استعمـال الأسلحـة المحرمـة دولـيا.. عقيــدة عسكريـة فرنسيـة
من أولاد ريــاح إلى الزعاطشـة مرورا بالأغواط.. جرائم إبادة بالجملــة
لم تتوقف فرنسا الاستعمارية عن الإبادة والتقتيل واستعمال الأسلحة الكيماوية منذ احتلالها الجزائر في 1830، بحسب ما يؤكده الأستاذ الدكتور عمار منصوري، المختص في الهندسة النووية والباحث في التاريخ، من خلال وثائق وشهادات عن حجم الجرائم والإبادات والضحايا الذين استهدفتهم الأسلحة الكيماوية من “تي.ان.تي” البلوتونيوم وغيرها.. والتي لا تزال آثارها باقية إلى الآن.
في الأيام القليلة الماضية، تفجرت في فرنسا فضيحة استخدام جيشها الاستعماري الأسلحة الكيمياوية في الجزائر، والتي ظلت في خانة المسكوت عنها لعدة عقود. هذه الجرائم البشعة، التي تضاف إلى مجازر عديدة، من بينها ما حصل في 08 ماي 1945، دفع قناة عمومية فرنسية لإسقاط الوثائقي الموسوم “الجزائر.. وحدات الأسلحة الخاصة” من شبكتها البرامجية في 16 مارس الماضي. لكن ما يؤكده الباحث في الهندسة النووية د.عمار منصوري، هو أن فرنسا لم تستخدم هذا النوع من الأسلحة المحظورة دوليا بموجب بروتوكول جنيف لعام 1925، في الفترة ما بين 1954 إلى 1959 فقط، مثلما جاء في الوثائقي.
وكشف منصوري في تصريح لـ “الشعب”، أن الإبادة والحرق والتدمير والنسف بالأسلحة المحرمة دوليا، هي عقيدة لدى الجيش الاستعماري، “إذ لا تخلو أي مرحلة من مراحل الاستعمار من استعمالها، بدليل أن القادة العسكريين كانوا يتفاخرون بالقتل والتدمير الذي ألحقته قواتهم العسكرية ضد الشعب الجزائري الأعزل”. وقال: “هم يشهدون على أنفسهم بما اقترفوه من إبادات لقرى ومداشر بأكملها من خلال رسائل كتبت بأيديهم الملطخة بالدماء”.
وبحسب الدكتور منصوري، فإن أول إبادة قام بها “الاستدمار الصليبي الفرنسي”، كانت في 29 جوان 1830، باستعمال أسلحة يكاد يجزم أنها كانت كيماوية، حين أقدم الجيش الاستعماري على تدمير الحصن الذي كان يحمي العاصمة، وقد تلتها مجزرة أخرى (العافية بالحراش) سنة 1832، سقط فيها 1500 قتيل، وتم قطع رأس رئيس قبيلتها وإرساله لطبيب ليجري عليه تجاربه.
وتمتد يد الغدر والوحشية للمستدمر الفرنسي -يضيف المتحدث- لتطال مستغانم، أين أبيدت قبيلة أولاد رياح عن بكرة أبيها عام 1845، حيث أن أكثر من 1000 جزائري قتلوا حرقا داخل مغارة لجأوا إلى الاختباء بها هروبا من بطش المستعمر الغاشم. كما أبادوا قبيلة الزعاطشة ببسكرة عن آخرها سنة 1849، ولم يكفهم ذلك بل قطعوا رأس بوزيان رئيسها وأرسلوه إلى بلدهم فرنسا ليبقى في متحفهم شاهدا على “الرسالة الحضارية المزعومة؟!”. كما تم قطع وحرق 10 آلاف نخلة، وأوضح منصوري أن هدف فرنسا كان التغلغل أكثر قصد الوصول إلى الجنوب للاستيلاء على الثروات التي تزخر بها المنطقة الصحراوية.
وأفاد منصوري، في السياق، أن الجيش الاستعماري استعمل في غزوه للأغواط وورقلة أسلحة كيماوية وتحديدا “مادة الكلولوفورم” التي خلفت 3586 قتيل، في مجزرة عرفت بـ«محرقة الأغواط” التي حولت المكان إلى فضاء للأشباح.
وأضاف، أن فرنسا الاستعمارية نوعت في طرقها الوحشية التي استعملتها ضد الشعب الجزائري، منها وسيلة النفي، حيث أرسلت آلاف الجزائريين بعد مقاومة الشيخ المقراني سنة 1876 إلى كاليدونيا الجديدة في بواخر دامت رحلتها 4 أشهر في البحر قبل أن تصل إلى هذا المنفى الكبير.
وذكر الباحث في الهندسة النووية، أن فرنسا استخدمت من 1830 إلى 1962 “الأسلحة الكيماوية ضد الجزائريين 300 مرة، كما دمرت 800 قرية باستخدام النابالم وألقت أزيد من 800.000 طن من مادة “تي.أن.تي على مناطق في البلاد”.
ويزداد التقتيل والإبادة بوحشية لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية -يقول الباحث منصوري- حيث تعتبر مجازر 8 ماي 1945 من أكبر الجرائم الإنسانية، استعملت فيها كل وسائل القتل والحرق والتنكيل، الذي كانت كل من سطيف، قالمة وخراطة مسرحا لها لمدة 50 يوما غير منقطعة، مخلفة حصيلة ثقيلة ما لا يقل عن 45 ألف جزائري ماتوا بالرصاص والقنابل وحرقا، كما لم يستبعد استعمال الأسلحة الكيماوية. وقد أشار المتحدث، إلى أن هذه الأحداث الوحشية والأليمة كانت نتاج عدم وفاء الاستعمار للشعب الجزائري بمنحه الحرية إذا ما ساعدها على الانتصار على النازية الألمانية، لكن “الصفة التي لا يمكن لفرنسا أن تغيرها أو تتخلص منها هي الكذب والغدر”، هكذا يصفها المتحدث.
بعد مجازر 8 ماي 1945، انتقل الاستعمار الفرنسي إلى نوع آخر من الجرائم، وهي الجرائم المعنوية، التي استمرت لغاية 1954 تاريخ انطلاق الحرب التحريرية، والتي تمثلت، كما ذكرها الباحث منصوري، في إصدار قوانين قاسية، جعلت من اليهودي يتمتع بحقوق، بينما مُنع الجزائري من أبسطها. وليس هذا فحسب، بل لجأت إلى تشويه أسمائه من إسم كان ثلاثيا، إلى أسماء “حيوانات وأخرى لا يمكن حتى ذكرها”.
يذكر، أن هذه الشهادات والأرقام دوّنها الأستاذ الدكتور عمار منصوري المهتم بكتابة التاريخ الوطني، نشرت في مقالات وملفات في بعض المجلات الوطنية (الجيش، أول نوفمبر...)، خاصة حول ملف “التفجيرات والتجارب والحوادث النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية” وملف “تجارب الأسلحة الكيميائية والبيولوجية الفرنسية في الجزائر واستعمالها إبان حرب التحرير” وجرائم الاستعمار الفرنسي 1830-1962. كما أن له كتاب “التفجيرات والأحداث النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية: جريمة دولة ضد الإنسانية” (2022) وكتاب “فرنسا في مواجهة جرائمها في الجزائر” (2023).