ديـون وعجز مزمن وانسـداد سياسي يهدد مستقبل باريــس

عواصف خارجية وزلازل داخليـة تحاصر النظـام الفرنسي المفلس

علي مجالدي

 مزيدٌ من الفشل والخيبة تنهك لاعبين دوليين يتحركون بلا أثقالٍ تاريخية

تتشكل في فرنسا هذا العام، لوحةٌ اجتماعية معقدة تُظهر أثر الديون والعجز المزمن في تفاصيل الحياة اليومية أكثر مما تُظهره مؤشرات النمو المتواضعة. حيث ترتفع كلفة العيش مع تعديلٍ ضريبي على عقود الطاقة يزيد الفواتير، فيما تتبدل التعريفات المنظمة للكهرباء ويُعاد توزيع الأعباء بين المشترك والاستهلاك، وهو ما يضغط على الأسر متوسطة الدخل ويقيّد ميزانيات البلديات والمؤسسات العامة.

في سياق متصل، تتلقى المستشفيات إشعاراتٍ بالاستعداد لسيناريوهات طوارئ كبرى خلال الأشهر المقبلة، ما يكشف هشاشة منظومة صحية أنهكتها موجات سابقة من الضغط ونقص الكوادر والتمويل، ويضع النقاش الداخلي أمام سؤالٍ مباشر: كيف يمكن لبلدٍ مثقل بخدمة ديْن مرتفع أن يحافظ على جودة خدماته الأساسية دون إعادة تعريفٍ جذرية لأولوياته؟ تتأكد القتامة بالمعطيات الاجتماعية الصلبة.
وسجّل معدل الفقر النقدي في أعلى مستوياته منذ ثلاثة عقود، ما يعني اتساع قاعدة الأسر التي تعيش تحت عتبة العوز، بالرغم من الإنفاق الاجتماعي المعتبر. كذلك تتسع دائرة «المال- سكن» من بلا مأوى ومكتظين في مساكن غير لائقة، بينما يتراجع البناء السكني بفعل كلفة التمويل وجمود التصاريح وتردد المستثمرين. وتذهب تقديرات قطاع البناء والتشييد إلى انكماش جديد في 2025 مع بقاء منحنى الرخص منخفضا رغم محاولات إنعاش تمويل المساكن الأولى.
في نفس السياق، تؤكد تحقيقات ميدانية دورية في المدن الكبرى، ارتفاع أعداد من ينامون في العراء أو في مآوٍ مؤقتة. وتقر تقارير متخصصة بأن 2024 و2025 حملا انتكاسة واضحة في سياسات السكن الاجتماعي، وهو ما ينعكس مباشرة على سوق الإيجار ووطأة الكلفة على الطلبة والموظفين ذوي الدخل المحدود.
اقتصاديا، لا تتعلق المشكلة بسنةٍ سيئة بقدر ما ترتبط بمسار نمو اسمي بطيء منذ 2008، وفجوة إنتاجية لا تُغلق، وخدمة دين تلتهم حصةً متزايدة من الموازنة، ما يجعل كل خيارٍ تمويليٍّ جديد مرادفا لتقليصٍ في بندٍ اجتماعي أو استثمارٍ مؤجل في البنية التحتية.
علاوة على ذلك، يستمر العجز التجاري السنوي مرتفعا، فيما يضغط تراجع البناء وضعف الاستثمارات الخاصة على سلاسل القيمة المحلية. وحين تُضاف صدمات الطاقة والانتقال البيئي المكلِّف إلى هذه الطبقة من الاختلالات، يصبح «الوفاء الاجتماعي» التقليدي أقل قابليةً للاستدامة، ما لم تُبنَ معادلةٌ جديدة لتوزيع الأعباء والعوائد.
خارجيا، تتقاطع هذه الهشاشة مع تآكل نفوذٍ فرنسيٍ ممتد في إفريقيا. الانسحابات العسكرية من الساحل، وإعادة التموضع القسري في غرب القارة، وتراجع الرافعة الرمزية لباريس.. كلها وقائع تُلزم صنّاع القرار بقراءةٍ مختلفة للخريطة ونظرتهم العلوية لها، لأن إفريقيا اليوم تكتب صفحة سيادةٍ اقتصاديةٍ جديدة بأدواتٍ مؤسساتية وقارية لا بعقودٍ انتقائية.
والجزائر تستضيف المعرض القاري للتجارة البينية وتدفع بمنطق «الأفضلية الإفريقية» وتوطين سلاسل القيمة، واتفاقات بمليارات الدولارات تضع العواصم الإفريقية في مدار تعاونٍ أفقيٍ متنامٍ، ما يعني ببساطة أن النفوذ يُقاس بحجم الاستثمار الحقيقي ونقل التكنولوجيا والاندماج التصنيعي، لا بخطابات الذاكرة ولا بإملاءات مشروطة.
في هذا السياق، تبدو فرنسا مطالَبة بتغيير جذري لمنطق تعاملها مع الدول الإفريقية والانتقال من خطاب الوصاية القديمة إلى شراكاتٍ نديّة، وإلا ستجد نفسها خارج موجة الاندماج القاري التي تتحرك بسرعة.
أما العلاقة مع الجزائر فتتجه، منذ أشهر، إلى توترٍ معلن، حيث تستخدم فرنسا، يدفعها في ذلك اليمين المتطرف، التأشيرات كوسيلة ضغط ضد الجزائر مع سجال سياسي وإعلامي يغذيه مزاج شعبوي يعتبر الجاليات، وعلى رأسها الجالية الجزائرية، شماعة لفشل السياسات الداخلية، وهذا المسار لا يخدم باريس ولا يعكس ميزان المصالح الحقيقية.
 كما أنه يفوّت فرصا عملية في الطاقة والصناعة والخدمات اللوجستية، كان يمكن أن تُبنى عليها شراكاتٌ رابحة في ضوء التحولات الإفريقية الجارية. فالجزائر تتموضع كمحورٍ قاري في التجارة والربط الطاقوي واللوجستي بين ضفتي المتوسط، وأي اصطفاف فرنسي ضد هذا المنحى سيقود إلى مزيدٍ من الانكماش في الحضور الاقتصادي الفرنسي لصالح لاعبين دوليين يتحركون بلا أثقالٍ تاريخية.
تقف فرنسا أمام منعطفٍ لا تُعالَج فيه الأعطاب بخطابٍ هوياتي أو إجراءاتٍ رمزية. والطريق الأقصر لاستعادة التوازن يمر عبر اعترافٍ صريح بحدود نموذجٍ اجتماعي مُثقلٍ بخدمة الدين، وإعادة ترتيبٍ شجاع للأولويات يحمي التعليم والصحة والسكن الأساسي أو يعيد إطلاق الاستثمار المنتج، مع تخفيضٍ تدريجيٍ منضبط للعجز لا يُسحقُ خلاله الضعفاء.
وفي الجوار الجنوبي، الخيار العقلاني هو فتح صفحةٍ عملية مع الجزائر والاندماج بذكاءٍ في التكامل الإفريقي الصاعد، لأن البديل واضح: مزيدٌ من فقدان الحصص الاقتصادية ومزيدٌ من العزلة عن خرائط القيمة الجديدة في القارة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19871

العدد 19871

الثلاثاء 09 سبتمبر 2025
العدد 19870

العدد 19870

الإثنين 08 سبتمبر 2025
العدد 19869

العدد 19869

الأحد 07 سبتمبر 2025
19868

19868

السبت 06 سبتمبر 2025