“الدّعاية” في الحرب عـلى فلـسطـين

كيف خسـر الكيان الصهـيـوني سرديــّتـه؟

د. باسم الطويسي

 الأطروحات والأساليب الدعائية

سيؤرّخ للدعاية الصهيونية في حرب غزّة 2023 بأنّها الأضخم في تاريخ الكيان الصهيوني، والأشدّ كثافة وقدرة على الانتشار، وأنّها الموجة الدعائية التي شهدت أكثر المحاولات لتطوير أطروحات وأساليب جديدة. في الوقت الذي سيؤرّخ لها بأنّها موجة دعائية، تهاوت بسرعة، إذ وثّقت وسائل إعلام عالمية أدلّة عديدة على فشل هذه الدعاية، رغم ما حقّقته من نجاح في بداية الحرب، وهو ما يطرح أسئلة مرتبطة بالتحوّلات القادمة في المشروع الدعائي الصهيوني الذي كان له إسهام كبير في نشأة الكيان واستمراره.


ساعدت عوامل عديدة في نجاح الدعاية الصهيونية في الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، منها عامل أول متمثل في السرد الدعائي المباشر الذي أغرق الكيان الصهيوني فيه العالم بما حدث في  أكتوبر على أنّه صدمة كبرى، وقد ساعد هذا العامل في خلق حالة الاصطفاف الدولي الكبيرة خلف الكيان. وأوجد المسوغ السياسي والأخلاقي لعملية “السيوف الحديدية”، ومنها عامل ثان ساعد من خلال الاستثمار الكبير في البيئة الرقمية.
ولعلّ هذه الحرب ستكون مرحلة مهمة في تاريخ الحملات الدعائية القائمة على الاتصال الرقمي إذ كانت القيادات الصهيونية مدركة لأهمية خلق الانطباع الأولي السريع في العالم. فاستثمرت في الإعلانات المدفوعة على الشبكات الاجتماعية بقيمة قدرت بنحو 60 مليون دولار في الشهر الأول من الحرب، ومنها أيضا عامل ثالث متمثل في الاستثمار في صورة الجيش الصهيوني في العالم: فقد صوّرت الدعاية الصهيونية العملية العسكرية بأنّها “عملية احترافية ومخطط لها بدقّة، ولا تستهدف المدنيين، وأنّ الجيش الصهيوني قادر على تحقيق أهدافه في الدفاع عن النفس ضمن معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي”. وسنرى لاحقا كيف أنّ هذه العوامل الثلاثة تحوّلت إلى عوامل مساهمة في تراجع الدعاية الصهيونية ودحرها.
في مرحلة نجاح الدعاية الصهيونية في الأسابيع الأولى من الحرب ركّزت هذه الدعاية على مجموعة من الأطروحات التي عبرت عنها بالرسائل والمضامين الدعائية. وسنلاحظ أنّ هذه الأطروحات مركبة بنائيا: أيّ إنّ كلا منها يخدم الآخر، وهي في أغلبها أصول تاريخية للدعاية الصهيونية، وأبرزها ما يلي:

دور “الضحية”

قام تاريخ الدعاية الصهيونية على أطروحة “الضحية” فهم، بحسب هذا الزعم، ضحية معاداة السامية، وضحية الهولوكوست، وضحية الكراهية، وضحية الإرهاب والعرب. وعلى مدى أكثر من سبعة عقود ونصف العقد، خاض الفلسطينيون والصهاينة حربا أخرى على سردية الضحية: من يقنع العالم بأنّه هو الضحية؟
أثبتت أبحاث عديدة حقيقة مفادها أنّ المكانة في العلاقات الدولية المعاصرة لم تعد تقتصر على القوة المادية والعسكرية والاقتصادية، بل قد تأتي من القدرة على المساهمة في السلام، أو القدرة على منح التقدير والشرف لأولئك الذين يظهرون التعاطف تجاه الغرباء البعيدين المحتاجين، من خلال المساعدات الخارجية والمساعدات الإنسانية، أو الذين يستضيفون اللاجئين، ولعلّ أحد مصادر المكانة الجديدة في العلاقات الدولية. لمن يعترف بهم أنّهم “ضحايا”، ما يلي:
«إنّ الذين يوصفون بأنّهم ضحايا يمكنهم أن يتوقّعوا قدرا أعظم من الموارد، والتعاطف، والدعم بكلّ أشكاله، حيث إنّ الاعتراف يكون هذا الطرف ضحية قد يعيد إحساسهم بالقوّة وصورتهم الأخلاقية”.
وباعتبار اليهود هم “الضحية المثالية” بالنسبة إلى الغرب، منذ قرون طويلة وصولاً إلى المحرقة، فقد استحقّوا تعاطف الغرب، وترجم هذا التعاطف إلى أشكال جديدة من دعم غير مشروط، واستعداد لتحمل التكلفة التاريخية والتعويض.
مع الصعود السياسي لحزب الليكود في عام 1977، أخذ الكيان الصهيوني يحتفي بدور الضحية أكثر فأكثر، وأصبح رؤساء الحكومات الصهيونية يردّدون “العالم ضدّنا”. ومع الموجة الراهنة لليمين الصهيوني، حرصت الاتصالات السياسية والثقافية الصهيونية على التماهي في دور الضحية.
يرى باحثون أنّ الكيان الصهيوني روّج بوعي ذاتي لصفات الضحية من أجل المساعدة في تنمية الروابط مع يهود العالم، وتوليد دعم دبلوماسي ومالي واستراتيجي وسياسي عالمي أكبر.
لقد جاء التصوّر الصهيوني لهجوم 7 أكتوبر على نحو مطابق لأطروحة الضحية، بل كان فرصة قفز من خلالها الكيان مجدّدا إلى حضن العالم للمزيد من التعاطف والدعم.
وضمن عنوان الضحية، قام الخطاب الدعائي الصهيوني على تقديم مئات الرسائل عبر الكلمات والصور والمشاهد التي تخلق التعاطف وتدعو إلى تذكير العالم بأنّ الكيان الصهيوني ما يزال الضحية الكبرى في العالم.

”شيطنة” الفلسطينيين

في مقابل صورة الكيان الصهيوني الضحية، تتطلّب الدعاية الصورة المناقضة للآخر الفلسطيني أنّه “الإرهابي” و«القاتل” و«عدوّ الحضارة الإنسانية”، و«مغتصب النساء”، و«المتوحّش”، و«قاطع رقاب الأطفال”.. إلخ. وكلّ ذلك مصحوب بمنتجات دعائية من أفلام وفيديوهات وصور مروّعة.
وعلى الرغم من أنّ شيطنة الفلسطينيين، ووصفهم بالمخربين ثم الإرهابيين، ليسا وليدي هذه الحرب، فإنّ ما يلاحظ في هذه الحرب إعادة صياغة هذه الأطروحة الدعائية ضمن عنوان الشرّ المطلق، من أجل الإيحاء أنّ الفلسطينيين “شرّ بذاتهم”، وأنّ هذا الشرّ لا بداية له ولا نهاية، وأنه لا يمكن وقف هذا الشرّ إلا بمحاربته والقضاء عليه.
في هذا السياق، سعت الدعاية الصهيونية المتحالفة مع الإعلام الغربي، وفق هذه الأطروحة المركزية، إلى نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، ويلاحظ كيف أنّ القادة السياسيين استخدموا لغة تحقير للفلسطيني، بدءا من قول وزير الدفاع الصهيوني يواف غالانت في وصف الفلسطينيين: “إنّنا نحارب حيوانات بشرية”، إلى دعوة وزير التراث الصهيوني عميداي إلياهو الذي صرح في حديث إذاعي باحتمالية قصف غزّة بقنبلة نووية، وهو ما يعني نزع الإنسانية؛ كما تفيد الخبرات التاريخية مقدّمة لتبرير الإبادة الجماعية مثلما حدث مع اليهود أنفسهم في المحرقة، ومثلما حدث في رواندا عام 1994.
إنّ الوصف القاسي للعدو وإنزاله مكانة متدنية وشيطنة أفعاله تجعل معاناته مستحقّة، أو مسألة لا تستحق المبالاة، بل تستحق الاحتفاء بها ؛ لأنّه ينظر إليه على أنّه تهديد للمجتمع.
لقد اشتدت شيطنة الفلسطينيين في الشهر الأول من الحرب على نحو غير مسبوق، وجرى ربطهم بالنازية والمحرقة، وبالقاعدة، ثم بداعش وامتدت هذه الموجة الدعائية إلى وسائل إعلام، ومجالات رئيسة. ومؤسّسات فاعلة في المجال العام بالولايات المتحدة ودول غربية، وأدّت إلى وقوع ضحايا واستهداف أطفال وشباب فلسطينيين”.

أسطورة التفوّق الصهيوني

تكمل هذه الأطروحة الثالثة، في بناء السرد الدعائي الصهيوني، أطروحة الضحية مقابل أطروحة الشيطان والإرهابي الشرير، ومفادها أنّ الضحية متفوّق أخلاقيا وإنسانيا. إنّ بناء مفهوم الإنسانية ونشره منح أهمية متزايدة للمعاناة وتخفيفها، وممارسة التعاطف باعتباره أسمى عمل للإنسانية ما جعل معاناة الآخرين، مسألة ذات أهمية عالمية، لكن في الدعاية الصهيونية تكون بعض المعاناة أهم من غيرها، ومعاناة البعض أهم من معاناة الآخرين. إنّ معاناة الكيان الصهيوني المستهدف يجب أن تكون أشدّ إيلاما وتأثيرا في العالم من معاناة الآخرين، مهما كبرت معاناتهم فالضحايا الصهاينة لهم تفاصيل وبيوت وعناوين، وهم آباء وأمهات لهم أطفال ومائدة يجتمعون حولها، وهؤلاء أطفال أبرياء حرموا من مستقبلهم، أو ما زالوا ينتظرون آباءهم. ونساء جميلات متفوّقات لهنّ قصص وأحلام، هكذا روت الدعاية الصهيونية للعالم معاناة ضحاياها، وربطت بين الضحية والأنسنة والتفوّق.
الأفراد الصهاينة يعكسون صورة الكيان في على إنسانيتهم وتفوّقهم، فقد أصبح الكيان القوّة العسكرية الكبرى في المنطقة، وعزّز علاقته الخاصة مع الولايات المتحدة، وانتصر في عدّة حروب. إلاّ أنّ الجيش الصهيوني سينفذ المهمة باحتراف وفي أسرع وقت وفي هذا السياق احتكر الأسلحة النووية، وانتقل من الفقر الاقتصادي إلى التفوّق الاقتصادي والتكنولوجي، وتتوّج هذه الدعاية هذه الصورة بالتفوّق الصهيوني الذي يطلب من ضمير العالم أن يطمئن عن حرص هذا الجيش الدائم على تقليل الآثار الجانبية للحرب التي تقع في كلّ عمل عسكري.

”شرعنة” جرائم الكيان

الأطروحة الرابعة التي تكمل هذا البناء الدعائي هي إضفاء الشرعية على كلّ ما يقوم به الكيان الصهيوني. إنّ الاعتراف بالمعاناة واعتبار ما حدث أنه خطأ يفتح مجالاً لتصنيف هذه الأخطاء على أنّها جرائم ويجري تصنيف المتضرّرين رسميا على أنّهم ضحايا، ويصبح من السهل الحصول على الاهتمام والإنصاف والتعويض ومعاقبة “الجناة”.
وفي هذا السياق، بنى الكيان مقولة “الدفاع عن النفس” لتبرير أعماله العسكرية والإبادة الجماعية والتهجير القسري فقد ردّد القادة الصهاينة: “إنّ الكيان لم يختر هذه الحرب، بل فرضت عليه، وهذه الدعاية ساهمت على نحو مخطط له في إضفاء شرعية ما على هذه الأعمال في المرحلة الأولى من الحرب، حينما حاولت وضع هذه الأعمال العسكرية في سياق القانون الدولي الإنساني.
أما الأساليب الرئيسة التي اتبعتها الدعاية الصهيونية في إيصال هذه الأطروحات، وما انطوت عليه من مضامين ورسائل، فأبرزها ما يلي:

التجزئة وإعادة بناء السياق

يبدو تكنيك التجزئة ونزع السياق في عشرات الأمثلة في عناوين الحرب مثلاً: هذه حرب حماس، وليست حرب المقاومة الفلسطينية، وهذه حرب على غزّة فقط، وهذه حرب بدأت في 7 أكتوبر وتلغي تاريخ الصراع.

 الإغراق والتركيز الإعلامي

يكون ذلك بأسلوب التضخيم والمبالغة في شكل جرعات إعلامية كبيرة ومركّزة متعلّقة بقضايا محدّدة في زمن قصير، وقد استخدم هذا الأسلوب بقوّة في أول الأسابيع الثلاثة من الحرب، وكانت له من دون شك، آثار مباشرة في التحكم في السرد، وفي بناء التصوّر حول الحرب، على الرغم من إظهار عدد كثير من مقاطع الفيديو والصور والتقارير مشاهد لقتل الفلسطينيين في غزّة، بمن فيهم الأطفال، ومشاهد انتهكت فيها نساؤهم، ومشاهد أخرى جرّدوا فيها من ملابسهم، إضافة إلى اعتقال الأبرياء من دون أيّ محاكمة على مدى تاريخ الاحتلال، وتدمير بيوت الفلسطينيين تدميرا منهجيا على أيدي المستوطنين الصهاينة على الأقلّ في العشرين عاما الأخيرة، ولكن لم تكن تلك الأحداث ذات أهمية إخبارية بالنسبة إلى وسائل الإعلام الغربية.
 

المشاغلة وبناء الأجندات المضادّة

يذهب هذا الأسلوب نحو الطريقة التي يمكّن الدعاية أن تعيد من خلالها تشكيل أجندة وسائل الإعلام وأولوياتها : أيّ خلق التحوّل في اهتمامات وسائل الإعلام، ثم الرأي العام. لقد حاولت الدعاية الصهيونية خلق اهتمامات جديدة لوسائل الإعلام كلّما ازداد التركيز على جرائم الحرب واستهداف المدنيين. ومنذ الحملة المبكّرة التي حاولت بناء تصوّر عالمي حول ما حدث في 7 أكتوبر، ثم تركيز الانتباه على المستشفيات، والزعم أنّ مراكز قيادات المقاومة تقع تحتها، حينما اشتدّ القصف وازدادت أعداد الضحايا المدنيين، صعّدت أجندة اليوم التالي (مرحلة ما بعد حماس). وأخيرا، ومع ازدياد خسائر الجيش الصهيوني في الحرب البرية، سرّبت لوسائل الإعلام خططها حول إغراق الأنفاق، وأصبحت هذه “القصة” تحتل الأولوية في أجندة الإعلام في الأسبوع العاشر من الحرب.

الهلع الأخلاقي

يرتبط الذعر الأخلاقي أو المعنوي بوسائل الإعلام باعتباره أسلوبا دعائيا شديد التركيز، وهو امتداد الاستخدام تقنيات دعائية مثل “كبش الفداء”، أو “مطاردة الساحرات”، التي استخدمت تاريخيا لتحقيق مصالح سياسية ودينية. لقد بقي الذعر الأخلاقي عبر التاريخ مصنعا بعناية من جهة مراكز نخبوية محدودة، وتضاعفت كثيرا قوّة الذعر الأخلاقي في بيئة الإعلام الرقمي.
واستخدمت الدعاية الصهيونية هذا الأسلوب بقوّة في حملتها الأولى عبر الصور والفيديوهات المروّعة التي زعمت أنّها “مجزرة ارتكبها المقاومون الفلسطينيون”، وكانت هذه الحملة مصمّمة لمخاطبة ضمير العالم وإنسانيته. وعلى الرغم من أنه لا يمكن إنكار وقوع ضحايا مدنيين في هذا الهجوم، وأنّ المقاومة قد ارتكبت بعض الأخطاء، فإنّ الحملة الدعائية وصلت إلى حدّ خلق حالة من الفزع والصدمة الأخلاقية، وهذا المثال سيقدّم مادة ضخمة لبحوث جديدة حول استخدام أسلوب الذعر الأخلاقي في الدعاية، وتحقيق المصالح السياسية في البيئة الرقمية.

الحلقة الثانية

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19464

العدد 19464

الثلاثاء 07 ماي 2024
العدد 19463

العدد 19463

الإثنين 06 ماي 2024
العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024