مستقبليات

مستقبـل العمـل.. مراجعـة قياسيـة للأدبيـات

ترجمة عومرية سلطاني

يعد مكان العمل (Workplace) جزءًا من المجتمع والاقتصاد اللذين ينتمي إليهما بالماهية. لقد سعت المنظمات في العقود القليلة الماضية، إلى اعتماد تغييرات أساسية في بناها وفي أساليب إدارتها ردا على التغير السريع الذي تشهده بيئة الأعمال. والأدبيات التي تُعنى بهذا الموضوع تحاول أن تقدم فهما أفضل للتغير في ثقافة مكان العمل بالتركيز على المبادرات المتنوعة التي اعتمدتها المنظمات في جهودها نحو التحوّل والتغير؛ منها إدارة الجودة الشاملة (Total Quality Management) وإعادة هندسة الأعمال Reengineering))، والتقليص من عدد مستويات التراتبية الهرمية وتمكين الموظفين، وتخفيض العمالة، وعمل الفريق (Teamwork)، وخدمة العملاء (Customer Service).

ولقد قدم نورثكات ووولينغ الحجج التجريبية الأولى عن التغيرات التي خضعت لها ممارسات العمل بسبب إقحام التقنيات الإلكترونية الدقيقة. ومع استهلال القرن الحادي والعشرين، أعادت التطورات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تشكيل مكان العمل الحديث تشكيلاً كاملا. وفي أعقاب تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19)، اجتذبت موضوعات الدور المنوط بمكان العمل، ومن ثم مستقبل العمل اهتمامًا كبيرًا لدى الباحثين والجمهور.
لكن الأدبيات الحالية عن التغير في مكان العمل تتناثر بين حقول أو فروع علمية مختلفة من دون أي روابط واضحة أو اتجاه عام يربط بينها. ومن ثم، تحاول هذه الدراسة تذليل الصعوبات التي يواجهها الباحثون والممارسون أثناء البحث في مستقبل العمل، بحيث تقدم لهم مراجعة للأدبيات الصادرة في الأكاديميا خلال العقود الثلاثة الماضية. ونعتبر أن هذه المراجعة للمستجدات التي عرفتها الأدبيات بشأن هذا الموضوع هي استجابة للدعوة إلى المساعدة في تقديم فهم أكثر دقة للقضايا الأساسية المتعلقة بالتغير الذي شهده مكان العمل وصلة ذلك بالمبادرات التي تعنى بدراسة موضوع “مستقبل العمل”.
لقد حددنا أكثر من اثنين وثلاثين عملا منشوراً ورائدًا في مجال مستقبل العمل تمتد على طول الأعوام الثمانية والعشرين الماضية، وخلصنا إلى أن البحث في موضوعات مكان العمل يرتبط بأربع فئات متميزة هي: العلاقات في مكان العمل، والتغير في مكان العمل والتنوع والمهارات الشخصية. وسنعمد إلى مراجعة كل فئة من هذه الفئات بالتفصيل؛ من أجل تعيين المساهمات الرئيسة لكل منها، ورسم إمكانات البحث في المستقبل.
بيد أن مراجعة الإنتاجات السابقة لا تكفي لتقديم وصف كامل لاتجاهات البحث الناشئة وتوجهاتها، لأن الدراسات الأحدث تحصل على عدد أقل من الاستشهادات. لذلك، لجأنا إلى التقييم اليدوي للمنشورات الحديثة خلال الفترة 2014-2020، وهو ما سمح لنا بأن نضع أيدينا على اتجاهات الأبحاث الناشئة المهمة مثل كوفيد - 19، وظهور العولمة الآلية والهجرة الدولية والتنوع وسنحدّد في هذه الدراسة الخطوط العريضة لهذه الاتجاهات الناشئة، ونلقي الضوء على المسارات المتوقعة للأبحاث المستقبلية.

العلاقات فـي مكان العمــل

يعمل الموظفون على نحو أفضل حين يحصلون على ما يدعم صحتهم الجسدية والعقلية، ويتمتعون بالأمن الوظيفي، ويحظون بإمكانية الوصول إلى عمليات التظلم المناسبة للتخفيف من مخاوفهم ويحصلون على دعم من الموجهين في مجال عملهم.

الرفـــاه:

إن دراسة الرفاه في العمل مجال بحثي متعدد التخصصات، بحيث يشمل فروعًا علمية تمتد من الاقتصاد وعلم النفس الصناعي والتنظيمي وصولا إلى الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. اجتذب الحفاظ على رفاهة الموظفين اهتماما كبيرا، ونشرت فيها مجموعة متزايدة من الأبحاث على المستويين الوطني والدولي. وتشير الأدبيات الحالية إلى أن غياب رفاهة الموظف ينتج منه تأثير سلبي في الأفراد، وفي المنظمات، وفي الدول القومية إضافة إلى ذلك، فإن تعيين طرائق الحفاظ على رفاهة الموظفين له أهمية متزايدة لفائدة مجموعة من الأطراف، سواء في سياق العمل أو خارجه.

انعــدام الأمــن

تتزايد الرهانات التي تواجهها المنظمات في أنحاء العالم جميعها؛ ما يؤول إلى زيادة انعدام الأمن الوظيفي. ويُعرف غرينهالغ وروزنبلات، في إحدى المقالات المبكرة والمهمة في هذا الاتجاه، انعدام الأمن الوظيفي بأنه “تصور المرء وجود تهديد محتمل للاستمرارية في وظيفته”. ثم يستكمل روزنبلات وروفيو  هذا التعريف بالإشارة إلى أن انعدام الأمن الوظيفي ينطوي على قلق عام بشأن الوجود المستقبلي للوظيفة”. ويقدم سينتيا لي وآخرون تقييما لمجموعة من العوامل التي تسهم في الأمن الوظيفي منها التصورات المفهومية والإجرائية لانعدام الأمن الوظيفي والسوابق والعواقب وملطفات الآثار الناتجة من انعدام الأمن الوظيفي والرؤى النظرية المختلفة المستخدمة لشرح العلاقة بين انعدام الأمن الوظيفي والمخرجات المختلفة؛ وأبعاد انعدام الأمن الوظيفي عبر المناطق والثقافات، وخلص إلى أن انعدام الأمن الوظيفي كان وسيظل مشكلة لصيقة بالتوظيف بالنظر إلى التغير الذي يشهده مكان العمل اليوم.

عمليــة التظلــم

ركزت الأبحاث التي أجريت في تسعينيات القرن العشرين، خاصة على فائدة عملية التظلم، لا سيما فيما يتعلق بالكيفية التي يمكن بها أن يحسن التعاون بين النقابات والإدارة.. وتمتزج النتائج بتأثيرات إيجابية مثل أكثر الحلول التي تتكرر ردا على الالتماسات ذات المستوى الأدنى، وأكثر قرارات التسوية تكرارًا، والآثار السلبية (مثل الارتفاع الحاد في معدلات الطعون والشكاوى). ويرى مالز وفولي بأن تحسين العلاقات في مكان العمل يحتاج إلى تطوير مقاربة نظمية شاملة، وتطبيق نظريات محددة في العلوم الاجتماعية على جوانب أضيق من عملية التظلم.

التوجيـه

يقترح دي فيليبي وأرثور أنّ الكفاءات الشخصية مثل المهارات التنظيمية تمثل أشكالاً متنوعة من المعرفة التي يمكن تطبيقها وتكييفها مع الفرص الوظيفية المتغيرة في مكان عمل يشهد تطورات مستمرة. ولاحظ دي ياناش وسوليفان، اعتمادًا على المقابلات النوعية التي أجرياها مع مديرين تنفيذيين، أن التوجيه صار وسيلة فعالة لتحقيق التغيير التنظيمي وميزة الموجهين أنهم يوفرون شبكة مهنية متنوعة ويمكن أن يساعدوا العمال المهنيين على الاستمرار في اكتساب المعرفة والكفاءات ذات الصلة، والتي يمكن استخدامها داخل المنظمة وعبر الحدود التنظيمية لتحقيق النجاح المهني والشخصي ويقدم المؤلفان أيضًا خمس استراتيجيات محدّدة لتأسيس علاقات نمو فعّالة وبناء شبكات مهنية ذكية.

التغــير فـي مكـان العمــل

ينتمي مكان العمل بطبيعته إلى المجتمع والاقتصاد حيث يوجد. ونتيجة لذلك، تتطور أماكن العمل باستمرار، وتتعرض لتغييرات معقدة ومتنوعة وتتأثر بنتائجها؛ إذ تسعى المنظمات، في ردة فعلها على بيئة الأعمال سريعة التغير، إلى إجراء تغييرات جوهرية على بناها وأساليب إدارتها. وتلقي الأدبيات الأكاديمية والتطبيقية الحالية الضوء على المبادرات المختلفة التي اعتمدتها المنظمات في جهودها نحو التحول، لا سيما مع ظهور العمل عن بعد.

تطــوّر مكــان العمل

استخدم هوغارت، في إحدى أولى الدراسات ضمن هذا الاتجاه من الأبحاث، مسح العلاقات الصناعية في مكان العمل لعام 1984، حتى وضع يده على التغيرات التي شهدتها مجالات العلاقات الاجتماعية والاقتصاد والتطورات التكنولوجية، بوصفها تشكل عوامل رئيسة دافعة نحو التغير في مكان العمل. وأجرى غرانبرغ وآخرون في دراستهم مسحا شمل الموظفين والمديرين التنفيذيين على حد سواء، وقدموا أربعة عوامل رئيسة هي المواقف الوظيفية، والمواقف التنظيمية، والعمل والأسرة، والصحة العقلية والبدنية. وشدّد المؤلفون على أنه ينبغي للمؤسسات أن تتحقق - على نحو دوري - من أنماط المواقف أو التدابير السلوكية على مدى فترة طويلة من الزمن، بغية إعادة تقييم مكان العمل الذي لا يفتأ يخضع لتطور مستمر.
وتفترض نظرية التمكين في مكان العمل التي وضعها كانتر، أن لظروف العمل التي تحظى بالتمكين تأثيرا إيجابيا في المواقف والسلوك التنظيمي. وقد درس فولكنر ولاشينغر العلاقة بين التمكين البنيوي والسيكولوجي في بيئة مكان العمل بالمستشفى. ورأى المؤلفان، بناءً على سلسلة من الدراسات السابقة، أن مخرجات عمل التمريض مثل فاعلية العمل والرضا الوظيفي، والالتزام التنظيمي، والثقة والاحترام التنظيميين، والعدالة التفاعلية، تعمل جميعها على تحسين تمكين الموظفين. وبحث أغاروال وسينغ في عدد من المبادرات (منها إدارة الجودة الشاملة، وإعادة هندسة الأعمال، والتقليص من عدد مستويات التراتبية الهرمية، وخفض الوظائف، وتمكين الموظفين وروح الفريق، وخدمة العملاء)، وخلصا إلى أن ثمّة تباينا تنظيميا في إطلاق التغيير الهادف والاستمرار فيه. وحديثًا، شدّد موشيري وسيمبسون على التأثيرات البالغة التي تحدثها تكنولوجيا الإعلام والاتصال في الأداء الفردي وأداء مكان العمل؛ إذ أبرزا الآثار الإيجابية للتكنولوجيا الجديدة في إنتاجية الشركة، وقد استخدما لذلك مسحا كنديا لأحد أماكن العمل والموظفين أجري في الفترة 1999-2003.
قد يكون التغير في مكان العمل أمرًا صعبا على النحو الذي أوضحه بيدو وهاردي وكوزاك في تحليل العلاقة بين المستثمرين الأجانب والنقابات العمالية في بولندا. ويوثق زاك، من خلال الإفادة من الإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية المتاحة، البنى التنظيمية والتوظيفية المتغيرة وما يصحبها من تحولات في مواقف الموظفين في بولندا. فمع زيادة نزع الطابع الجماعي في مكان العمل، يقترن تعزيز الفردانية بفردنة للمواقف وانعدام الثقة بالأشخاص الآخرين والبنى الاجتماعية. وتستكشف دراسات كثيرة الاستجابة التشريعية للتغير في مكان العمل. فعلى سبيل المثال، يحلل بيرد نظام العلاقات المتغيرة في مكان العمل في أستراليا، مركزا في دراسته على المرونة في إجازة الأمومة وإجازة الأبوة. وقد خلص إلى أن الحكومة تواجه ضغطًا كبيرًا في اتجاه تقديم الدعم الكافي لأماكن العمل التي تشهد تطورات متلاحقة (بسبب التوقعات الاجتماعية المتغيرة والضغط الديموغرافي على توفير العمالة، وإدارة الموارد البشرية في أستراليا).
ويعدّ التحليل الوظيفي جوهر ممارسات الموارد البشرية جميعها، ومن ثم فهو نشاط إداري حيوي لكل المنظمات. ومع ذلك، يشير سينغ  إلى أن المنافسة المتزايدة، ودورات حياة المنتج التي صارت أقصر، والابتكارات التكنولوجية السريعة، والطبيعة المتغيرة للبنى التنظيمية تعرض التحليل الوظيفي التقليدي للتساؤل. ويقدم سينغ إطار عمل استراتيجي للتحليل الوظيفي يأخذ في الاعتبار احتياجات مكان العمل المتغيرة. ويشير هذا الإطار إلى أن المؤسسات تحتاج إلى السماح بمرونة كبيرة في التحليل الوظيفي بغية التكيف مع التغيرات السريعة في مكان العمل اليوم.
وتشير الأبحاث، أيضًا، إلى أنه من المرجح أن تُستبدل وظائف العمل الروتينية بالتكنولوجيا الرقمية المتقدمة على مدى العقود القادمة ما سيسفر عن تدفقات بالغة من الآثار التي ستمس الموظفين والمديرين على حد سواء. ومن المرجح كذلك أن تصير ترتيبات العمل التعاوني أكثر شيوعًا، على النحو الذي حدده بوش - ستشيسما وآخرون.

العمـل عن بعـد

زاد التنوع والتطور في تكنولوجيا الاتصالات إلى حد أسفر عن تغييرات تنظيمية في مكان العمل منها إعادة النظر في البنى البيروقراطية الهرمية والتقليدية، وزيادة في ترتيبات العمل المرنة مثل العمل عن بعد، فإن لامركزية التوظيف يمكنها أن تقلص من الوقت المهدر في التنقل للعمل، وأن تحسن النتائج المرتبطة بمكان العمل. وقد أقحمت شركات كثيرة سياسات قائمة على الاتصالات السلكية واللاسلكية في أعقاب تفشي كوفيد - 19، بل إن بعض المنظمات جعلتها إلزامية. وأجرى باغلاي ودالتون إيلر وهارب مقابلات مع عاملين عن بعد في المحاسبة العامة، وزملائهم في الفريق غير العاملين عن بعد أيضًا، وأسفرت دراستهم عن تبصرات ثرية بشأن التأثير الذي ينتجه العمل عن بعد انطلاقا من منظورات متنوعة، كما أنهم يخبروننا عن أفضل الممارسات والرهانات المهمة التي تواجه مدرسي مهنة المحاسبة، ممن سينضمون إلى القوة العاملة في سياق يعرف انتشارًا متزايدًا للعمل عن بعد في مرحلة بعد كورونا.

التنوع

يزداد التنوع داخل أماكن العمل الحديثة من الناحية الإثنية، ومن ناحية التنوع الجندري. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال تحسين معاملة الموظفين المتنوعين في مكان العمل في حاجة إلى كثير من الجهد. كما يعد التمييز ضد الأكبر سنا على مستوى العالم مشكلة مستمرة؛ بسبب التراجع الحاد في المفاهيم التقليدية للتوظيف.

التنــوع فـي مكـان العمـل

منذ تسعينيات القرن العشرين، جذب التنوع في مكان العمل اهتمامًا متناميا في الأدبيات الخاصة بإدارة الموارد البشرية. وتوضح هذه الأدبيات أن المنظمات ينبغي لها الإفادة من التنوع في مكان العمل، وأن ثمة حاجة إلى تحسين طرائق التعامل مع القضايا العرقية والإثنية داخله. وخلص أمينو مامان إلى أن تفاعلات الموظفين المتنوعة تحدث بوساطة عوامل إما سياقية (Contextual) وإما موقفية (Situational) (مثل التواتر والقوة في مواقف المجموعة المهيمنة)، واستراتيجيات التفاعل، والعوامل التنظيمية (مثل السياسات الموجهة لإدارة التنوع). وكان مارتن آبشیرش قد استكشف آثار التوحيد الألماني في مستوى مكان العمل، وقد أشار إلى أن النقل المفاجئ للأنظمة القانونية والإدارية والمالية، إضافة إلى المفاوضة والمشاركة الجماعيتين تسببت كلها في تغير سريع في التنوع على مستوى مكان العمل.

التنــوع الجندري

يُعد التنوع الجندري من الموضوعات المهمة في الأدبيات. ويؤدي تغير التوقعات الاجتماعية والديموغرافية إلى الضغط على أماكن العمل ودفعها في اتجاه التكيف والابتكار، بحيث ينتهي الأمر في هذه الحالة إلى اعتماد المزيد من فرق المشروعات المتنوعة جندريا. وخلص روغلبرغ ورومري في بحثهما حول الميول الجندرية، ودورها المتعلق بالاختلافات الفردية من حيث التأثير في جودة القرار، إلى أن الفرق المكونة من الإناث تتفوق على فرق الذكور من حيث التماسك بين الأفراد وإكمال المهمات. في حين رأى باريت وموريس أن القيادات النسائية لديها القدرة على تعلم أدوار ريادة الأعمال. وأظهر نوماير وسانتوس أن لنسبة النساء والتفاعلات المتعددة بين أعضاء الفريق تأثيرًا إيجابيا في أداء الفريق، أما عدد الانقسامات في الفريق فهو ينعكس سلبيًا على أدائه. وتكتسي هذه النتائج أهمية بعيدة المدى في مشروعات ريادة الأعمال القائمة على الفريق، وكذا بالنسبة إلى النساء العاملات في مشروعات ريادة الأعمال التكنولوجية.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024