“الدّعاية” في الحـرب عـلى فلسـطين

كيف خسر الكيان الصهيوني سرديّته؟

د. باسم الطويسي

استراتيجيات “الهاسبرا”

منذ دخول الحرب الصهيونية على قطاع غزّة شهرها الثالث، تكشف التطوّرات عن حالة مفارقة في الروايات الإعلامية للأحداث: فالحرب بدأت بهجوم دعائي غير مسبوق خلق تأييدا عالميا كبيرا للرواية الصهيونية، ثم أخذت الدعاية الصهيونية تخسر هذه الحرب في معظم أنحاء العالم، وتحديدا في الغرب. وفي الوقت الذي استمر فيه دعم العديد من الحكومات الغربية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية للحرب الصهيونية وتأييدها. أخذت اتجاهات الرأي العام في أنحاء كثيرة من العالم تشهد تحوّلات جوهرية لمصلحة الرواية الفلسطينية.

منذ زمن طويل، قيل إنّ “الحرب تبدأ بالكلمات وتستمر بالطلقات والكلمات وتنتهي بالكلمات”، وبين الكلام والرصاص تشكل الدّعاية السياسية والعسكرية أداة فاعلة للحروب المعاصرة، وقد ارتبطت الدعاية والحرب النفسية حديثا بقوّة وسائل الإعلام وتأثيرها أساسا، وشهد العالم المعاصر مراحل كبرى في تطوّر استخدام الدّعاية والحرب النفسية في إخضاع العدو وتحطيم إرادته منذ الحرب العالمية الأولى التي اكتشفت فيها أهمية الدعاية وقوّتها، والحرب العالمية الثانية التي مثلت مختبراً كبيراً للعديد من الأفكار والأساليب الدعائية. ثم الحرب الباردة التي نحت إلى استخدام أدوات سباق القوى الناعمة في التأثير وإدارة الإدراك والمعتقدات. في حين شكلت حروب الولايات المتحدة على العراق ساحة أخرى لتطور أساليب الدعاية والحرب الإعلامية. وقيل في حرب الخليج الثانية 1990 - 1991 إنّها أول حرب يصنع فيها الانتصار على شاشات التلفزيون، حتى إنّ التلفزيون قد حوّل الحرب آنذاك إلى دراما وطنية مثيرة. ومن دون شكّ تشكّل الحرب الصهيونية – الفلسطينية 2023 مرحلة مختلفة وجديدة في الدعاية والحرب النفسية.
تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن سؤالين أساسيين، هما: كيف تراجعت قوّة السرد الدعائي الصهيوني في الحرب على غزّة مقابل تعاظم قوة السرد المؤيد للرواية الفلسطينية؟ وما أسباب هذا التراجع؟ ولعلّه من المفيد الإشارة إلى أنّ هذه الورقة لا تسعى إلى تحليل آثار الدعاية الإعلامية بأبعادها السياسية والعسكرية، بقدر ما تسعى إلى تحليل المحتوى الكيفي للرسائل التي شكّلت الروايات والأساليب التي حاولت بناء التصوّر العالمي للصراع والحرب.

قوّة “الـهـاسـبرا” علـى المحـكّ

وصلت أخبار الهجوم الفلسطيني، في فجر 7 أكتوبر 2023، على القوات الصهيونية ومستوطنات شمال غزّة إلى العالم، في شكل هجوم دعائي صهيوني غير مسبوق، استخدم فيه الكيان كلّ ذخيرته الدعائية التقليدية وأنتج أطروحات وأساليب دعائية جديدة.
لقد مرت الحملات الدعائية الصهيونية بثلاث مراحل خلال الشهرين الأولين من هذه الحرب. ففي المرحلة الأولى، شكّل الهجوم الدعائي الأول الرد المباشر في محاولة لتفسير ما حدث في فجر 7 أكتوبر، وخلق إجماعا عالميا حول الرواية الصهيونية. ثم انتقلت الدعاية الصهيونية في المرحلة الثانية إلى تبرير هجومها الجوي المتوحّش وحربها التي خلّفت نحو عشرين ألف شهيد في اليوم الخامس والسبعين من الحرب، وهو ما وصف عالميا بالإبادة الجماعية، وأدّى إلى تدمير نحو 60 في المئة من البنى التحتية في قطاع غزّة. وفي المرحلة الثالثة، انتقلت الدعاية الصهيونية إلى تبرير عمليات التهجير القسري والبحث عن بناء تصوّر للنصر.
استخدم الكيان الصهيوني في دعايته الموجّهة إلى العالم أدوات إعلامية واتصالية متعدّدة أبرزها تصميم حملات العلاقات العامة القائمة على الحرب، التي اشتملت على إغراق شبكات التواصل الاجتماعي بالمنتجات الدعائية القاسية والمشحونة بالانفعالات والعواطف، وحملات الاتصال المستدام مع وسائل الإعلام العالمية الكبرى. فضلاً عن حشد عشرات الصحافيين والمراسلين في الجانب الصهيوني من القتال. ولاحقا، أقلت عشرات الصحافيين في الناقلات العسكرية، وذلك في مواقع التوغّل البري من شمال غزّة. يضاف إلى ذلك الحملات الدبلوماسية العامة الرسمية التي تسعى إلى تحقيق أهداف دعائية مباشرة وغير مباشرة وأبرز أمثلتها سلسلة (الزيارات التضامنية) التي قام بها رؤساء دول ودبلوماسيون لتقديم التأييد للحرب الصهيونية، التي تتابعت في المراحل اللاحقة بسلسلة أخرى من زيارات المشاهير من الكتاب والفنانين ورجال الأعمال: إذ طوّرت الوكالة الصهيونية المتخصّصة في هذه الحملات برنامج زيارات لهذه الشخصيات يشمل ما يسمى بلدات “غلاف غزّة” التي تعرّضت للهجوم الفلسطيني.
نفّذت وزارة الخارجية الصهيونية وشبكة المؤسّسات والوحدات التي تمثل “ماكنة” الدعاية الصهيونية المعروفة بـ«الهاسبرا” حملات دعائية مبكّرة على شبكات التواصل الاجتماعي. وهذه الحملات ليست جديدة، فقد استخدمت في العديد من حروب هذا القرن، لكن الجديد في الحملة الصهيونية هو الزخم غير المسبوق والدفع مقابل الانتشار. لقد دفع الكيان أموالا مقابل ترويج عشرات الإعلانات والصور والفيديوهات، تشتمل على مشاهد وحشية ومشحونة بانفعالات زعمت أنّها وقعت في يوم 7 أكتوبر. بدأت الحملة على منصة “إكس” وموقع “يوتيوب”، ثم انتقلت إلى سائر المنصات. وفي الأسبوع الأول من الحرب، عرض الكيان الصهيوني 30 إعلانا ممولاً على منصة إكس، جرى توجيهها أساسا إلى المجتمعات الأوروبية عموما، وبريطانيا والولايات المتحدة خصوصا. وفي موقع يوتيوب، أصدرت وزارة الخارجية الصهيونية أكثر من 75 إعلانا مختلفا. بما في ذلك بعض الإعلانات المصوّرة على نحو خاص. وقد جرى توجيهها إلى مشاهدين في الدول الغربية بلغات متعدّدة.
وصوّرت الإعلانات المقاومة الفلسطينية على أنّها “جماعات إرهابية شريرة”، على غرار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وأظهرت أنواعاً مختلفة من الانتهاكات، بما في ذلك صور مروّعة، من بينها صورة امرأة هامدة في شاحنة صغيرة، مع شعارات مثل “لقد هزم العالم داعش. العالم سيهزم حماس”، إضافة إلى سلسلة فيديوهات تدمج مشاهد إعدامات اقترفتها داعش في مشاهد تدعي أنّها متعلّقة بـ«حماس” ومقاتلين فلسطينيين.
وفي وقت كان الكيان الصهيوني يغرق الإنترنت بمنتجاته الدعائية في الأسابيع الأولى من الحرب، أدّت الغارات الجوية الانتقامية التي شنّها الصهاينة إلى تدمير البنية التحتية للاتصالات في غزّة ما ترك الملايين في حالة مشابهة لانقطاع كامل عن شبكات الاتصالات وعن الإنترنت. وقد كرر الكيان الصهيوني ما مارسه في حربي 2008/ 2014 ضمن استراتيجية السيطرة على المعلومات، والإنترنت خاصة، لتحديد جدول أعمال وسائل الإعلام. واستخدمت المعلومات بفاعلية للحفاظ على خياراتها الاستراتيجية. وفي الوقت نفسه، قامت وزارة الخارجية الصهيونية بحملة لصق منشورات وصور للصهاينة الأسرى الذين يعتقد أنّهم محتجزون رهائن لدى حماس. وأنتج مكتب الناطق الرسمي للجيش الصهيوني فيلما دعائيا عنوانه “شاهد على مجزرة 7 أكتوبر”
 مدته 47 دقيقة. وقد أصبح جزءا أساسيا على جدران المدن في أنحاء متعدّدة من العالم.
العرض الدعائي الذي يشاهده ضيوف الكيان من رؤساء ومسؤولين سياسيين، وحتى من الشخصيات الأخرى. مثل رجل الأعمال إيلون ماسك الذي شاهده ضمن برنامج زيارته، والفيلم عبارة عن مقاطع فيديو جمعت من أجهزة الهواتف، ومن منصة تيك توك”، وهو يقدّم صور جثث مشوّهة ومتفحّمة ومصابة بالرصاص، يزعم منتجو الفيلم أنّها جمعت من ساحة معركة الهجوم الفلسطيني.
وزعم منتجو الفيلم أنّ الفضل في توفير هذه اللقطات يعود إلى حدّ بعيد، إلى “حماس” نفسها؛ لأنّ المقاتلين تركوا خلفهم مجموعة كبيرة من الأدلة المرئية والصوتية من كاميرات الجسم والهواتف المحمولة، جنبا إلى جنب مع اللقطات التي جرى العثور عليها في أجهزة مماثلة من الضحايا الصهاينة وأوائل المستجيبين وكذلك الكاميرات الأمنية. ورغم أنّ الفيلم واجه انتقادات بأنه يحتوي على مقاطع زائفة وأخرى أعيد إنتاجها.
جرى عرض الفيلم، أول مرة، في 23 أكتوبر 2023 أمام مجموعة من المراسلين الصحافيين. ومن ثم أعضاء الكنيست. وفي الأسابيع التالية، جرى تنظيم المزيد من العروض في مدن عديدة منها فيلادلفيا، ونيويورك، ولندن، وقد شملت أعضاء في المنظمات اليهودية، وصحافيين وسياسيين. وعرض الفيلم في متحف التسامح في لوس أنجلوس، وشهد العرض سياسيون وصحافيون ونجوم سينما ورجال أعمال، وغيرهم، بينما كانت توجد مظاهرة احتجاجية ضدّ الفيلم خارج المتحف.
تعرض قناة مكتب الناطق الرسمي للجيش الصهيوني على يوتيوب عشرات الفيديوهات الدعائية: فإلى جانب الفيديوهات التي تهدف إلى تشويه صورة المقاومة ووصفها بالإرهاب والتوحّش، ثمة العديد من الفيديوهات التي تحاول إضفاء طابع الإنسانية على أفراد الجيش الصهيوني، من المقاتلين في غزّة أو الأسرى. من خلال عرض مشاهد لهم في منازلهم، وفي غرف نومهم، ومع أطفالهم. وركزت هذه الفيديوهات على صور المجنّدات الصهيونيات، محاولة إظهار قوّتهنّ من جهة، وإنسانيتهنّ من جهة أخرى.
أما وزارة شؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية الصهيونية، فقد نظمت حملات دعائية ضمن جهود تمرير الرواية الصهيونية، متمثلة في عشرات الفيديوهات المنتجة بحرفية عالية، يعرض بعضها قصص منازل وأسر صهيونية يزعم أنّ المقاتلين الفلسطينيين هاجموها يوم 7 أكتوبر، فضلاً عن شهادات الناجين من الحفل الموسيقى “نوفا” الذي أقيم في إحدى بلدات شمال غزّة، وشهادات لفتيات صهيونيات مشاركات في الحفل، اضطررن إلى الاختباء في حاوية قمامة بعد هجوم مسلّحين، خوفا من الرصاص، بحسب وصفهنّ.
ويبدو أنّ الحملات الدعائية الصهيونية من هذا النوع، تحرص على تقديم شهادات الأشخاص من جنسيات متعدّدة، حتى من العرب. وفي الجزء الخاص بالأسرى الصهاينة لدى المقاومة، يعرض الموقع فيديو لـ«بابا نويل” يتفقّد فرحًا رسائل أطفال من مختلف أنحاء العالم، من بينها رسالة وصلته من طفلة في الكيان الصهيوني تبلغه فيها ما حدث في 7 أكتوبر: “عزيزي سانتا أنا أكتب لك أول مرة في 7 أكتوبر، جاء الأشرار إلى منزلنا أصابوا أمي وأختي الصغيرة، واختطفوا أبي وأصبحت أنا وحيدة. أتمنى أن تساعدني في إعادة والدي إلى البيت”. وحينئذ تنهمر دموع سانتا”!!.
تعني الهاسبرا الشرح أو التفسير، وهي فكرة صهيونية بدأت تبرز في الثمانينيات من خلال تأهيل قيادات جديدة للدبلوماسية العامة الصهيونية، ومحاولة الدمج بين الدعاية الصهيونية ومفاهيم الدبلوماسية العامة والتسويق السياسي التي أخذت تظهر بقوّة في ذلك الوقت. تاريخيا، استخدم ثيودور هرتزل مفهوم الدعاية في المؤتمر الصهيوني عام 1899، وطلب من الصهاينة الانخراط في الدعاية للترويج لمشروعه، وكان مصطلح “الدعاية” ما زال ذا معنى محايد ومع الاستخدام الواسع لهذا المصطلح في الحرب العالمية الثانية. وتحديدا من خلال الاستخدام النازي له على نحو إيجابي، والاستخدام السوفياتي له إيجابيا أيضا في الحرب الباردة، أخذ المصطلح في الأدبيات الغربية “معنى شريرا”، وبات يعني الاتصال القائم على التضليل والتلاعب.
وفي هذا السياق، اخترع الصهاينة الهاسبرا، وأعاد الصهيوني بنيامين نتنياهو تأسيس عقيدة الهاسبرا على أطروحة مفادها أنّ الكيان “ليس في حاجة إلى أن يغير نفسه أو يحسن سياساته، بل إنّه في حاجة إلى أن يشرح نفسه على نحو أفضل.
استفادت الهاسبرا المعاصرة بقوّة من البيئة الإعلامية الرقمية، على الرغم من أنّ الهاسبرا نفسها تتضمّن جهودا لعرقلة الوصول إلى المعلومات من خلال مجموعة واسعة من التقنيات، وعلى الرغم من أنها تضفي الشرعية على بعض التصورات، وتنزع الشرعية عن بعضها الآخر. وهي تعتمد على الروايات لتعزيز الصور النمطية عن طريق فرض تسميات إيجابية، أو تحقيرية، على المعلومات ومصادرها”. وقد أصبحت الهاسبرا في العقود الأخيرة جهازا ضخما تنتمي إليه وكالات حكومية عديدة، وبرامج داخلية، وأخرى خارجية منها مكتب رئيس الوزراء، ووزارة الخارجية، ووحدة الناطق الرسمي باسم الجيش الصهيوني، والوكالة اليهودية، ووزارة السياحة، إلى جانب العديد من البرامج من بينها ما يقدّمه برنامج الزمالة والمنح إلى الطلبة لدراسة الاتصال والعلوم ذات الصلة.
في عام 2009 بعد حربي 2006 و 2008، أدرك الكيان أنّ صورته في العالم قد لحقها بعض الضرر. فقامت منظمة “مشروع الكيان”، وهي مجموعة مقرها واشنطن، بإجراء دراسة موسّعة تجيب عن سؤال: هو: “كيف يعيد الكيان دمج صورته في وسائل الإعلام الرئيسة؟”، إضافة إلى وثيقة عنوانها “قاموس مشروع الكيان الصهيوني”، الذي وضعه الخبير الجمهوري فرانك لونتز، وهو قاموس موجّه إلى القادة الصهاينة والمدافعين عن الكيان. ومن خلال العودة إلى هذا القاموس، نلاحظ كيفية استخدامه من جانب القادة السياسيين الصهاينة والأمريكيين، على حدّ سواء، في هذه الحرب.
من دون شكّ شكّلت الحرب الصهيونية على غزّة 2023، وقبلها عملية “طوفان الأقصى”، اختبارًا وتحديا كبيرا وغير مسبوق لاستراتيجيات الهاسبرا، وسيؤرخ لها أنّها عرفت تحوّلا في العديد من أطروحاتها وأساليبها.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19464

العدد 19464

الثلاثاء 07 ماي 2024
العدد 19463

العدد 19463

الإثنين 06 ماي 2024
العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024