تتربّع على حيّز كبير من الاستراتيجيات والظواهر العالمية

ثقافة الاقتصاد... واقتصاد الثقافة

أسامة إفراح

تُعتبر ثنائية الثقافة/ الاقتصاد موضوعا قديما جديدا؛ قديما على اعتبار أنه لقي اهتمام روّاد الفكر الاقتصادي منذ بداياته، وتربّع على حيّز كبير من الاستراتيجيات والظواهر العالمية، بما في ذلك «العولمة». وجديدا لأنه يعود إلى الواجهة لأسباب متعددة: أزمة صحية عالمية تعطّل جانبا من سوق الفنون وتنعش آخر، أو حدث ثقافي كبير له تبعاته الاقتصادية، أو حتى تصريح لمسؤول حكومي، على غرار ما قاله الوزير الأول مؤخرا حول الاقتصاد والثقافة.
يرى مكتب «إيرنست أند يونغ»، أحد أكبر مكاتب الاستشارات والتدقيق المالي ليس فقط في المملكة المتحدة بل في العالم، يرى في الثقافة «بطاقة أعمال دولية، ومحفزا (مسرّعا) للتنمية الحضرية».
هي رؤية مكتب استشارات مُعاصر، فهل كان اهتمام الاقتصاديين بالثقافة وليد اليوم؟

البدايات
لم تغب الثقافة عن اهتمام رواد الاقتصاد السياسي، وعلى سبيل المثال، يرى «آدم سميث» أن الثقافة «سلعة عمومية Bien public»، لأنها تساهم بشكل أساسي في التربية والتعليم.. بل وذهب «سميث» إلى دراسة سلوك الفنانين الاقتصادي.
أما «كارل ماركس»، فيعتبر أن قيمة الأعمال الفنية تشكّل استثناءً واضحًا لقانون قيمة العمل. فيما يشير «مارشال» إلى اختلاف الطلب على السلع الفنية عن غيرها، لأن الذين يستهلكون المزيد والمزيد من الموسيقى سيقدرونها أكثر فأكثر، وبالتالي سيطلبون المزيد، ومن هنا، يقترح «مارشال» ما يسمى «الإدمان الإيجابي».

في خدمة الثقافة
بالنسبة لـ»كزافييه غريف»، يستخدم اقتصاد الثقافة مراجع وأدوات العلوم الاقتصادية لإلقاء الضوء على أساليب تنظيم الأنشطة الثقافية وتطويرها. ويحاول بذلك الإجابة عن أسئلة مثل قيمة منتج ثقافي ما، أو الأسباب التي تجعل شركات الفنون الأدائية تجد صعوبة كبيرة في تغطية تكاليفها، أو كيفية جعل صناعة الموسيقى مستدامة.
بل يمكن الذهاب أبعد في هذا التخصص العلمي، يقول «غريف»، كأن نتساءل عما إذا كانت الظروف المعيشية للفنانين لن تؤثر على خياراتهم الفنية أو، على العكس من ذلك، ما إذا كانت الخيارات الفنية لا تسعى إلى إحداث تأثيرات اقتصادية. من جهة أخرى، قد يخشى عالم الفن اختراق الاقتصاديين له، ومحاولاتهم لاستبدال المنطق الفني بالمنطق الاقتصادي، في ظل ما عُرف عن الأول من عدم إيلاء الأهمية القصوى للمال.
وتُظهر الأرقام والإحصائيات سبب اهتمام الاقتصاد بالثقافة، بالنظر إلى الحيّز الكبير الذي تحتلّه هذه الأخيرة في اقتصاديات الدول. على سبيل المثال، تقدّر مداخيل قطاع النشر الإلكتروني في العالم ما يتجاوز 25 مليار دولار، بمليار ونصف من المستهلكين. وتفوق مداخيل الكتاب الإلكتروني في العالم 14 مليار دولار، في سوق يضمّ قرابة المليار مستهلك، فيما يُنتظر أن تقارب المداخيل 20 مليار دولار سنة 2025. وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الرائد العالمي في مجال سوق الكتاب الإلكتروني، الذي تبلغ قيمته 5 ملايير و224 مليون دولار (إلى غاية نوفمبر 2019)، وتحتلّ اليابان المرتبة الثانية بمليار و368 مليون دولار، تليها الصين بمليار و277 مليون دولار، فالمملكة المتحدة بـ950 مليون دولار، ثم كندا خامسة بـ698 مليون دولار. وتحتلّ الصين المرتبة الأولى فيما يتعلّق باختراق سوق الكتاب الإلكتروني، بنسبة تصل 25.5 بالمائة، تليها كندا بـ24.4 بالمائة، وأمريكا بـ24 بالمائة، والسويد بـ23.4 بالمائة، ثم المملكة المتحدة بـ21.8 بالمائة.

أداة في يد العولمة
قد لا نكون بصدد الإشهار لشركة «ماكدونالدز» إذا قلنا إنها «رمز العولمة الناجحة للثقافة الأمريكية»، ما جعل اسمها يرتبط ارتباطا وثيقا بمصطلح العولمة، ويصير في بعض الأدبيات بديلا له. من هنا، يرى الفرنسي «جان ماري غينو» في العولمة «أمركة للعالم»، أي امتدادا للنموذج الثقافي والاقتصادي للولايات المتحدة على نطاق عالمي، وقد كانت الثقافة حسبه في قلب عملية التنمية المعولمة للاقتصاد الأمريكي.
ويوضح «غينو» أن عولمة النموذج الثقافي الأمريكي تطورت على مرحلتين: أولا، انتشار أساليب الإنتاج وأنماط الاستهلاك للمنتجات الأمريكية في مختلف اقتصادات العالم، وبعد ذلك، إدراج أنماط الحياة والمعايير والقيم المرتبطة بهذه السلع الموحدة على النموذج الثقافي الأمريكي.
ويكمل الاقتصادي الهندي «سينغ» هذا التحليل، معتبرا تجانس (أو توحيد) الثقافة العالمية على النموذج الثقافي الأمريكي قد أدى إلى توحيد الممارسات الثقافية للمنتجين والشركات، وتجانس ثقافة النخب حول نموذج سياسي ليبرالي جديد، ثم دمج النموذج الأمريكي في النماذج الوطنية حول المجتمع الاستهلاكي.
بعبارات أكثر وضوحا، تعمل القوة الناعمة، التي جوهرها الثقافة، على اكتساب الأسواق الجديدة عادات وممارسات تمهّدُ لتسويق سلع اقتصادية تشبع الحاجة التي خلقتها هذه العادات المكتسبة. لذلك، يمكن القول إن البعد الثقافي للعولمة يتكون من: التنافس بين تعددية وجهات النظر والقيم وأنماط الحياة من النماذج الوطنية، والانتشار الواسع للممارسات من الثقافات الغربية من خلال السوق العالمية.
وفي هذا الصدد، يحدد «جان تارديف» ثلاثة مواقف سياسية للدول في مواجهة العولمة الثقافية: الأولى سياسة «سلبية» لا تعتبر موضوع الثقافة الوطنية أولوية، والثانية سياسة «حمائية» تتمحور حول الدولة للحفاظ على التراث الثقافي للبلاد. أما الثالثة فهي سياسة «إستراتيجية» تضع الثقافة الوطنية في قلب سياسة الدولة والقوة الناعمة لتعزيز الثقافة الوطنية على الصعيد الدولي، وتميل هذه السياسة إلى اعتبار الثقافة الوطنية في مركز الثقافة العالمية.

كلمات لابُد منها
من كلّ ما سبق، تتجلّى أهمية الثقافة كرافد من روافد الاقتصاد، وإن كنا قد استأنسنا بتجارب اقتصاديات كبرى، فذلك على سبيل الاستشهاد والتدليل أكثر منه على سبيل المقارنة. ولكن هذه الأهمية لم تجعل رواد الفكر الاقتصادي ينزعون عن الثقافة خصوصيتها، إذا ما اعتبرناها «سلعة عمومية» مثلها مثل الماء أو الهواء. من أجل ذلك، وجب التعامل مع الثقافة كحقّ للمواطن، دون التخلّي عن مفهوم النجاعة الاقتصادية، ودون الإفراط في تدعيم الدولة لها إلى درجة تخنق الإبداع وروح المبادرة، ولعلنا نكرّر أنفسنا حين نقول إن «الثقافة يُنتجها المجتمع».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19814

العدد 19814

السبت 05 جويلية 2025
العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025
العدد 19811

العدد 19811

الثلاثاء 01 جويلية 2025