هكذا استغـلّ وولفغانغ آيزر المقاربة الظّاهراتية

فعــل “القـراءة” في أوضح تجليّاتـه

ترجمة: فاطمة الذهبي

 تؤكّد النظرية الظاهراتية للفن بصورة كبيرة على مثالية وجوب أخذ المرء بعين الاعتبار، عند تقييم العمل الأدبي، ليس النص الفعلي حسب، بل الأفعال المتضمنة في الاستجابة لذلك النص، بقدر متساو، لذا، يواجه رومان انغاردن (Roman Ingarden) بنية (Structure) النص الأدبي ( Literary Text) بالطرق الممكن إدراكه بها. ويعطي النص في حد ذاته صورا مخططة مختلفة يسلط من خلالها الضوء على مادة العمل، إلا أن التسليط الفعلي للضوء هو فعل العيانية .

 وإذا كان الأمر كذلك، إذن يكون العمل الأدبي، قطبان يمكن أن نطلق على أحدهما تسمية الفني والآخر الجمالي: يشير مصطلح الفني إلى النص الذي يضعه المؤلف، ويشير مصطلح الجمالي إلى الإدراك/الفهم الذي ينجزه القارىء. ونفهم من هذه القطبية حقيقة الحيلولة دون تصيير العمل الأدبي إلى مع إدراك النص، ولكن يجب أن يقع في الواقع، في منتصف الطريق الواقع بينهما. ويكون العمل في حقيقته أكثر من نص، نظراً لتبني، النص، الحياة، حين إدراكه، فضلاً عن ذلك، يكون الإدراك مستقلاً عموماً عن الميل الفردي للقارئ رغم تأثير نماذج مختلفة للنص، بالمقابل، على هذا الأمر. متطابق مع النص تماماً أو في الراقي، فتيته أكثر ويحقق التقارب الحاصل بين النص والقارئ وجود العمل الأدبي، ولا يمكن تسليط الضوء بدقة على هذا التقارب، ولكن يجب أن يبقى فعلي دوماً، طالما أنه لا يتطابق مع واقع النص أو الميل الفردي للقارىء.
إنّها واقعية العمل تلك التي تسبب ظهور طبيعته الديناميكية، ويكون هذا بالمقابل، شرطاً مسبقاً للتأثيرات التي يحدثها العمل. ويضع القارىء العمل في حالة حركة، نظراً لاستعماله منظورات (Perspectives) يمنحها النص له لربط النماذج والصور المخططة مع بعضها البعض، وينتج عن هذه السيرورة الحقيقة تنبيه الأجوبة داخل نفسه (منبه استجابة).
بناءً على ذلك، تدفع القراءة العمل الأدبي إلى کشف طابعه الديناميكي الموروث، وتتوضح حقيقة أن هذا الاكتشاف ليس بالجديد من الإحالات التي تم القيام بها حتى في الأيام الأولى من الرواية. يقول لورنس ستيرن (Laurence Sterne) في رواية ( Tristam Shandy) لا يوجد هناك المؤلف الذي يفهم الحدود المقبولة للياقة والتربية الجيدة، الذي يفترض الاعتقاد بكل ذلك: إن أصدق احترام تمنحه لفهم القارىء، هو تقسيم هذا الأمر على نحو حميم وترك له شيء ما يتخيله في دوره، ولك أيضاً. وأنا أمنحه بدوري حالات المديح من هذا النوع على نحو باق، وأعمل له ما بوسعي لجعل خياله مشغولاً مثل خيالي.
إن مغزى مفهوم ستيرن حول النص الأدبي هو تصييره إلى شيء ما شبيه بالساحة التي يلعب فيها كل من القارىء والمؤلف لعبة الخيال. ولو سمع القارىء كل القصة ولم يترك له شيء يتخيله، إذن لن يدخل خياله الساحة، وستكون النتيجة الضجر الذي سيظهر حتمياً، عند وضع كل شيء واضح وبسيط أمامنا، لذا، يتوجب تصور النص الأدبي بمثل تلك الطريقة التي تشغل خيال القارىء بمهمة صنع الأشياء لنفسه، نظراً لتصيير القراءة إلى لذة حينما تكون نشطة وخلافة. وأما أن يتوسع النص كثيراً أو لا يتوسع كثيراً في سيرورة الإبداع هذه، لذا يمكننا قول أن الضجر والتوتر المفرط يشكلان الحدود التي سيترك القارىء، خارج نطاقها، ساحة اللعب.
وقد سلّطت ملاحظة فرجينيا وولف (Virginia woolf) في دراستها جين أوستن (Jane Austan) الضوء على المدى الذي ينبه فيه الجزء الشفوي للنص مشاركة القارىء الخلقية؛ لذا تكون جين أوستن سيدة العاطفة الأكثر عمقاً مما تبدو عليه فهي تنبهنا لعرض ما هو موجود هناك. وما تعرضه بوضوح، هو خليط عبثي، إلا أنه مؤلف من شيء ما يتوسع في ذهن القارىء وموهوب بالشكل الأكثر ديمومة لمشاهد الحياة التافهة ظاهرياً. ويكون التأكيد على شخصية الممثل دائماً. وتجعلنا انعطافات والتواءات “الحوار” في حالة تشوق شديدة. وينقسم اهتمامنا بين اللحظة الحالية والمستقبل. وتكمن عظمة كل عناصر جين أوستن في هذه القصة الرئيسية غير المنجزة والأدنى مرتبة.
وتنجذب الأوجه الشفوية للمشاهد التافهة والحوار اللامنطوق بصورة واضحة، ضمن الانعطافات والالتواءات لقارئ إلى الفعل، ولكن تقوده أيضاً إلى التضليل في كثير من الموجزات التي توحي بها حالات ى التضليل، فلك إلي تبيني الواقع الخاص بها، وتؤثر هذه نظراً لإحياء خيال القارىء لها. وهكذا، تبدأ السيرورة الديناميكية الكلية: يفرض النص المكتوب حدوداً على المضامين الشفوية لمنعها من التصيير إلى مهمة وضبابية جداً، ولكن يصنع خيال القارئ في الوقت ذاته، هذه المضامين، واضعاً حالة معينة إزاء الخلفية التي تمنحها دلالة  أكبر من تلك التي تمتلكها في حد ذاتها. وتتخذ المشاهد التافهة فجأة، بهذه الطريقة، شكل الموجزات بالمقابل على نتيجة جزء النص المكتوب، الحياة الدائم. ولم تكن هناك تسمية لما يؤسس هذا الشكل تاركين إياه مفسر في النص، رغم أنه في الواقع، النتيجة النهائية لتفاعل النص والقارئ.
إنّ السؤال الذي يطرح الآن هو إلى أي مدى يمكن وصف مثل هذه السيرة على نحو ملائم يفوض التحليل الظاهراتي نفسه لهذا الغرض. ولاسيما، طالما أن الملاحظات المتفرقة إلى حد ما والمصاغة حول علم نفس القراءة حتى اليوم، تميل أساساً إلى أن تكون تحليلية نفسية ولهذا السبب تكون محصورة ببرهة المثاليات المقررة المثاليات سلفاً حول اللاوعي.
الملاحظات النفسية الجديرة بالاعتبار، وبوسعنا دراسة الطريقة التي تؤثر بها الجمل المتعاقبة على بعضها البعض، بوصفها نقطة البداية لتحليل الظاهراتي. وهي ذات أهمية خاصة في النصوص الأدبية في ضوء حقيقة عدم تطابقها مع أي واقع موضوعي خارج نفسها. ويبني العالم الذي تقدمه النصوص الأدبية مما أطلق انكاردن عليه تسمية متلازمات الجملة القصدية : ويبرز عالم خاص في التحليل النهائي، مع أجزاء مركبة مقررة بهذه الطريقة أو تلك، التباينات التي تحدث ضمن هذه الأجزاء - كل هذا بوصفه متلازمة قصدية خالصة لمركب الجمل. وسأطلق تسمية العالم المعروض في العمل على الحاصل الكلي لمتلازمات الجملة القصدية المتعاقبة، لو شكل هذا المركب، العمل الأدبي بصورة نهائية.
ولا يشاهد القارئ هذا العالم، على نحو شبيه بالفلم حيث تكون الجمل أجزاء مركبة طالما أنها تصوغ العبارات، أو الادعاءات أو الملاحظات، أو تنقل المعلومات، وتؤسس بناءً على ذلك منظورات مختلفة في النص. إلا أنها تبقى أجزاء مركبة حسب ولا وتكون حاصل جمع النص ذاته وتكشف المتلازمات القصدية الارتباطات الدقيقة التي تصير من الناحية الفردية إلى أقل عيانية من العبارات والادعاءات والملاحظات حتى لو بينت معناها الهادف والفعلي من خلال تفاعل متلازماتها.
كيف يتصور المرء إذن الارتباط بين المتلازمات؟ إنه يشير إلى تلك النقاط التي يتمكن القارئ عندها من تسلق معنى النص. وعليه قبول منظورات مفترضة معينة، إلا أنه يدفعها إلى التفاعل الحتمي عند القيام بذلك. وتكون العبارات المصاغة أو المعلومات المنقولة في الجملة مشروطة سلفاً، بمعنى أكيد، حينما يتحدث انغاردن حول متلازمات الجملة القصدية في الأدب: لا تتألف الجملة من العبارة بصورة مفردة - التي ستصير إلى عبثية، رغم كل شيء، نظراً لتمكن المرء من صياغة العبارات حول الأشياء الموجودة حسب - ولكنه يهدف إلى شيء ما خارج حدود الذي يقوله فعلاً. وتطبق هذه الحالة على كل الجمل في الأعمال الأدبية، ويحقق هدفها المشترك بتفاعل هذه الجمل. وهذا ما يمنحها خصيصتها الخاصة في النصوص الأدبية. وتكون أدلة حول شيء ما قادم يتنبأ بنيته محتواها المحدد، بوصفها ما ال قادمة فتبا بنيته محتواها المحدد عبارات وملاحظات وممونات المعلومات وإلخ. وتنفخ الحياة في السيرورة التي ينبثق منها المحتوى الفعلي للنص ذاته. وقد قال هوسيرل ذات مرة حينما وصف الوعي الداخلي للزمن: تلهم كل سيرورة بناءة أصلاً بالمقاصد المسبقة التي تبنى وتجمع ما هو قادم في حد ذاته، وإرجاعه إلى الإثمار.
ويحتاج النص الأدبي، في رجوعه هذا إلى الإثمار، إلى خيال القارئ الذي يمنح شكلا لتفاعل المتلازمات التي تنبأتها سلسلة الجمل في البنية. ويجذب قول هوسيرل انتباهنا للنقطة التي أدت الدور الذي هو ليس بغير المهم في سيرورة القراءة. ولا تعمل الجمل الفردية للتضليل في ما هو قادم حسب، بل تبنى أيضاً التوقع في هذا الصدد. ويسمي هوسيرل هذا التوقع المقاصد المسبقة”. ولن يكون تفاعل هذه المتلازمات تحقيقاً للتوقع بقدر ما تكون تعديلاً مستمراً له نظراً لتصيير هذه البنية إلى خصيصة مميزة لكل متلازمات الجملة الحقيقية، لهذا السبب. وإذا تحققت إذن، ستكون مثل هذه النصوص محددة بفردانية توقع معين، ونادراً ما تحقق التوقعات في النصوص الأدبية السؤال الحتمي القائل ما المفترض أن يحقق مثل هذا القصد. ونحن نشعر وعلى نحو قوي جداً بتصيير أي تأثير إثباتي، مثل ذلك الذي نطلبه من النصوص التفسيرية إلى نقص في النص الأدبي، حينما نميل إلى الموضوعات التي تعني أنها موجودة. وكلما كان تشخيص أو إثبات النص للتوقع الذي أثاره بصورة أولية أكبر، كلما أصبحنا واعين أكثر بغرضه التعليمي، لذا، بوسعنا، وفي أحسن الأحوال قبول أو رفض الفرضية المفروضة علينا. ويدفعنا الوضوح الحقيقي لمثل هذه النصوص إلى تحرير أنفسنا من مآزقها في أكثر الأحيان، ولكن لا تتطور المتلازمات الجميلة للنصوص الأدبية بصورة عامة بهذه الطريقة المتصلبة، نظراً لميل التوقعات التي تثيرها إلى تجاوز بعضها البعض بمثل تلك الطريقة التي تعدل بها باستمرار بقراءة المرء لها. وبوسع المرء تبسيط ذلك من خلال قول كل متلازمة جميلة قصدية تفتح لم يغير تماماً، بالجمل اللاحقة. وسيكون لتعديلها اللاحق تأثيرها ارتجاعياً (retrospective effect) على ما قرأ سلفاً، في الوقت الذي تشير فيه هذه التوقعات الاهتمام بما هو قادم ويكون لهذا التعديل الآن دلالة مختلفة عن تلك الوقت الذي امتلكها في لحظة القراءة.
هناك احتمال إثارته ثانية ووضعه إزاء خلفية مختلفة نتيجة تمكن القارئ من تطوير الارتباطات غير القابلة للتنبؤ حتى الآن. وليس بوسع الذاكرة المثارة افتراض شكلها الأصلي ثانية، لأن هذا يعني تطابق الذاكرة والإدراك، والذي هو ليست كذلك على نحو ظاهري. وتسلط الخلفية الجديدة الضوء على الأوجه الجديدة لما أحلناه إلى الذاكرة، وتلقي هذه بالمقابل، ضوءها، على الخلفية الجديدة مثيرة بذلك التوقعات الأكثر تعقيداً. لذا، يدفع القارىء النص إلى كشف تعددية ارتباطه القوي عند تأسيسه هذه العلاقات المتبادلة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وتكون هذه الارتباطات نتيجة عمل عقل القارئ على المادة الأولية للنص، مع أنها ليست النص نفسه نظراً لتألف هذا النص مع الجمل العبارات، والمعلومات وإلخ.
في وقت القراءة..هذا هو سبب شعور القارئ باشتراكه في الأحداث التي تبدو واقعية له، حتى لو التي تبدو واقعية كانت بعيدة عن واقعه في الحقيقة وتصير حقيقة إمكانية تأثير قراء مختلفين تماماً بواقع نص معين على نحو مختلف، إلى دليل كبير حول الدرجة التي تحول بها النصوص الأدبية القراءة إلى سيرورة خلفية تتخطى حدود إدراك ما هو مكتوب حسب وينشط النص الأدبي ملكاتنا العقلية ممكنا إيانا من رسم العالم الذي يقدمه ثانية: وتكون نتيجة هذا النشاط الإبداعي ما أطلقنا عليه تسمية البعد (dimension) الحقيقي للنص، الذي يمنحه واقعه الخاص. ولا يكون هذا البعد الحقيقي، النص نفسه، ولا يصير إلى الخيال القارئ: إنه قدوم النص والخيال.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19463

العدد 19463

الإثنين 06 ماي 2024
العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024