السير الذاتيـة نافـذة حيّــة لتسجيـل الكفـاح وكشف وحشيـة الاستعمار
ظلت المادة التاريخية الحلقة المفقودة في اعادة تدوين وكتابة تاريخ ثورة التحرير المظفرة، سواء من طرف الشخصيات الثورية الأولى التي أعلنت الكفاح المسلح، بمن فيهم قادة الولايات التاريخية ومن معهم في مراكز القيادة والمسؤولية، أو مسجلة من أفواه المجاهدين الذين بقوا أحياء قبل أن تقضي عليهم أمراض الاستعمار وأوبئة العصر .
تقاس الدول بمدى حفظها لتاريخها ونضالها، فالأوطان التي تجعل من التاريخ مادة أساسية ورسمية في منظومتها التربوية والجامعية، هي أوطان جديرة بالاحترام والتباهي أمام الأمصار والدول، لأنها صانت عهد أبطالها وحافظت على رسالة شهدائها، من جيل الى جيل، مسجلة مجدها بدماء لا تقدر بثمن.
نمتلك ثورة عظيمة في التاريخ الحديث، من حيث التضحيات الجسام، وعدد السنوات التي فاقت السبع، والمجال الجغرافي الذي اتسعت أراضيه لتكون مساحة لأشرف حرب احتضنتها الجزائر قاطبة من جنوبها الى شمالها ومن شرقها الى غربها، هو امتداد تاريخي وإنساني كبير، يضرب به المثل محليا وقاريا.
للأسف تلك البطولات والمآثر لم تنل حقها من التدوين والتسجيل والإصدارات، بل ظلت الى حد قريب محتشمة إلا القليل منها جانب النسيان وخرج للعيان في إصدارات حملت مذكرات أصحابها على غرار الرائد عمار ملاح أحد قادة الولاية الأولى التاريخية، النقيب صايكي ضابط بالولاية الرابعة التاريخية، وهي عبارة عن شهادات تضمنت مساره الكفاحي والثوري مصحوبة بالصور والوثائق، الأمر نفسه بالنسبة لضابط جيش التحرير بنفس الولاية الرابعة، النقيب ولد الحسين الذي قام بتدوين شهادته في كتاب، وهو عبارة عن سيرة ذاتية أبرز من خلالها بعض الحقائق مصحوبة بالوثائق والصور أيضا من سنة 1955 الى غاية الاستقلال.
كما أصدر الوزير الأسبق المرحوم عبد الرزاق بوحارة أحد مجاهدي الولاية التاريخية الثانية بـ «الشمال القسنطيني» مذكرات مهمة كتبها بنفسه في حوالي 300 صفحة أو يزيد، منح فيها المكتبة الوطنية والذاكرة الوطنية معلومات عن دور الولاية الثانية في دعم الثورة المسلحة، وكيف كانت النبض الحقيقي لاستمراريتها في الكفاح ومقاومة الاستعمار.
بالإضافة الى احتواء الكتاب، وهو نوع من السير الذاتية، على مادة حية تتعلق بالصور والوثائق لقادة الثورة من كل النواحي على غرار، العقيد الطاهر الزبيري، أول قائد للولاية التاريخية الأولى، الاوراس النمامشة، العقيد علي كافي قائد الولاية التاريخية الثانية، العقيد الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية الأسبق وقائد بالقاعدة الشرقية «غار الدماو»، بالإضافة الى مذكرات باللغة الفرنسية لعل أبرزها مذكرات اللواء خالد نزار، ومنها أيضا شهادات لبعض مجاهدي الولاية التاريخية السابعة أو ما يعرف فيدرالية فرنسا، كانت بعيدة في جلها عن أرض المعارك الطاحنة في الجبال، لكنها تضمنت بعض الحقائق عن دور أبناء الجزائر في أرض العدو بالمهجر.
وتبقى الشهادات من أفواه أصحابها مادة حية لا تموت بالتقادم، لأنها تحتوي عن حقائق صانعيها يرويها المجاهدون من أفواههم الى المؤرخين والمهتمين بكتابة التاريخ، لتكون اضافة الى الذاكرة الجماعية، يذكر فيها كل التفاصيل التي عاشها الثوار في الجبال والفيافي، يخلدون فيها المعارك التي قادوها ضد العدو، هي غير قابلة للتزييف أو التحوير أو التأويل، تنقل كما هي وعلى المهتمين بكتابة التاريخ اسقاطها على بقية الشهادات الأخرى التي تأتي في نفس السياق.
الرعيل الأول من جيل الثورة كلهم رحلوا إلا القلة القليلة منهم، هم في سن متقدمة، مصابة بأمراض مزمنة منها الزهايمر، منهم من سجل ما شهد عليه ومنهم من توفاه الآجل ومنهم من لا يزال لم يسجل أية شهادة، الأمر الذي قد يرهن المادة التاريخية ويشوّه أمانتها العلمية وقيمتها المعرفية في هذا العمر، خاصة عند عملية تسجيل وتدوين هذه الشهادات.