي كلّها لغرض انتفاعي وعملي غير نظري، والعلم يتصف عند هؤلاء المؤرخين بأنه نظري في حدّ ذاته، لا يريد أصحابه من وراء أبحاثهم إلا اكتشاف الحقائق والمزيد من العلم. أما تطبيق ما يتحصّلون عليه منه فهو شيء عارض. فالاستغلال للعلم مستقل عنه. ويمثلون لذلك بما ظهر عند اليونانيين مثل الفلسفة، فهي بحث وتدبّر فكري لا تطبيق فيه بخلاف ما ظهر عند المصريين والبابليين. وقد يؤكد هذا، في الظاهر، ما صرح به العلماء العرب في منافع العلوم. قال محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب الجبر والمقابلة: «ألفت من كتاب الجبر والمقابلة مختصرا حاصرا للطيف الحساب وجليله، لما يلزم الناس من حاجة إليه في موازينهم ووصاياهم وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم وفي جميع ما يتعاملون به من مساحة الأرضي وكري الأنهار والهندسة وغير ذلك».
ويبدو من هذا الكلام أنّ كلّ ما جاء به الخوارزمي هو للمنفعة لا غير. وليس الأمر كذلك، لأنه جاء حقيقة بما لم يجئ به كلّ من سبقه من الرياضيين من بابليين ويونانيين، فقد أبدع طرائق جبرية أصيلة لم يسبق إليها؛ لأنّها تشمل ما لا يحصى من المسائل. فهذا التعميم الذي هو أساس لكلّ نظرية علمية لم ير مثله عند كلّ من سبقه. وقس على ذلك جميع ما صدر من العلماء العرب. فالذي يجعل النظر والبحث علما حقيقيا ليس الغرض الأول من تأسيسه، بل ما تتصف به الوسائل التجريبية المستعملة فيه من النجاعة في الاكتشاف والوسائل العقلية من دقة الصياغة وقوّتها. فأما ما يخص البحث العلمي في اللّغة، فلا يمكن أن يكون إلا بهذه الصفة. وكلّ ما يوضع من طرائق وما يؤلف لتدريس اللّغة من كتب نحوية، فليس هي النحو كعلم، بل هي الجانب الاستثماري والتطبيقي له، وأحسن مثال للدراسة العلمية للّغة العربية هو كتاب سيبويه بما يحتوي عليه من تحليلات علمية بحتة، وتفاسير لا تصلح إكساب الملكة اللّغوية، بل لابد أن يبحث العلماء المختصون من جهة أخرى، عن الطريقة الناجعة لاستثمار ما أثبته من البنى والمجاري اللّغوية.
أما بالنسبة إلى ما قاله الإيجابيون من عدم سبق الحضارات القديمة لما جاءت به الحضارة الغربية بأيّ نظرية أو أيّ طريقة تحليلية، فيكفي للردّ على هذا الادّعاء أن تذكر ما اخترعه الغربيون من جديد في الرياضيات، وكان قد ظهر منذ قرون عند العلماء العرب، وذلك مثل ما حقّقه علماء الجبر بعد الخوارزمي من التطوير بتطبيق الحساب على الجبر إجراء العمليات على العناصر المجهولة لا على المعلومة فقط. كما جمعوا أيضا بين الهندسة والجبر وأدّى ذلك إلى ابتكارات كثيرة هامة. وذلك قبل المدرسة الإيطالية في القرن السادس العشر، وقبل إثبات فرما (Fermat) لنظريته المشهورة، وقبل أن يحرّر فيات الفرنسي المعروف (F Viete) طريقة عامة لحلّ المعادلات من الدرجة الثالثة فما فوق، ومثل ذلك كثير جدا في جميع العلوم التي عرفت قبل القرن السادس عشر. كما سبق الخليل بن أحمد ما ابتكره الغربيون في التحليل التركيبي (Combinatory Analysis) ويعرف ذلك كلّ اختصاصي من العرب في الرياضيات أو اللسانيات وهو ما يسمى الآن في الرياضيات الحديثة بالـ «عاملي» (Factorial) وهو طريقة حساب خاصة لجأ إليها الخليل في تحليله للكلم العربي. وأهم ما فيه هو ما يسميه العلماء بعد سيبويه بـ «قسمة التركيب أي الـ Combinatory. وهو مفهوم يعبّر عنه الخليل باصطلاحه الخاص بــ “وجوه التصرف”. وهو الآن من أهم أبواب الرياضيات. قال ليبنيس العالم الفيلسوف المشهور بأنّ للرياضيات لبنة أساسية هي الـ Combinatory وهو أول من سماها بهذا اللفظ. وللخليل بن أحمد الفضل الكبير فيما قام به من الاعتماد على هذه القسمة الرياضية وغيرها، كما سنراه في تحليله للغة العربية. وربما سبقه إلى التمثيل بمعناه العلمي (Simulation) لبنى الكلم عبد الله بن أبي إسحاق باستعمال حروف ف/ عال/ كرموز للمتغيرات، وهو اكتشاف عظيم.
ويوجد مثل هذه الأشياء ما يُعدّ بالعشرات فيما وضعه النحاة الأولون، ويعتبر جديدًا أو حديثا بالنسبة للمنهجية العلمية عامة واللسانيات الحديثة خاصة على الرغم من ظهورها قبل اليوم بأكثر من ألف سنة.
ثم إنّ التصوّر العربي للّغة في زمان الخليل بن أحمد وعند هذا العالم الجليل خاصة، كان يتميز عن كلّ ما سبقه من التصوّرات والنظريات عند الأمم الأخرى، تميّزًا كبيرًا، وسنرى أنه يتميّز عن الكثير ممّا جاءت به العلوم اللّسانية الحديثة من حيث التصوّر وطرق التحليل. وهوبذلك في حاجة مسيسة إلى أن يوضح ويبين.
وممّا ترتّب على الاعتداد بالمذهب الإيجابي، هو ما حصل من الاتباع المطلق لكلّ ما يقوله أتباعه من اللسانيين ونخص بالذكر أصحاب البنوية الأوروبية (Structuralism) التي يدّعي أصحابها أنّ اللّغات لم تدرس دراسة علمية حقيقية قبل هذا العصر. ولم يتخذ العلماء هذا الاتجاه العلمي الصرف الذي نشاهده اليوم إلا في بداية القرن العشرين بظهور سوسور ودعوته إلى البحث في اللّغة في ذاتها ومن أجلها والامتناع، بالتالي من النظرة المعيارية، ومن جهة أخرى، التمسّك بالوصف ليس غير، فسنرى أنّهم قصروا الدراسة العلمية في وصف الظواهر اللّغوية كظواهر فقط.
ونذكر ههنا صنفًا آخر ممّن كان له تصوّر خاطئ عن حقيقة النحو العربي، وعن دوره، وأكثرهم ينتمون إلى هذه النزعة الوصفية، وتبعهم في ذلك الكثير من المتخصّصين في تعليم اللّغة العربية. فهم ممّن ينكر اللّجوء إلى المنطق في تحليل اللّغة، بدعوى أنّها لا تخضع للمنطق.
وعلى هذا الأساس، أنكروا على النحاة العرب اعتمادهم على المنطق، وكلّهم يعتقد أنّه منطق أرسطو، وقد تأثروا في ذلك باتجاه قديم للّسانيين الغربيين وهو يقول بأنّ اللّغة في أغلب دواليبها غير منطقية؛ لأنّها وسيلة للتعبير عن أشياء كثيرة لا تمتّ بسبب إلى العقل كالعواطف وجميع الخوالج النفسية. وهذا نوع من السفسطة: فإن كانت اللّغة غير منطقية في ذاتها، وفي هذا أيضا مجازفة، فإنّ وسائل تحليلها يجب أن تكون كلّها منطقية أيّ تابعة للعقل وخاضعة الطريقة تحليلية عقلية. ثم الذي يعنيه بعض من يقول بأنّ اللّغة غير منطقية، وهو قول توارثوه عن الفلاسفة اليونانيين (الرواقيين) هو أنّها غير منسجمة وليست لها قواعد مطردة. وقد ردّ على ذلك العلماء العرب بأنّ لها اطرادًا قد تخرج عنه بعض العناصر العوامل خارجة عنها كالتخفيف من الجهود المبذولة في التخاطب، وكالتوهّم الذي يصبح قاعدة بانتشاره وغير ذلك. وتناولوا ذلك بالدراسة وبرعوا فيه.
وقد يكون السبب في ذلك أيضا التخليط بين نوعين من الدراسة العلمية المحضة والتعليمية الاكتسابية، فالأولى هي ممارسة للبحث العلمي في ميدان خاص، والثانية هي تعلّم واكتساب المهارة معينة. وهما ميدانان مختلفان والذي يربطهما هو محاولة استثمار التعليم لما يأتي به البحث العلمي في اللّغة، أيّ النحو العلمي من جديد المعلومات. ويتم ذلك بتكييف هذه المعلومات الجديدة تقتضيه قوانين التعليم للّغات. فما يبحث عنه ويحاول إثباته الباحث شيء وما يقوم به معلم اللّغة من عمل لإكساب المهارة في اللّغة شيء آخر. فهذا النحو التعليمي، وهو جزء ممّا يستعين به المعلم في عمله، يجب أن تتحسّن طرائقه باستغلال ما يكتشفه النحو العلمي، وهو جزء هام من علوم اللّسان. ولا فرق في ذلك بين علم الفيزياء في مختلف فروعها كالصوت والكهرباء والإلكترونيك وغير ذلك وما تستفيده مختلف الصناعات من كلّ ما تكتشفه وتثبته هذه العلوم من قوانين علمية ممّا لم يُعرف بعد أو لم يدقّق.
وتعليم اللّغات هو صناعة، فعندما تجري بحوث في كيفية استثمار ما يثبته علم اللّسان تصبح هذه الصناعة علما تطبيقيا هو علم (Language Teaching أو Didactique des Langues) تعليم اللّغات، واتهم سيبويه خاصة بأنّه عقد النحو، فهذا عند كلّ عاقل بمنزلة من يعيب الباحث في الرياضيات من المستوى العالي بأنّه لا يفهمه من يريد أن يتعلّم الحساب تعلّما عمليّا وشتان ما بينهما: فذلك علم وبحث علمي، وهذا اكتساب مهارة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024