تحرّكت بسرعة وببوصلة واضحة ضد الاعتداء على الدوحة

جزائر الأحـرار.. دبلوماسية سيّدة في مواجهــة الجرائـم الصهيــونيـة

علي مجالدي

مواقف ثابتــة تضـع مجلس الأمن أمــام مسؤوليته التاريخيـة

كشف الاعتداء الأخير على العاصمة القطرية الدوحة، عن جوهر اللحظة الإقليمية بكل تناقضاتها، إذ تمدّد منطق القوة خارج القانون ليطال عاصمةً عربية جديدة ويضع المنطقة برمتها أمام سؤال الاستقرار. وفي المقابل تحرّكت الجزائر بسرعة وبوصلة واضحة معروفة عنها لتربط بين الحدث ومساره الأعمق.

المشكلة ليست في صاروخٍ سقط هنا أو هناك، بل في منظومة احتلالٍ صهيوني تتوسّع حين تُترك بلا كلفة سياسية أو قانونية. ومن هنا جاء الدفع الجزائري نحو اجتماع عاجل لمجلس الأمن بوصفه خطوةً لازمة لإعادة الاعتداء إلى موضعه الصحيح في قواعد السلم والأمن الدوليين. كما جاء التأكيد المتجدد على أن سلامًا بلا دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، ليس سوى إدارة لفراغٍ سياسي يلد أزماتٍ جديدة، وبذلك أعادت الجزائر ترتيب المشهد من خلال ردع قانوني، مسار سياسي على أساس الحقوق، وموقف عربي يرفض تحويل العواصم إلى ساحات مفتوحة لتصفية الحسابات.
ما تطرحه الجزائر ليس رد فعل عابرًا، بل امتداد لسرديةٍ عملت عليها منذ سنوات، فالقضية الفلسطينية لديها ليست ملفًّا إنسانيا يُعالَج بإغاثةٍ مؤقتة، بل قضية تصفية استعمار استيطاني تستند إلى ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها. لذلك ظل خطاب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يؤكد، أن قيام الدولة الفلسطينية شرطٌ مسبق لأي تسوية متوازنة. وفي نفس السياق، جاء الرفض الصارم للتطبيع المجاني، لأنه يمنح الاحتلال مكاسب سياسية بلا ثمن حقوقي ويُشرعن استدامة القوة تحت لافتة «الاستقرار».
علاوة على ذلك، تتعامل الجزائر مع غزة باعتبارها مرآة تكشف حدود المنظومة الدولية حين تتساهل مع انتهاك القانون، وتتعامل مع الاعتداء على الدوحة باعتباره إنذارًا إضافيًا على الطريق نفسه، حيث لا يمكن فصل الساحات عن بعضها حين يكون الفاعل واحدًا والمنهج واحدًا.
عمليًّا ترجمت الجزائر هذه الرؤية إلى أفعالٍ تراكمية، فقد رعت في أكتوبر 2022 لقاءً فلسطينيًا واسعًا جمع أكثر من أربعة عشر فصيلاً لإعادة بناء البيت الداخلي وإحياء المسار الانتخابي على قاعدة برنامجٍ وطني مشترك، ثم انتقلت مع بداية 2024 إلى دائرة الفعل الأممي من موقع العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، فدفعت بمشروعات قرارات لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين، كما أيّدت تحويل تدابير محكمة العدل الدولية إلى التزاماتٍ تُتابع داخل المجلس لا مجرد نصوصٍ تفسيرية تبقى على الرف. وبالإضافة إلى ذلك، أعادت تأكيد أن الإفلات من العقاب ليس قدرًا سياسيًّا وأن مساءلة المسؤولين عن الجرائم جزء من بناء الردع وليست تفصيلًا أخلاقيًا.
كذلك، يتسق هذا النهج مع قراءةٍ شاملة لمشهد القوة في المنطقة، إذ تُظهر الوقائع أن الطرف الذي يوسّع الاستيطان ويقصف البنى الإنسانية في غزة هو ذاته الذي يمدّ نطاق الاعتداءات خارج حدود النزاع المباشر كلما شعر أن كلفة أفعاله منخفضة.
لذلك ترى الجزائر أن وقف إطلاق النار في غزة ليس نهاية مسار، بل بدايته الطبيعية، لأنه يفتح الباب أمام تسويةٍ سياسية تستند إلى القانون لا إلى توازناتٍ عابرة. وفي نفس السياق، تؤكد أن حماية سيادة الدول العربية ركيزةٌ للأمن الإقليمي لا تُجزَّأ، ومن يعتدي على عاصمة اليوم يُهدد منظومة الردع كلها غدًا. وعليه، فإن الاجتماع العاجل لمجلس الأمن يجب أن يخرج بتوصيفٍ قانوني واضح لما حدث وبمجموعة إجراءات تمنع تكراره وتضيّق هامش الحركة على من يريد تعميم الفوضى.
على المستوى السياسي، تتحرك المقاربة الجزائرية على ثلاثة محاور متداخلة تصنع سلاسة منطقية بين المبدإ والأداة والنتيجة؛ الأول تثبيت الشرعية التاريخية والقانونية لحق تقرير المصير وإعادة فلسطين إلى إطارها الصحيح بوصفها آخر ملفات إنهاء الاستعمار في الشرق الأوسط. والمحور الثاني، تفعيل مؤسسات الأمم المتحدة بوصفها منظومةً مُلزِمة لا منصة بيانات، أي تحويل قرارات القضاء الدولي إلى آليات متابعة ومحاسبة داخل المجلس، مع جداول زمنية ومؤشرات تنفيذ.
والمحور الثالث، بناء كتلةٍ دولية ترفع الكلفة السياسية لاستدامة الحرب وتمنع تطبيع الجريمة عبر تحالفٍ واضح العناوين، يضم دولًا عربية وإفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية تتقاطع مصالحها عند قاعدة واحدة: لا أمن بلا قانون ولا استقرار بلا حقوق.
في هذا الإطار، يتجاوز الدور الجزائري حدود التعبير السياسي التقليدي نحو صناعة بيئةٍ قانونية تُقيد شهية القوة، إذ لا معنى لوقفٍ هشٍّ للنار إذا لم تُرفَق به ضماناتٌ قضائية وسياسية تحول دون الارتداد إلى المربع الأول.
كذلك لا معنى لأي حديثٍ عن «عودة الهدوء» إذا ظلّت الدولة الفلسطينية مؤجلة إلى إشعارٍ غير مسمى. وفي سياق متصل، تدفع الجزائر إلى تثبيت معادلةٍ بسيطة، لكنها حاسمة: حماية المدنيين في غزة، حماية سيادة الدول العربية من الاعتداءات العابرة للحدود، وإطلاق مسار دولتين على أساس 1967 مع آليات مساءلةٍ تضع خطوطًا حمراء لا يمكن عبورها بلا ثمن.
وعندما تُقرأ واقعة الدوحة ضمن هذا النسق، تبدو وظيفة الاجتماع العاجل لمجلس الأمن أوضح، فهو ليس مناسبة بروتوكولية لإطلاق مواقف عمومية، بل محطة اختبار لهيبة القانون الدولي وقدرته على الردع، فإن خرج المجلس بإدانةٍ صريحة وتدابير ملزمة، فقد جرى تثبيت قاعدة عامة تمنع تحويل العواصم إلى أهدافٍ عسكرية وتمنح الفلسطينيين طريقًا سياسيًا واضحًا نحو دولتهم، وإن اكتفى بعباراتٍ مقتضبة فإنه يرسل إشارة خاطئة لكل من يراهن على تعميم الفوضى ويقوّض ثقة الشعوب في المنظومة الأممية، ومن هنا تصوغ الجزائر تحركها كاستثمارٍ في أمنٍ إقليمي طويل الأجل لا كموقفٍ انفعالي يعبر ثم يختفي.
وخلاصة الصورة، أن الاعتداء الصهيوني على الدوحة أعاد التذكير بحدّين لا ثالث لهما؛ حدّ يقف عنده القانون فتتراجع القوة إلى إطارها المشروع. وحدّ ينكسر فيه القانون فتتمدّد الفوضى على حساب الجميع.
والجزائر برهان عملي على أن الطريق الأول ممكن حين تتوافر إرادة سياسية تَعدّ القانون أداة ردع لا مرجعًا شكليًا وتَعدّ الدولة الفلسطينية جزءًا من معادلة الأمن لا بندًا تفاوضيًا قابلًا للتأجيل، وبذلك تتقدم الجزائر في قلب المشهد وتضع مجلس الأمن أمام مسؤوليته الأصلية: حماية السلم وصون السيادة وكبح القوة حين تنفلت من كل قيد، وما بعد هذه الجلسة ينبغي أن يكون مختلفًا عمّا قبلها عبر وقفٍ فوري لإطلاق النار في غزة ومسارٍ سياسي على أساس دولتين ومساءلةٍ قضائية تضع حدًّا لزمن الإفلات من العقاب حتى تستعيد المنطقة حقها في الاستقرار على قاعدةٍ عادلة لا على هدنةٍ مؤقتة تُرحِّل المشكلة إلى وقتٍ آخر.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19872

العدد 19872

الأربعاء 10 سبتمبر 2025
العدد 19871

العدد 19871

الثلاثاء 09 سبتمبر 2025
العدد 19870

العدد 19870

الإثنين 08 سبتمبر 2025
العدد 19869

العدد 19869

الأحد 07 سبتمبر 2025