الجاليـة الإفريقيــة بالمهجـر شريــك محــوري في التنمية المستدامـة
لتنسيــق الجهـود.. أوبــاسانجـو يدعــو إلى «لجنـة عالمــيـة لإفريقيـا»
«التعـاون بــلا حـدود».. خارطـة طريـــق نحـو إفريقيــــا جديدة
أدرك الأفارقة، أكثر من أي وقت مضى، أنّ التحرّر الاقتصادي الحقيقي وبناء أسس تنمية مستدامة، لن يتحقّق إلّا عبر استغلال أمثل لموارد القارة، وتوجيه طاقاتها البشرية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم نحو خدمة أوطانها.. هذا الوعي الجماعي الذي بدأ يتبلور ويتجذّر في الخطاب والممارسة، يقوم على قناعة راسخة بأنّ رأس المال البشري الإفريقي هو الثروة الحقيقية القادرة على صناعة الفارق في معركة النمو والتحرّر من التبعية.
في هذا السياق، تبرز التجربة الجزائرية كأحد النماذج الملهمة، حيث شرعت الجزائر، منذ تولي الرّئيس تبون سدة الحكم، في تبني هذا الخيار باعتباره حتمية استراتيجية، تمكّنها من نقل التكنولوجيا وتوسيع قاعدة الاستثمارات المنتجة، فالجزائر تراهن على تعبئة كفاءاتها ومهاجريها، ليس لدعم الاقتصاد الوطني وحسب، وإنما للمساهمة الفاعلة في مشروع التجديد الوطني، الذي يجعل من الانفتاح على الخبرات الإفريقية رافعة حقيقية لبناء اقتصاد متنوع ومندمج.
تؤكّد المبادرات الجزائرية التي أثمرت - خلال السنوات الأخيرة - بنتائج ملموسة في مجالات الاستثمار والصناعة ونقل المعرفة، أنّ القارة قادرة على الاستفادة من هذا المسار، إذا تمّ توسيعه ليشمل التعاون الإفريقي الأوسع، فالإمكانات الهائلة التي تزخر بها القارة، كفيلة بجعل إفريقيا لاعبًا اقتصاديًا مؤثرًا، بدل البقاء مجرّد سوق مفتوحة أمام القوى الخارجية.
لقد أبدى كثير من أفارقة المهجر، خاصة من فئة الشباب، الذين يحملون انتماء قويا لجذورهم ويقاسمون شعوبهم أحلاما مشتركة، الاستعداد لتقوية جسور التواصل مع بلدانهم الأصلية، وعدم ادخار أي جهد للمساهمة في نهضة وازدهار الاقتصاديات الإفريقية، فهم - في الأخير - يؤمنون بأنها أوطانهم، ويجب أن يتشارك الجميع في عملية بنائها.
ولقد ترسّخ هذا الشعور بشكل واضح، في «يوم الجاليات الإفريقية»، المنظم على هامش الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية 2025، وتقاطع المشاركون حول أهمية تمتين الروابط مع الجاليات الإفريقية بالمهجر، لأنّ التشبيك والتنسيق والانسجام في بوتقة واحدة صار ضروريا لاستغلال الفرص الاقتصادية، من استثمار وتجارة وتحويل التكنولوجيا وتدفّق رؤوس الأموال، من أجل المساهمة في بناء إفريقيا، والمشاركة في تنميتها، وتغيير واقعها والتطلّع لمستقبل واحد تنعم فيه الشعوب الإفريقية بالتطور والرّفاهية.
الإقلاع ومواكبة العصرنة
المشاركون في يوم الجاليات الإفريقية المستحدث في معرض التجارة البينية الإفريقية 2025، لمسوا مدى الاستعداد من أجل تجنّد الجالية الإفريقية بالمهجر في ضخّ الجهود والخبرات والأموال لبناء القارة التي ينتمون إليها، فقد أبدوا وعيا راسخا بأنه من الضروري بناء جسور دائمة لتغيير مستقبل القارة، خاصة وأنها على استعداد لاستقبال أبنائها، وتفتح لهم كل الأبواب للعمل والاستثمار وإقامة مشاريع منتجة توفّر مناصب الشغل، وتكون قاعدة تصديرية إلى جميع أنحاء العالم.
يدرك المهاجرون من مختلف الفئات وعلى رأسهم فئة الشباب، وفي هذا التوقيت بالتحديد، أنّ بلدانهم في أمسّ الحاجة إليهم كونها تتطلّع إلى بناء نهضة وتجميع كل القوى لتحقيق الإقلاع ومواكبة العولمة وتحويل التكنولوجيا، وبالموازاة مع ذلك، يشعرون بالمسؤولية، لأنّ قارتهم تعد الأكثر معاناة عبر التاريخ، وحان الوقت لتنعم بمستقبل أفضل وأكثر إشراقا، في ظل توفّر المقومات والثروات.
رسم رئيس المجلس الاستشاري لمعرض التجارة البينية الإفريقية، رئيس نيجيريا الأسبق، أوليسيجون أوباسانجو، ملامح ورقة طريق، يمكن أن تنخرط فيها الجالية الإفريقية بالمهجر لتكون في خدمة بلدانها، لأنها مازالت تشعر بالإنتماء العميق لجذورها، وتحافظ على هويتها الإفريقية، رغم ما تبوأته من مناصب عليا في البلدان التي هاجرت إليها. قال إنّ «التعاون بلا حدود» الذي يعدّ شعارا رفع في يوم الجالية الإفريقية المستحدث لأول مرة، بهذا المعرض في طبعة الجزائر الرابعة، ينبغي ترجمته على أرض الواقع إلى خطوات عملية محسوسة، على خلفية أنّ الاتحاد الإفريقي والبنك الإفريقي وضعا الأساس لتحقيق حلم «إفريقيا العالمية الجماعية».
اللّجنة العالمية لإفريقيا
بدا أوباسانجو مصمّما على أنّ المستقبل الواعد الذي ينتظر الشعوب الإفريقية، ينبغي أن يُبنى بروح إفريقيا العالمية، على اعتبار أنّ مصير إفريقيا وشتاتها جزء موحّد لا ينفصل، وكذلك تجاوز معاناة الماضي المؤلم من عبودية واستعمار ونهب وتفقير واستغلال مهمّ جدّا بالعمل والتطور.
في سياق متصل، اعتبر ما وصفه بـ»الشتات الإفريقي»، أنه ليس مجرّد هامش في تاريخ إفريقيا، لأنه - في الحقيقة - يعد عنوانا أساسيا في حاضر ومستقبل القارة السّمراء، وكشف أنّ أكثر من 350 مليون مهاجر من أصول إفريقية يتواجدون في الوقت الراهن خارج قارتهم الأمّ، ويساهمون باستمرار في بناء مجتمعات متطورة، وفوق ذلك تنبض بالحركية والحياة، في كل مكان من الكرة الأرضية في أوروبا وأمريكا وآسيا وما على غير ذلك. واقترح أوباسانجو استحداث «اللجنة العالمية لإفريقيا»، واتخاذها بمثابة آلية موحّدة دائمة من أجل تنسيق السياسات وفتح أبواب الاستثمار. رغم مرور أزيد من ستة عقود كاملة على استقلال الجزائر، مازالت صفحات التاريخ الثوري الجزائري الحافلة بالبطولة والتضحية، تمثل مصدر إلهام للشعوب الإفريقية، من بينهم الجالية الإفريقية بالمهجر، لأنها مفعمة بالقيم والتضحيات، وهي التضحيات التي ينبغي أن تستمر وسط الجالية الإفريقية بالمهجر، بحسب ما يراه المشاركون.
في هذا الإطار، تحدث الوزير الأول لسانت كيتس ونيفيس، تيرانس درو، مستذكرا التاريخ الثوري التحرّري الجزائري، وأشجع شعب حارب الاستعمار بالحديد والنار، وحوّل بلده إلى قبلة للحرية في القارة السّمراء، وساهم في استنهاض همم الشعوب الإفريقية ليحرّروا بلدانهم.
كما يرى المسؤول ذاته، أنه ينبغي أن يستثمر هذا الرّصيد في معارك جديدة للبناء وتنمية إفريقيا الثرية، المطالبة اليوم بالتحول الحتمي إلى إفريقيا العالمية، لأنّ الارتباط بالعالم والإنسانية ضروري لاستكمال رحلة المستقبل، وبما يسمح بافتكاك إفريقيا مكانتها الصحيحة والمرموقة، التي تستحقها بين بلدان العالم، ومن المنتظر أن تلعب الجالية الإفريقية بالمهجر دورا رياديا تنمويا سيغير المعادلة الراهنة، من خلال دعم جهود التنمية وبداية إيجابية ومشجّعة كثيرا.
الاعتزاز بالانتماء والهوية
توقّع الوزير الأول لسانت كيتس ونيفيس، أنّ تمتين العلاقات وبناء روابط قوية بين الأفارقة، تفضي إلى زخم اقتصادي وثقافي بين شعوب القارة الواحدة، وتعزّز انتمائهم واعتزازهم بهويتهم الإفريقية.
واستحسن المشاركون في اليوم الإفريقي للجالية بالمهجر، وفي صدارتهم رئيسة وزراء بربادوس، ميا أمور موتلي، ميلاد اللجنة العالمية لإفريقيا ووصفتها بالفكرة الجديدة والمهمة، مراهنة كثيرا على تسخير قوة إفريقيا عالميا، من أجل إثبات نفسها وجعل العالم يضع لها ألف حساب، من خلال التأثير في الأسواق وكذلك في السياسات العالمية. وشجّعت كثيرا التظاهرات الرامية إلى تنويع وتقوية التبادل الإفريقي في التجارة والاستثمار، وفتح المجال واسعا أمام المهتمّين بالاستثمار، خاصة أنّ إفريقيا عانت طويلا في الماضي من الاستعمار وحان الوقت لتتجاوزه بالتعاون والوحدة، في ظل عولمة رهيبة وتطور تكنولوجي سريع، مطالبة بمواكبته قبل فوات الأوان.
تحدّث الجزائري المغترب شفيق قاسمي عن تجربته بالمهجر لمدة عقود، وعلى خلفية أنه خاض تجربة علمية مهمة، ومستعد لتحويل ما اكتسبه إلى بلده وترجمة ما اكتسبه من خبرات علمية ومهنية لبلده الأمّ، وقال إنّ التحكّم في اللغة الانجليزية بات ضروريا ومفتاحا من أجل تحويل العلم والتكنولوجيا، وخصّصت الجزائر العديد من البرامج من أجل تشجيع استثمارات الجالية بالمهجر، عبر إدراج العديد من التسهيلات في استيراد المعدات، وفتحت لها المجال لإنشاء شركات بالعملة الصعبة أو بالعملة المحلية، وصارت تشجّع كثيرا مشاركة الكفاءات بالخارج ومحاولة ربطها بالجامعات ومراكز البحث الجزائرية، على غرار مبادرات «جسور» للتواصل العلمي، وتنظيم مؤتمرات تجمع الباحثين الجزائريّين بالمهجر. وكان الرّئيس تبون قد أنشأ وزارة خاصة بالجالية الوطنية بالخارج ،من أجل التقرّب من انشغالاتها ومتابعة شؤونها، وكذاك الاستماع إليها وتقديم الدعم الذي تستحقه، كما أنه يحرص في جميع زياراته للخارج، على لقاء الجالية الجزائرية بالمهجر، بالإضافة إلى تنظيم منتديات اقتصادية ودبلوماسية يشارك فيها رجال أعمال من المهجر، بهدف ربطهم بالفرص وشرح المزايا والتحفيزات المتوفرة داخل الجزائر، في ظل الحرص القائم من أجل فتح المجال للجالية لإقامة مشاريع منتجة في وطنهم للاندماج في معركة التنمية الوطنية.
تقاطع مشاركون في أشغال اللقاء، في التأكيد أنّ المستحدث للجالية بالمهجر، والذي يمثل وقفة اعتراف حقيقية لأهمية الجالية المهاجرة في المساهمة في بناء أوطانها وقارتها، أنه مازال ينظر للجاليات الإفريقية في المهجر كرافعة تنموية مهمة في بلدانها الأصلية، على عدة أصعدة وعلى غرار ما توفّره من تحويلات مالية لعائلاتها ومدى مساهمتها في توفير العملة الصعبة، والمساهمة كذلك في دعم الاقتصاد المحلي عبر تأسيس مشاريع استثمارية تخلق الثروة وتستحدث مناصب الشغل وتنقل الخبرة والتكنولوجيا المستعملة في بلدان متطورة في عدة مجالات، مثل التجارة، والفلاحة وكذلك في الصناعة والخدمات والسياحة.
أما على صعيد دعم التعليم والبحث العلمي، لا تبخل الكثير من الكفاءات بالمهجر عندما تجد التشجيع والأبواب مفتوحة في المشاركة في توأمة الجامعات، وتكوين الطلبة ونقل جزء من خبرتها إلى مخابر البحث والطلبة في بلدانها الأصلية، لذا اتفق الجميع أنّ الجاليات الإفريقية في الخارج ليست فقط مصدرا للتحويلات المالية، بل أيضا موردا للخبرات، وفاعلا في الاستثمار، وشريكا محوريا في التنمية المستدامة.