نفاق الإعلام الفرنسي يصدم الرأي العام الفرنسي

تاريخ جزائرالشهداء يرعب أحفاد بيجار

على مجالدي

تواصل فرنسا تقديم نفسها كراعية لحرية التعبير وحقوق الإنسان في المنطقة، لكن واقع الممارسة السياسية والإعلامية يكشف تناقضًا صارخًا بين الشعارات المرفوعة والواقع. فكلما تصاعد الخلاف مع الجزائر، يظهر جليًّا أن حرية التعبير في فرنسا ليست سوى أداة سياسية، تُوظَّف حسب مصالحها، والمثال الأحدث على ذلك جاء مع قرار إذاعة RTL الفرنسية وقف الإعلامي جون ميشال أباتي، إثر تصريحاته الجريئة التي قال فيها إن النازيين استلهموا جرائمهم من الممارسات الوحشية لفرنسا خلال استعمارها للجزائر.

يعكس قرار توقيف الصحفي أباتي، الذي ذكر حقائق يؤكدها المؤرخون الفرنسيون أنفسهم، كيفية تعامل الإعلام الفرنسي مع القضايا التاريخية والحالية، حيث يُسكت كل من يسلط الضوء على الماضي الاستعماري.
في المقابل، يُفسح المجال لليمين المتطرف للتحريض ضد كل ما هو جزائري، بل وحتى الدفاع عن المجازر الصهيونية في غزة، تحت ذريعة «الحق في التعبير». والمفارقة الصادمة هنا، أن الخطاب الإعلامي الفرنسي بات يبرر جرائم الحرب في فلسطين ويعتبر المدنيين أهدافًا مشروعة، بينما يتم قمع الأصوات التي تفضح ماضي فرنسا الدموي.
وفي ظل هذه الازدواجية، تصبح حرية التعبير مجرد أداة لخدمة أجندات سياسية، لا مبدأ ثابتًا يُحترم.
وخلف تعامل وجوه إعلامية وسياسية فرنسية، عملت على اضطهاد الصحفي جون ميشال أباتي، عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعبر البلاطوهات، صدمة قوية داخل الرأي العام الفرنسي، الذي تأكد من أن محاولة طمس حقائق تاريخية تتعلق باستعمار الجزائري، مصادرة للحقيقة وقمع خطير لحرية التعبير.
وعبر اليسار الفرنسي، إلى جانب كبار الإعلاميين، على غرار الصحفي ومؤسس موقع ميديا بارت، إيدوي بلينال، عن دعم الصحفي أباتي، واستنكار سعي الآلة الإعلامية الفرنسية تعويض الحقيقة بالسرديات الزائفة وبالرأي العنيف.
 تبييض التوحش
أصبحت قضايا الذاكرة والاستعمار والهجرة والجالية الجزائرية في فرنسا، ورقة سياسية يستخدمها اليمين المتطرف الشعبوي لأجل مهاجمة الجزائر، وأصبحت هذه الأدوات تستخدم كلما احتاج الساسة الفرنسيون إلى تحويل الأنظار عن فشلهم في إدارة الملفات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية لتبرير فشلهم الاقتصادي في محيطهم الخارجي، مع تراجع التواجد الاقتصادي الفرنسي في الجزائر السيدة في قراراتها. غير أن التلاعب بهذه القضايا، يصطدم دائمًا بواقع التاريخ، الذي لا يمكن إنكاره.
حيث تظل مجازر 8 ماي 1945 إحدى أبرز الأمثلة الحية على وحشية الاستعمار الفرنسي، حيث قتلت قوات الاحتلال الفرنسي أكثر من 45 ألف جزائري خلال أيام معدودات في سطيف، قالمة وخراطة، لمجرد أن الجزائريين خرجوا يطالبون بالاستقلال. واستخدمت فرنسا حينها أساليب قمع وحشية، من تدمير القرى بالقصف الجوي إلى حرق الأحياء بالأسلحة الثقيلة، في واحدة من أكبر جرائم الإبادة في العصر الحديث. ورغم محاولات طمس هذه الجرائم، فإن الأدلة التاريخية تبقى شاهدة على فظائع الاستعمار، حيث نشرت صحيفة نيويورك تايمز في 25 ديسمبر 1946 تقريرًا يوثق حجم العنف الذي مارسته القوات الفرنسية ضد الجزائريين، مؤكدةً أن عدد الضحايا كان بالآلاف، وهو ما يدحض الرواية الرسمية الفرنسية التي تسعى لتقزيم أرقام المجازر.
ومن الجرائم الأخرى التي تفضح تاريخ فرنسا الاستعماري، مجزرة الأغواط عام 1852، حين استخدمت قوات الاحتلال الفرنسي، لأول مرة، في التاريخ الأسلحة الكيماوية، ما أدى إلى مقتل واستشهاد أكثر من ثلثي سكان المدينة. ورغم مرور أكثر من قرن ونصف، لا تزال فرنسا تنكر مسؤوليتها عن هذه الجريمة، في محاولة لطمس الحقيقة وتهربًا من أي مساءلة تاريخية أو قانونية.
حرية التعبير كأداة للسيطرة السياسية
في نفس السياق، يوضح الدكتور منصوري عبد القادر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في تصريح للشعب، أن حرية التعبير في فرنسا ليست مبدأً ثابتًا، بل تُستخدم كأداة سياسية تخضع لاعتبارات المصلحة وازدواجية المعايير. ففي الوقت الذي يتم فيه الترويج لحرية الإعلام كقيمة مقدسة، تُمنع الأصوات التي تتحدث بموضوعية عن التاريخ الاستعماري الفرنسي، ويُجرَّم كل من يسلط الضوء على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الاحتلال.
ومن المفارقات أن الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، جعل من «الاعتراف بالماضي الاستعماري» جزءًا من برنامجه الانتخابي، إلا أن سياسات حكومته لم تُترجم هذه الوعود إلى خطوات ملموسة. فالجرائم المؤكدة، مثل مجازر 8 ماي 1945، والتفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية واستخدام الأسلحة الكيماوية في الأغواط، لاتزال تُواجه بالصمت الرسمي ورفض أي اعتذار صريح أو تعويض قانوني.
ويرى منصوري، أننا كجزائريين مطالبون اليوم بتكثيف الجهود لكشف هذا الماضي الاستعماري، والمطالبة بتعويضات عن الجرائم الفرنسية، وتحميل باريس مسؤولياتها التاريخية. كما شدد على أن العلاقات الجزائرية- الفرنسية لا يجب أن تكون علاقة هيمنة، بل علاقة ندية تقوم على تبادل المصالح، دون القفز على الملفات التاريخية.
وهذا يشمل، وفقًا له، الاعتذار الرسمي، وتنظيف مواقع التجارب النووية، وتعويض الضحايا والمناطق المتضررة، إضافة إلى التصدي لمحاولات اليمين المتطرف الفرنسي استغلال الذاكرة الاستعمارية لتغذية النزعات العنصرية، وضرب العلاقات الجزائرية- الفرنسية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19819

العدد 19819

الخميس 10 جويلية 2025
العدد 19818

العدد 19818

الأربعاء 09 جويلية 2025
العدد 19817

العدد 19817

الثلاثاء 08 جويلية 2025
العدد 19816

العدد 19816

الإثنين 07 جويلية 2025