في ظل التهديدات المتعددة التي تتربص ببلادنا

مناعة الجزائر في المرجعية النوفمبرية

أمين بلعمري

إن القول بأن الثورة الجزائرية لم تكن تضم في صفوفها مثقفين ومفكرين وإنها ثورة تفتقد إلى منظّرين، على غرار الثورات الأخرى، كالبلشفية أو الفرنسية، هو كلام يجافي الواقع، حيث نكتشف في كل مرة عينات من المثقفين والباحثين الذين كانوا في صفوف جيش وجبهة التحرير الوطني تدحض هذه الدعاية المغرضة الهادفة إلى تشويه ثورة نوفمبر المجيدة التي تعتبر، بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، أكبر ثورة شهدها القرن العشرون، لأنها قوّضت النظام الاستعماري وضربت فلسفته في الصميم.
المجاهد محمد الصالح حسناوي، صاحب كتاب «الاستعمار الفرنسي للجزائر: حصيلة جمر ورماد» والحاصل على درجة دكتوراه من جامعة السوربون - وهي إحدى أعرق الجامعات الفرنسية - ماهو إلا عينة من المجاهدين الذين شاركوا في الكفاح المسلح خلال حرب التحرير، ثم شاركوا لاحقا في معركة البناء بعد الاستقلال، أين كان إلى جانب ثلة من المجاهدين الذين تحملوا هذه المسؤولية مرة ثانية ورفعوا تحدي تسيير المؤسسات بعد سحب فرنسا لكل كوادرها وموظفيها مباشرة بعد الاستقلال، انتقاما من الشعب الجزائري الذي اختار استعادة حريته وتحمل تبعات ذلك، رغم أن المهمة لم تكن سهلة، لكنها لم تكن مستحيلة كذلك على شعب هزم أعتى قوة استعمارية في القرن العشرين.
صحيح أن الجزائر غداة الاستقلال لم يكن لديها إلا النزر القليل من الذين أفلتوا بأعجوبة من سياسات التجهيل التي كانت تمارسها فرنسا الاستعمارية ضد شعب بأكمله، لأنها كانت تدرك أن هذه الطريقة هي الوحيدة التي تعتمد عليها الفلسفة الكولونيالية لضمان البقاء والاستمرار ومواصلة عمليات السطو والنهب لخيرات ومقدرات مستعمراتها.
إن هذا العدد القليل من أولئك الذين كان لهم حظ الدخول إلى المدارس، ورغم محدودية مستواهم، فقد كان لهم الوعي الكافي بوطنهم وإيمانهم التام بأن الجزائر ليست قطعة من فرنسا وأن ثقافة الشعب الجزائري أبعد ما تكون عن الفرنسيين وكان لهؤلاء الفضل في زرع هذا التفكير في وسط من كانت تنعتهم فرنسا بالأهالي وكانت ترى أنهم لا يستحقون حتى حق الحياة إلا من أجل خدمة الأرض والزراعة كخماسين وأقنان في أراضيهم التي نهبها الإقطاعيون وذلك مثلهم مثل البهائم لخدمة المعمرين، عفوا المدمرين، الذين تم انتشالهم من غياهب السجون في قضايا قانون عام قبل أن تهديهم فرنسا الاستعمارية تلك الاراضي على طبق من ذهب من أجل خدمة الاقتصاد الإقطاعي الكونيالي الذي بدأت نهايته سنة 1954 في هذا مثل اليوم، بفضل ما قام به ثلة من أولئك المجاهدين والمناضلين الذين كانوا يحملون الفكر الثوري واستطاعوا نقله إلى الفلاحين والمزارعين في القرى والمداشر وهي المناطق التي تحولت لاحقا إلى حاضنة للثورة الجزائرية المظفرة.
في الأخير يبقى أنه من المغالطات الكبيرة التي مازال يروج لها البعض، سواء كان ذلك بنية حسنة أو سيئة، يجب أن تتم محاربتها ولا يتم ذلك إلا من خلال الترويج لما أنتجت الثورة الجزائرية من كفاءات علمية حملت على عاتقها مشعل مواصلة الكفاح السلمي من أجل بناء الدولة الجزائرية المستقلة ومؤسساتها. كما أن أولئك هم من يعوّل عليهم كثيرا في معركة الأرشيف وتصحيح الكثير من المغالطات التاريخية المقصودة التي مازالت تحجب الرؤية الواضحة عن شباب اليوم حول تاريخهم وتشوش أفكارهم حول الثورة التي قام بها أجدادهم وآباؤهم من أجل الاستقلال والحرية وبهذه الطريقة فقط نضمن لوهج ثورة نوفمبر الاستمرارية ونجعل الشباب يستلم المشعل وهو يفتخر بهذا الميراث المليئ بالتضحيات والملاحم البطولية الرائعة، لكي لا تعود علينا هذه المحطة التاريخية كأنها روتين سنوي ولكن محطة لتجديد العهد مع الوطن وعهد الوطن هو عهد الشهداء الذين حمّلوا كل واحد منا هذه الأمانة الثقيلة التي تنوء بحملها الجبال، كما يجب أن تكون ذكرى أول نوفمبر مناسبة ليسأل كل واحد منا نفسه ماذا فعل من أجل صيانة هذه الأمانة؟ وعند هذا فقط تضمحل كل التهديدات المتعددة التي تحيط بنا وتسقط كل المؤامرات التي تحاك ضدنا من هنا وهناك.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19876

العدد 19876

الأحد 14 سبتمبر 2025
العدد 19875

العدد 19875

الأحد 14 سبتمبر 2025
العدد 19874

العدد 19874

السبت 13 سبتمبر 2025
العدد 19872

العدد 19872

الأربعاء 10 سبتمبر 2025