تعزيـز التّكامـل العربـي..رؤيـة استراتيجيـة تحقّـق الاستقــرار والتّنميـة
في عالمٍ يتّسم بتسارع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، وتشتد الأزمات الإقليمية والدولية، تبرز الجزائر كقوّةٍ إقليميةٍ حميدة تسعى جاهدةً لتعزيز وحدة الصف العربي، وتفعيل التكامل الاقتصادي بين الدول العربية، وتجلى هذا التوجه الاستراتيجي بوضوح خلال استضافة الجزائر للقمة العربية في نوفمبر 2022، حيث طرحت وقتها رؤية شاملة لتعزيز العمل العربي المشترك، خاصة في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والأمن الغذائي.
حسب العديد من المراقبين، تأتي هذه الرؤية في ظل تحولات مركبة مرّت بها المنطقة والعالم، أبرزها الانكشاف الكبير الذي عانته الدول العربية خلال أزمة جائحة كورونا، التي بيّنت هشاشة سلاسل التوريد وضعف الاعتماد المتبادل، ثم الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال مستمرة، وتسبّبت في اضطرابات خطيرة بسوق الغذاء والطاقة.
وفي سياق متصل، أبان العدوان الصهيوني على غزة، والمستمر منذ أكتوبر 2023 عن افتقار المنطقة إلى منظومة تنسيق فعالة، وموقف عربي موحد قادر على التصدي للانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، ووقف الإبادة التي يقوم بها الصهاينة في حق الفلسطينيين.
وبناءً على هذه التراكمات، تواصل الجزائر التأكيد على أن التكامل العربي خيار استراتيجي لا مفر منه، لتعزيز السيادة الاقتصادية وتحقيق الأمن الغذائي والطاقوي، وتوحيد المواقف السياسية تجاه التحديات المشتركة.
ومن أبرز النماذج التي تعكس هذا التوجه، الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وقطر، حيث تمّ توقيع اتفاقية لتنفيذ مشروع زراعي بقيمة 3.5 مليار دولار لإنتاج الأعلاف وتربية الأبقار وإنتاج الحليب واللحوم في ولاية أدرار.
هذا المشروع الذي يمتد على مساحة 117 ألف هكتار، يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحليب المجفف، حيث يطمح إلى تغطية ما نسبته 50 % من احتياجات السوق الوطنية، إلى جانب ذلك، يوفر المشروع فرصًا للعمل، ويسهم في تفعيل منظومة التحويل الغذائي محليًا.
ويجسّد البلدان نموذجا آخر للشراكة الناجحة، ويتمثل في مركب الحديد والصلب بمنطقة بلارة بولاية جيجل، والذي باتت يحقق رقم أعمال يفوق مليار دولار، ويصدّر منتجاته لعديد البلدان في العالم، إلى جانب مشروع المستشفى الجزائري القطري الجاري إنجازه بالعاصمة، وسيضمن رعاية صحية عالية المستوى، وبأحدث التقنيات الطبية في العالم.
وفي السياق، تطوّرت العلاقات الجزائرية السعودية لاسيما عبر منتدى الأعمال السعودي - الجزائري، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي واستكشاف فرص الاستثمار، خاصة في ظل المزايا التي يوفرها قانون الاستثمار الجديد بالجزائر. وقد تم تسجيل مشاريع صناعية صيدلانية وغذائية بين الجانبين، ما يعكس الجاذبية المتزايدة للبيئة الاستثمارية الجزائرية. كما ناقش المنتدى فرص الاستثمار في قطاعات البتروكيمياء، الطاقة المتجددة، إضافة إلى إمكانيات الشراكة في الصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة، وهو ما يندرج ضمن توجه الجزائر إلى تقليص التبعية للاستيراد، وبناء اقتصاد منتج وقائم على القيمة المضافة، كما تم توقيع اتفاقيات تصدير منتجات فلاحية جزائرية إلى السوق السعودية بقيمة سنوية تقارب 5 ملايين دولار.
من أبرز هذه الاتفاقيات، عقد تصدير الطماطم الكرزية من شركة “حقول الجنوب” الجزائرية إلى شركة “قوتي” السعودية، بقيمة 3 ملايين دولار سنويًا. كما تم الاتفاق على تصدير منتجات فلاحية أخرى، بما في ذلك الخضر والفواكه، مما يعكس تنامي الثقة في جودة المنتجات الجزائرية وقدرتها على المنافسة في الأسواق الخليجية.
وتأتي هذه الخطوات في سياق استراتيجية الجزائر لتنويع صادراتها خارج قطاع المحروقات، وتعزيز الأمن الغذائي العربي من خلال التكامل الاقتصادي بين الدول الشقيقة. هذه الديناميكية الجديدة بين الجزائر والسعودية، تُترجم رؤية مشتركة لتكامل اقتصادي عربي مبني على المصالح المتبادلة والاستغلال الأمثل للإمكانات الوطنية.
علاوة على ذلك، تُعد زيارة السلطان العماني هيثم بن طارق إلى الجزائر، والتي تدوم يومين، مؤشرًا على عمق العلاقات الجزائرية العمانية. وتأتي هذه الزيارة في إطار سعي الجانبين لتعزيز التعاون الثنائي في مجالات استراتيجية تشمل الاستثمار، والتعليم، والإعلام، والطاقة المتجددة. ومن المنتظر أن تُوقّع خلال هذه الزيارة مذكرات تفاهم مهمة، كما يُتوقّع أن يتم الإعلان عن إنشاء صندوق استثماري عماني-جزائري مشترك لتمويل مشاريع واعدة في مجالات الطاقة والزراعة والتكنولوجيا.
دعــم قضايــا الأمّـة
على الصعيد السياسي، تواصل الجزائر التزامها بمواقف مبدئية قائمة على الدفاع عن القضايا العادلة، وعلى رأس هذه القضايا تأتي القضية الفلسطينية التي حاولت عدة جهات طمسها، وكان “إعلان الجزائر” الصادر عن القمة العربية في 2022، قد شدّد على التمسك بمبادرة السلام العربية ورفض كل أشكال التطبيع المجاني الذي لا يخدم إلا العدو الصهيوني، كما تؤكد الجزائر رفضها لأي تدخلات أجنبية عسكرية في الشؤون العربية، وتدعو إلى حلول سياسية سلمية تحترم سيادة الشعوب، ولعبت الجزائر دورا مهما في تفكيك أسباب الأزمة الليبية حينما رفضت أي مخططات غربية تهدف إلى تمزيق ليبيا عبر التدخلات العسكرية والميليشيات المدعمة من الخارج.
وفي سياق متصل، تمثّل رؤية الجزائر لتكامل عربي فعال ركيزة لمواجهة التحديات الاقتصادية الدولية، خصوصًا في ظل التغير المناخي وندرة المياه وتقلّب الأسواق العالمية. وترى الجزائر أن التكتل العربي الاقتصادي يمكنه أن يصبح قوة فاعلة على مستوى التفاوض في منظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين ومؤسسات التمويل الدولية.
وتُظهر المبادرات الجزائرية في تعزيز التكامل العربي رؤية استراتيجية تهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة. ومن خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتوحيد المواقف السياسية، تعمل الجزائر على بناء مستقبل عربي مشترك قائم على التعاون والتضامن، يدفع باتجاه تمكين الشعوب من قراراتها السيادية ويحصن المنطقة من التبعية والاختراق.