تشاء الصدف أن يدفن الراحل قايد صالح يومين قبل حلول الذكرى 41 لوفاة الراحل هواري بومدين، ليرسم الحدثان صورة متكاملة لرجلين صنديدين، صادقين وفيين، يجسدان حقيقة في نظر المواطن العادي، الإنسان الحر، الشجاع، الوفي والمخلص للوطن والشعب.
من هواري بومدين إلى ڤايد صالح قصة كاملة لرجلين من نفس الطينة الصافية، مستوفية كل شروط العرفان والتقدير، تبقى راسخة في أذهان الشعب الجزائري مخترقة الأجيال لتكون عنوانا بارزا في الذاكرة الجماعية، التي تختزن العواطف والمواقف في ميزان الوطنية الصادقة.
قواسم مشتركة تجمع البطلين، حتى وإن كان الفارق في السن، يمكن إيجازها في محطات كبرى تستحق الوقوف عند أبعادها التاريخية والإنسانية وتفكيك رموزها، لإدراك المعالم حتى لا نخطئ الطريق، في زمن تتداخل فيه التجاذبات وتختلط الميولات، ما يستوجب البقاء على درجة من التواصل مع الماضي لاستخلاص العبرة خاصة لمن يكون له شرف ما بعده شرف لقيادة بلد كالجزائر.
الرجلان من طينة جيل نوفمبر فقد التحقا بالثورة التحريرية قادمين من أعماق الشعب الفقير والمضطهد والمشرد بفعل الاحتلال الفرنسي الذي أول ما استهدف عند احتلال بلادنا، الإنسان، إما لإخضاعه وهو ما استعصى عليهم، أو اغتياله وإبادته وهو ما حصل فعلا طيلة قرن وثلاثين سنة أو إدماجه بوسائل الترغيب والترهيب.
مراجعة مسيرة ما أن اندلعت الثورة حتى حسم كل واحد منهما على غرار أبناء جيلهم من المخلصين الاختيار باللحاق مباشرة بالثورة وهي في سنواتها الأولى، ورفض الاثنان أداء الخدمة العسكرية تحت الاحتلال، مفضلين مثل أقرانهما من المتبصرين في عهد الاستعمار الغاشم الفرار من الخدمة الإجبارية التي استنزفت خيرة أبناء الجزائر، والالتحاق بصفوف الثورة المباركة.
هذه الميزة أعطت للمجاهد الفريق الراحل ڤايد صالح مثل العقيد الراحل قبله بومدين وغيرهما من الأطهار، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، مركزا رفيعا لدى الشعب الجزائري، الذي لا يبخل في رد العرفان، وهو ما عكسته تفاصيل الجنازة أمس فكانت بمثابة تلك التي عاشتها الجزائر ذات 27 ديسمبر 1978.
علامة مشتركة أخرى أنهما بقيا لسنوات طويلة كل حسب أجله، بلباس الجيش، مرابطين في المواقع المتقدمة، حتى وإن شغل الأول منصب رئيس الدولة، كما توليا رئاسة الأركان، وربطا علاقة وطيدة ومشهود لها مع الأفراد، وبالذات الجنود حيثما كانت مستويات القيادة.
أمر آخر أن الرجلين لم يقوما بزيارة إلى ارض البلد المحتل حتى وإن كانت فترات تميزت بالأريحية للبلاد وانفتاح على العالم، وهو موقف أصيل وطبيعي لرجال اكتووا بنار الاستعمار وعايشوا كيف كانت تقنبل القرى والمداشر وتحرق الأكواخ وتشرد العائلات وتنتهك حرمات حرائر الجزائر.
أمثال هذين الكبيرين بالقيم والخصال الحميدة والمواقف الواضحة، لم تصنع شخصيتهما رتب أو مراكز مسؤولية أو ممارسات سلطوية، وإنما كان كل ذلك الوقار والعرفان والاحترام من شعبهما، من جينات الأحرار كونه لم يحدث أن تنكر أحد لماضيه أو انسلخ عن هويته أو ركب موجة أهواء السلطان والحكم من أجل مآرب شخصية فاضحة أو خدمة زمرة خونة متخفين في ثوب وطنيين مزيف.
خصلة أخرى جديرة بالتوقف عندها أن حب الوطن والدفاع عنه في كل الظروف قناعة راسخة ومؤكدة عند البطلين، والوقوف إلى جانب الشعب والانتصار للمواطنين مسألة لا تقبل النقاش أو المساومة تحت أي إغراء كان حتى ولو كان الحكم، وكان للراحل ڤايد صالح في هذا الأمر بصمة لا تمحى حينما وقف في اللحظة المفصلية والحاسمة إلى جانب خيار الشعب الجزائري لما انتفض ضد العصابة التي أرادت الالتفاف على الشرعية، موقّعا قرارا حاسما بالالتزام بالدستور وإسقاط مشروع الخامسة والتمديد وكل ما كمان سيترتب من انهيار وسقوط لبلد أكبر من مشاريع شخصية أو فئوية لزمرة تسللت إلى دواليب القرار قبل أن تسقط الأقنعة.
العودة إلى الشعب للفصل كانت قناعة أيضا لدى بومدين لما تأكد أن الشرعية الثورية بعد تولي السلطة في 19 جوان 1965 من خلال ما سماه «تصحيح ثوري» وما يعتبر «انقلابا» بالمعايير الديمقراطية الحديثة، لم تعد قابلة للعيش فتوجه إلى طلب رأي الشعب من خلال عرض الميثاق الوطني وإرساء دستور كان على الأقل في تلك المرحلة أرضية لإعادة بعث المسار الشعبي للشرعية في صياغة التوجهات ورسم الخيارات.
لكن الأكثر تعبيرا على ارتباط الاسمين بلحظة تاريخية مشتركة ببعدين زمنيين مختلفين تماما، ذلك التعاطف الجلي والتأثر الواسع في أوساط الشعب بكل فئاته وأجياله في التعاطي مع وفاة الرجلين، وتكاد جنازة ڤايد صالح تشبه ما حظي به بومدين من حيث الاهتمام وتتبع الأخبار والمشاركة الشعبية في التشييع في صورة أذهلت العالم وزادت من رفعة الشعب الجزائري بين الأمم، كونه شعب مهما كانت الاختلافات والخلافات يعرف كيف يرافق كباره المخلصين إلى مثواهم الأخير، ويأبى أن يشار إليه بالبنان من شعوب أخرى تفتقر لهذه القيمة الإنسانية والحضارية وتصنع في كبارها ما لا يصنعه عدو في عدوه.
حقيقة الشعب الجزائري خارج فئة العصابة والخونة والمندسين، كله شرف وعزة وأنفة فهو يعطي لمن يكسب قلبه كل الثناء والتقدير والتبجيل، ليس لما يكون المرء في السلطة ولكن لما يغيب عنها بداعي الموت أو غيره، وهي حالة فريدة لشعب فريد أيضا يتسم في الظاهر بالتعصب والإصرار على الرأي ولكن بالتعاطف والتسامح لما تشتد الشدائد ويكون البلد على كف عفريت في موضع الخطر، وهي ميزة ليست وليدة ظروف وإنما حصيلة تراكمات لعقود من الزمن في فترات تشكل فيها الوعي الجزائري وتبلورت الشخصية الوطنية الممزوجة بالصدق والأنفة والكلمة الحرة ونبذ الاحتقار والتمييز والاستغلال.