“النافخ”.. “المقطفة”..”راس الحانوت” و«منارة النبي”

القصبة تتهيأ لرمضان بعادات توارثتها الأجيال..

روائح من هنا وعطور من هناك تفوح من بيوت اختارت استباق الاحتفال برمضان الكريم، أياما قبل قدومه، إذ تعيش الجزائر، بمختلف مناطقها، خلال الأيام الجارية، أجواء خاصة للتحضير لشهر رمضان المبارك، وقد توارثت العائلات عادات مختلفة ما تزال طقوسها راسخة منذ عشرات ومئات السنين.

يشدّ انتباه المار من حي القصبة العريق بالعاصمة الجزائر، حركة غير مألوفة.. نساء يتنقّلن نحو أحد القصور بتلك الأزقة الضيقة، يحملن معهن أواني الفخّار المزخرفة بفسيفساء أندلسية في طريقهن نحو مقصدهن، حيث يجتمعن عند إحدى الجارات للتجهز لرمضان.
وتجتمع نساء العاصمة في الأحياء العريقة على الأسطح لتحضير ما يعرف بـ«راس الحانوت” أو ما يعرف في مناطق أخرى بـ«الفواح”، وهو خلطة توابل خاصة بالطبخ الجزائري، كما يحضّرن ما يعرف بـ«النّافخ”، وهو عبارة عن “فرن جمر يدوي” تجهزه النساء بأنفسهن.
يملأ “النّافخ” بالجمر لتشوى عليه الخضار للتحضير لما يعرف بـ«الحرور”، ويعرف في مناطق أخرى بـ«الحميس”، وفي مناطق ثالثة بـ«المدقوقة “.. وغيره والذي يعتبر أحد أبرز المقبلات بالمائدة الجزائرية.
تقول خالتي الزهرة: “نشوي الخضر على النّافخ الذي نحضّره بأيدينا لنتذكّر أصولنا، ورغم أننا نملك كل الإمكانات لنسهّل على أنفسنا عملية الشواء بطريقة عادية، فإننا لن نتخلى عن هذه العادة”، وتعتقد خالتي دوجة أن “النافخ يحمل إحدى قيم رمضان ويدل على الزّهد مهما كانت الرفاهية”.
وكانت المرأة العاصمية تستقبل شهر رمضان بما يسمى ‘’منارة النبي’’، وهي تشبه الفانوس تصنع يدويا في البيوت بسبب انعدامها في الأسواق، ويعتمد في صنعها على أخشاب بسيطة وورق مقوى وشراشف، تصنع على شكل أدراج من طابقين وتربط بخيوط من الجهتين، وتعلق أمام المدخل وتشعل بداخلها شمعة اعلانا عن مرور يوم من الصيام، بحسب ما كشفته لنا زهرة،  وهو التقليد الذي يمكن القول إنه اندثر، مشيرة إلى أن مائدة الافطار العاصمية مازالت لحدّ الآن تتميز بطبق الشوربة المحضر بـ’’المقطفة’’ أو ‘’الشعيريات’’ بمرق أحمر أو أبيض، وإلى جانبها يحضر البوراك المحضر بالمنزل بالعجينة أو بأوراق “الديول”.
وكانت “شربة المقطّفة” وما تزال الحاضرة الأولى في رمضان، بحيث تجتهد أنامل النسوة في تحضيرها قبيل رمضان بأيام، ويجمعن على أن نكهتها طيبة جدا وتضفي على طبق الشربة الرئيسي لذة ما بعدها لذة، وهي تختلف كثيرا على نكهة الفريك أو لسان الطير أو “الفارميسال” كأنواع يكثر استعمالها في كامل البيوت الجزائرية.
 وعن هذا، تروي خالتي فطيمة كيفية تحضير شربة المقطفة في دويرات القصبة، وتقول إن العجائز كن يجتمعن في وسط (الدويرة) ويتبادلن الأحاديث ويحضرن المقطّفة خصيصا لشهر رمضان المعظم، وهي تُحضّر بطريقة بسيطة ولا تحتاج إلا للدقيق والماء والملح، وتعرك قليلا باليد بعدها تقوم السيدات بصناعة الشربة باستعمال أصابعهن على أن توضع في غربال كي لا يفسد شكلها الأولي الدقيق جدا، بحيث تنتجها الأيادي الذهبية للنسوة، فتبدو كأنها من إنتاج آلة، وليس أنامل امرأة تتفنن في إمتاع أسرتها، وأضافت فطيمة أنها ما زالت تحضّر شربة المقطّفة قبل رمضان وتستعملها في الطبق الرئيسي “الشربة”، فتضفي عليه نكهة لا تضاهيها نكهة أخرى، كما تعمل على نقل الموروث إلى بناتها للاحتفاظ به والانتفاع به في حياتهن بإنتاج شربة “المقطفة” في بيوتهن، مثلهن مثل نساء زمان الماهرات اللواتي لا يعتمدن أبدا على ما يوجد في السوق.
وتتوارث الأسر بالجزائر عادات تتماشى وقناعات روحية ومجتمعية، ويحرص الجميع على توريثها للأجيال اللاحقة.. تقول دوجة: “من يتنكّر لأصوله ماذا ينتظر من حاضره؟”، ويعتقد من يمارس هذه الطقوس أنها تحاكي روحانيات الشهر الفضيل.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024