بوحاتم: المطالب الجزائرية بتجريم الاستعمار قانونية وسيادية وأخلاقية
المشروع الجزائـري مضـاد لخطــاب سياسي مازال غارقـا في حلـم “الهيمنــــة”
قانونيون: ما اقترفتــه فرنسـا في الثامن ماي جريمة حرب مكتملة الأركان
المطالبة بتجريم الاستعمار ليست عاطفية ولا رمزية بــل قانونية وسياديـــة وأخلاقيـــة
سجّلت الجزائر، في الثامن من ماي 1945، صفحة دامية في تاريخها لا يمكن أن تمحى من الوعي الجمعي، كما لا يمكن أن تُغتفر في ميزان العدالة والضمير الإنساني، ففي ذلك اليوم، ارتكبت فرنسا الاستعمارية مجازر بشعة في حق المدنيين الجزائريين العزل.
في هذا التاريخ، وقبل 80 عاما، قتلت فرنسا 45 ألف جزائري، بشتى الأساليب، بما فيها الحرق في الأفران، لا لشيء إلا لأنهم كانوا يحلمون بوطن حرّ ومستقل، ورفعوا صوتهم في وجه منظومة استعمارية قائمة على الإخضاع والإبادة وطمس الهوية الوطنية.
كان خروج الجزائريين في هذا اليوم، للتظاهر ابتهاجا بنهاية الحرب العالمية الثانية، واستقبالا لتنفيذ وعد الاستقلال الذي قطعته السلطات الاستعمارية نظير مساهمتهم، في تحرير فرنسا من النازية، لكنهم قوبلوا بالغدر وقتلوا بأساليب النازية ذاتها.
سقط القناع عن الوجه الاستعماري الوحشي، في هذا التاريخ، عندما أسقطت رصاصة مفتش الشرطة المجرم، بوزيد سعال، شهيدا، تحت زغاريد حرائر سطيف. مطلقا شرارة مظاهرات ومجازر لم تتوقف إلا بعد أيام.
وبحسب العديد من المؤرخين، بمن فيهم الفرنسيون، لم تكن تلك المجازر والإبادة الجماعية مجرد “انزلاقات أمنية”، كما حاولت الرواية الفرنسية الرسمية الترويج لها، بل كانت فعلًا متعمّدًا ومدروسًا، تم تنفيذه بأدوات الدولة الاستعمارية من جيش وإدارة وميليشيات، في قالمة وسطيف وخراطة والعديد من المدن الجزائرية الأخرى والتي تحوّلت إلى مسارح للإبادة الجماعية.
أفران المحرقة
يؤكد العديد من رجال القانون والمؤرخين، أن ما ارتكبته فرنسا الاستعمارية في الجزائر في الثامن من ماي 1945، لا يمكن تصنيفه سوى في خانة جريمة حرب مكتملة الأركان، ولم تكن مجرد أحداث أمنية عابرة أو ردود فعل غير محسوبة، بل كانت عملية إبادة ممنهجة، شاركت فيها مؤسسات الدولة الاستعمارية الفرنسية، من سلطات إدارية وعسكرية، نفذت بعلم وإرادة سياسيّة تهدف إلى إسكات صوت الاستقلال وتدمير الروح الوطنية الجزائرية الناهضة في ذلك الوقت.
وارتكب الاستعمار في قالمة وسطيف وخراطة، مجازر لاتزال تفوق في فظاعتها قدرة اللغة على الوصف، حيث سقط أكثر من 45 ألف شهيد جزائري بحسب العديد من المصادر التاريخية الموثوقة والشهادات الحية للعديد من الجزائريين. ولم تتوقف الجريمة عند الإبادة، بل تجاوزتها بإحراق المستدمر الفرنسي لآلاف الجثث داخل أفران الجير، خاصة في منطقة هيليوبوليس بقالمة، في واحدة من أكثر صور الإبادة بشاعة وترويعًا في العصر الحديث. ولاتزال هذه الأفران قائمة إلى اليوم، تشهد على الجريمة وتكذّب كل من يحاول طمس الحقيقة أو تزييفها.
ومع كل الدلائل والشواهد التاريخية، ينكر تيار فرنسي، اليوم، إلصاق أساليب استعمار بلادهم للجزائر بالنازية، حيث تعرض الصحفي جون ميشال أباتي، إلى حملة إعلامية شرسة، الأسابيع الماضية، بسبب تصريح قال فيه “إن الاستعمار الفرنسي للجزائر كان مدرسة للنازية”، وهو الكلام الذي كلفه خسار وظفيته في إذاعة “أر.تي.أل”.
كما أن السلطات الفرنسية، في 08 ماي 1945، لم تكتفِ بالقتل الجماعي، بل سعت إلى محو آثار الجريمة عبر دفن الشهداء في مقابر جماعية، وشنّ حملات اعتقال وتعذيب شملت حتى الأطفال والشيوخ، وأطلقت يد ميليشيات المستوطنين الأوروبيين في التنكيل بالعزل دون حسيب أو رقيب، وكانت تلك المجازر سياسة دولة، لا حادثًا منفلتًا، وجزءًا من مشروع استعماري رأى في الإنسان الجزائري كائنًا قابلًا للإبادة إن هو فكّر في حريته.
ومن منظور القانون الدولي، تدخل هذه الجريمة في إطار الجرائم ضد الإنسانية، كما يحددها النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ (1945) واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (1968)، كما أنها لا تُغتفر بتصريحات سياسية جوفاء لا تتجاوز حدود المجاملة الدبلوماسية. والمسؤولية القانونية لا تقتصر على الأفراد الذين نفذوا أو أمروا، بل تشمل الدولة الفرنسية ككيان سياسي ومؤسسي مارَس العنف الممنهج ضد شعب أعزل.
الإنكار.. جريمة أخرى
وما يزيد من جسامة هذه الجريمة، هو أن الإنكار مازال مستمرًا، يتجدّد في خطاب اليمين المتطرف الفرنسي، الذي يواصل إلى اليوم الدفاع عن “مآثر الاستعمار” ويرفض الاعتراف بهذه المجازر، بل يتطاول على الجزائريين في الحاضر تمامًا كما سعى إلى إبادتهم في الأمس، وهو بكل تأكيد امتداد فكري وسياسي لذلك العنف الذي أُطلق سنة 1945، ولا يزال يتنفس في تصريحات رسمية وبرلمانية فرنسية، ويستبطن كراهية متجذرة لكل ما يرمز للجزائر، وتحديدًا لسيادتها وكرامتها وحقها في الذاكرة.
في هذا الإطار، أكد الدكتور بوحاتم مصطفى، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في تصريح لـ “الشعب”، أن المطالب الجزائرية اليوم لتجريم الاستعمار والاعتراف بالجرائم المرتكبة، خاصة مجازر 08 ماي 1945، ليست عاطفية ولا رمزية، بل قانونية وسيادية وأخلاقية، والاعتراف الكامل بالجريمة، الاعتذار العلني دون مراوغة والتعويض المادي والمعنوي للضحايا وذويهم، ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطًا أساسيًا لأي علاقة قائمة على الاحترام. وما لم تعترف فرنسا، رسميًا، بما اقترفته أياديها، فإن العلاقة بين البلدين ستظل حبيسة دماء الشهداء الذين أحرقت أجسادهم في أفران الجير، بينما العالم يحتفل بانتهاء حرب، ويغض الطرف عن أخرى لم تكن أقل وحشية.
يوم وطني للذاكرة
وفي خضم معركة الذاكرة الطويلة التي تخوضها الجزائر على أكثر من جبهة من أجل الاعتراف الكامل بجرائم الاحتلال الفرنسي، برز مشروع قانون “تجريم الاستعمار” كاستحقاق وطني وسيادي لابد منه. وهذا المشروع، الذي يتقدم بخطى واثقة داخل المؤسسات التشريعية الوطنية، لا يعد مجرد رد فعل رمزي، بل هو تتويج لمسار سياسي متعقل يهدف إلى تثبيت الذاكرة الجزائرية ومأسستها داخل المنظومة القانونية، وجعلها جزءًا من معمار الدولة الوطنية، بعيدًا عن أي تهاون أو مساومة.
كما أن التضحيات الجسام التي بذلها الشعب الجزائري، بدءًا من مجازر 8 ماي 1945 وكل العقود الطويلة من القتل والتعذيب والمحو الممنهج، لا يمكن طيّها بعبارات دبلوماسية مرنة أو تصريحات انتقائية. ولذلك، جاء ترسيم 8 ماي كيوم وطني للذاكرة، ترجمةً صريحة لإرادة الدولة في تخليد الحق التاريخي والوفاء لدماء الشهداء، ورفض الانحناء لضغوط النسيان أو التنازل. وهذا المسار الواضح، الثابت والمعلن، أزعج دوائر فرنسية بعينها، وعلى رأسها اليمين المتطرف، الذي يرى في كل محاولة جزائرية لاسترجاع كرامتها التاريخية، تهديدًا لأساطير الاستعمار “النافع” التي لا تزال تعشش في خياله السياسي المريض.
علاوة على ذلك، فإن هذه الإرادة الجزائرية، التي تجسدت في أكثر من محطة رسمية، قوبلت من الجانب الفرنسي بحملات تشويهية يقودها تيار سياسي له جذور عميقة في التاريخ الإجرامي لفرنسا الاستعمارية، تحديدًا في ما يُعرف بمنظمة الجيش السري، التي مارست الإرهاب ضد الجزائريين والمطالبين بالاستقلال.
واليوم، وبعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال، تعود هذه الذهنية العدائية في أشكال مختلفة، تستهدف التقليل من الجرائم، والتشكيك في أرقام الضحايا، ورفض الاعتراف بأي مسؤولية قانونية أو أخلاقية.
وفي نفس السياق، لا يمكن إغفال الحقائق التاريخية التي ظهرت خلال الأشهر الأخيرة بشأن استخدام فرنسا للأسلحة المحرمة خلال احتلالها للجزائر. فقد تم الكشف عن استعمالها الغازات السامة خلال مجزرة الأغواط في 1852 ومنطقة الأوراس خلال الثورة التحريرية، بهدف إبادة المجاهدين الجزائريين داخل الكهوف.
كما وُثّق استعمالها لأسلحة كيماوية على نطاق واسع، وتجريبها للأسلحة النووية في الجنوب الجزائري، وهي جرائم بيئية وصحية لاتزال آثارها قائمة على الأرض والسكان حتى اليوم.
هذه الوقائع، التي لم يعد ممكنًا إنكارها، تشكّل بُعدًا جديدًا في المطالبة بالعدالة، وتؤكد أن القضية ليست مرتبطة فقط بالماضي، بل بضرر قائم وممتد يفرض على فرنسا التزامًا قانونيًا واضحًا.
كذلك، فإن المشروع الجزائري ليس موجهًا ضد فرنسا كأمة، بل هو موجّه ضد خطاب سياسي محدد، يتغذّى على إنكار الماضي ومواصلة الهيمنة الرمزية.
وتدرك الجزائر تمامًا، أن في فرنسا تيارات سياسية وفكرية وإعلامية نزيهة تطالب، منذ عقود، بعلاقات ندّية قائمة على الحقيقة والاحترام المتبادل.