تسقط أمام التاريخ كل الاعتبارات مثلما سقطت عشية اندلاع ثورة أول نوفمبر التي انتشلت الشعب الجزائري من أتون صراع الزعامات. ويعود مجددا الحديث عن التاريخ ومكانته في المشهد الاجتماعي بمناسبة ذكرى عيد النصر الموافق لـ19 مارس، انطلاقا من أن الوعي التاريخي أصبح أحد متطلبات بناء وتعزيز الجبهة الداخلية لوضع المجتمع في منأى عن أي خطر محتمل، خاصة في ضوء ما يجري حول الجزائر من أحداث تستهدف الاستقرار الإقليمي.
يؤكد عبد المجيد شيخي المدير العام للأرشيف الوطني، أن بناء سلم الوعي التاريخي يتم على مستوى الأسرة فالمدرسة والمجتمع لإسقاط مشروع تسويق الإحباط في أوساط الشباب الذي يسقط في شراك المتربصين بالجزائر من خلال استغلال مغرض لظاهرة اختلاف وجهات النظر التي تلقي بظلالها على الساحة التاريخية وتخص أحداثا وشخصيات. وكمثال عن تأثر الشباب بمدى الضبابية التي يحاول البعض لفها على التاريخ الوطني، أشار إلى صدمة إصابته حينما كان يلقي محاضرة بجامعة الأغواط حيث واجهه طالب تأثر بخطاب أن لا شيء حدث فتبين مدى خطر انعدام الوعي التاريخي قبل أن يشرح له بالمقارنة حجم التغيرات التي أحدثتها الثورة التحريرية على كافة الأصعدة وأبرزها الإنسان الجزائري الذي يعيش منذ استرجاع السيادة الوطنية في كنف الحرية والكرامة ويتطلع للأفضل خلافا لذلك الجيل الذي عانى طويلا من ليل الاستعمار بل الاستدمار على حد تعبير المرحوم نايت بلقاسم.
ويعتبر شيخي منطلقا من الغوص في التاريخ الوطني أن الوعي يؤسس أساسا في الأسرة ويترسخ في المدرسة ليتعمق ويتجذر في الجامعة ولذلك لا يعقل أن يخاطب الطفل بلغة لا يدركها أو يصدم بسلوكات متناقضة في المجتمع، بينما الأصل أن يساهم الوالدان في تغذية الوعي التاريخي للناشئة لتقوية جانب الثقة في النفس وتنمية توازن الشخصية ليكون جيل اليوم على درجة من القوة لمواجهة تحديات المستقبل. ويؤكد أن اكتساب هذه المناعة يبدأ من الكتاب المدرسي الذي ينبغي أن يخضع لمعادلة الموضوعية في معالجة التاريخ ولا يتوقف عند الجزئيات المثيرة لنقاشات تتضمن إثارة الرأي العام وتغذي التشكيك فتنعكس سلبا درجة الوعي التاريخي الذي يشكل حلقة جوهرية في الوعي السياسي.
وبلغة واضحة حمل المسؤولية أيضا للقائمين على الشأن التربوي والتعليمي، يتقدمهم المعلم في جميع الأطوار كونه مطالب بأن يتعامل مع مادة التاريخ بأسلوب جذاب ومثير للاهتمام خارج النمط التقليدي الجاف، مع إحداث ربط مقارن بين الحقبة الاستعمارية المتميزة بالدمار والخراب وتجهيل الشعب ومرحلة ما بعد استرجاع السيادة الوطنية المتميزة بالمكاسب والإنجازات. ويندرج هذا في سياق تأسيس المواطنة التي تتطلب إعطاءها محتوى حي من خلال تجاوز مرحلة إقناع المجتمع بأهمية التاريخ ليتحول إلى مكسب يتقاسمه الجميع.
ونفى المسؤولية عن المنظومة التربوية بشأن التقصير في تناول التاريخ بنجاعة، محملا المعلم عموما التقصير في تدريس التاريخ بمنهجية وأسلوب أداء مشوق والتزام الذكاء في تدريس البرنامج لتجنيب الشباب التأثيرات السلبية التي تبث حوله خاصة وأن العولمة تستهدف المجتمعات الناشئة عن طريق ترويج مغالطات من خلال ضرب الجانب التاريخي للشعوب.
انفتاح على الجمهور وتركيز على التكوين
أعلن عبد المجيد شيخي مدير عام الأرشيف الوطني عن إطلاق برنامج لنشاطات جوارية يشرع في تجسيده قبل شهر رمضان، مؤكدا أن الأرشيف يفتح أبوابه لكافة المهتمين. وكانت للأرشيف تجربة قبل سنتين أنجز فيه برنامجا موجها للجمهور وحقق صدى كبيرا في أوساط المجتمع الذي يولي أهمية كبيرة للماضي العميق. وأوضح أن الجديد هذه المرة يتمثل في تنظيم لقاءات متنوعة خارج المواعيد الوطنية والمناسبات التاريخية وطرح مواضيع متجددة تهم الرأي العام وتساهم في تطهير الساحة التي تحمل نقاشات يحتاج أغلبها للتدقيق.
ويندرج هذا التوجه أيضا في إطار التصدي لكل ما يسيء للتاريخ الجزائري مع بناء علاقة منسجمة مع الإعلام الوطني الذي أظهر رغبة في تحسين الأداء تجاه التاريخ، مما يتطلب مساهمة الأرشيف في تزويد النقاش والبحث بالوثائق وعرض التراث التاريخي على امتداد الزمن.
وتحسبا لهذا التحدي فإن الرهان يبقى في التركيز على تنمية مسار التكوين للعاملين في مصالح الأرشيف يقول محدثنا، بحيث من المهم أن يتحكم العامل الأرشيفي في تقنيات معالجة الوثائق المتداولة وكيفية تقديمها للباحث مع التزام قواعد تأمينها وضمان حماية حقوق أصحابها مثل العائلات التي لديها آثار في الأرشيف بحكم الإجراءات الإدارية ويتم تناول تلك الوثائق المصنفة لتكون قابلة للتبليغ بمنهج احترافي، بحيث يمكن للباحث أن يحصل على المعلومة المطلوبة في إطار حماية حقوق الأطراف المعنية.
ويشمل التكوين جانب إتقان اللغات خاصة القديمة لتشخيص وترجمة الوثائق التي يعود تاريخها لحقب قديمة مثل الدفاتر المكتوبة باللغة العثمانية، بحيث يجري تكوين موارد بشرية في هذا المجال لتسليط الضوء على الأرشيف العثماني التركي الذي أوفد على حسابه أستاذا اشتغل طيلة سنة بالجزائر، فيما أرسلت بعثة أرشيفية إلى تركيا حيث استقبلوا واستفادوا من تكوين في اللغة.