الباحث بلحاج محمد من وهران:

المظاهرات استفتاء تقرير مصير قبل الأوان

شدّد الباحث الجزائري الدكتور بلحاج محمد على أهميّة تحري الدقة والمصداقية عند تناول المواضيع التاريخية، قائلا إن “أحداث 11 ديسمبر1960  لا تندرج تحت إطار المظاهرات بشكلها المتعارف عليه، إنما هي مظاهرات مضادة ورد فعل غير متوقع على المظاهرات التي قام بها المعمرون وغلاة الاستعمار”.

استدلّ بلحاج وهو أستاذ بجامعة سيدي بلعباس ومتعاون بجامعة وهران له عدة دراسات وأبحاث حول تاريخ الجزائر، على ذلك بما يسمى بالجبهة الفرنسية الجزائرية (أو Front de l’Algérie Française أو FAF) وهي حركة سياسية وعسكرية، أنشأها في هذه المرحلة بالذات المعمرون الفرنسيون والحركى لتأييد مشروع الجزائر الفرنسية.
كان من أهم أعضائها ولد بوعلام سعيد المدعو بوعلام باشاغا، الذي أنشأ خلال هذه المرحلة أكبر جيش من الحركى لمحاربة جبهة التحرير الوطنية. كان أبوه مجندا في الجيش الفرنسي فأدخله مدرسة أشبال الجيش الفرنسي وعمره لم يتجاوز 13 سنة عام 1919 إلى غاية 1924، وأصبح بعدها ضابطا في الجيش الفرنسي بالفيلق الأول للقناصة الجزائريين.
وعاد بلحاج ليؤكد أنّ المظاهرات التي انطلقت بمبادرة من المعمرين يوم 9 ديسمبر 1960 بعين تموشنت، المنطقة المعروفة بالمعمرين، ولهذا أخذ الشعب الجزائري بزمام المبادرة فظهر ما يسمى بالشعارات والرايات الوطنية التي تدل على سعي الشعب الجزائري إلى فرض وجوده على أساس مبدأ “كن أو لا تكن” في إشارة منه إلى الانقسامات التي شهدتها الساحة السياسية الاستعمارية خلال فترة زيارة ديغول إلى الجزائر في إطار تنفيذ مشروعه الجديد” الجزائر جزائرية”.
ثم عقّب قائلا: ولكن الانطلاقة الحقيقية للمظاهرات، كانت من عاصمة الغرب الجزائري، وهران، مستشهدا بسكان المدينة الذين درسوا بثانوية “باستور” من الذين يتذكّرون هذا اليوم جيدا، خاصة وأنّ الأحداث ظهرت في ساحة الانتصار، التي كان على مستواها مقر  للجبهة الفرنسية الجزائرية، من خلال ما يسمى بالإضراب عن كل المؤسسات الموجودة سواء كانت عمومية أو حرّة تجارية، الذي فرضه المعمرون والأوربيون عامة في محاولة منهم لممارسة نوع من القوّة والإكراه لتوسيع نطاق المظاهرات في وسط المدينة.
وهنا أشار الدكتور  إلى أحداث شغب ظهرت في وهران رغم أنّ  الجنرال ديغول لم يزرها في إشارة منه إلى  شارع غاليني ونهج الصومام وساحة أول نوفمبر “بلازدارم” سابقا وعديد المواقع الحساسة على غرار مقر ولاية وهران الحالي الذي تعرض قبل استلامه في 1960 لمحاولات الحرق والإتلاف، وصولا إلى حي المقري “سنتوجان” سابقا، أين استهدف الأوربيون مقر حركة دعم الجنرال “ديغول”  وكذا مقر الإذاعة والتلفزيون في حي مولود فرعون “سيتي بيري” سابقا.
تابع موضحا: “هنا وجد الجزائريون في مدينة وهران أنفسهم ملزمين بالرد من خلال سكان الأحياء المجاورة، وأعمال الشغب المضادة للاستعمار بحي بلونتار والحمري والمدينة الجديدة وابن سينا “فيكتور هيجو” سابقا، وكذا نهج سيدي الشحمي و البركي وغيرها من الأحياء الأخرى ولاسيما بحي البدر،  في محاولات لاقتحام المدينة الأوربية وغلق منافذ وهران، الوحيدة التي لم يقع فيها انقلاب ديمغرافي لصالح العنصر الجزائري، و كان فيها العنصر الأوربي بقوّة”.
وحول ما تناولته الصحافة  الفرنسية قال الدكتور إنها أكدت آنذاك أن أول ضحايا مظاهرات 11 ديسمبر  سقطوا في مدينة وهران، كما تتكلم ذات المصادر على حوالي 18 شهيدا، وهنا عقّب المتحدث قائلا : “ لما تكون المصادر رسمية يشوبها الكثير من التعتيم، لاسيما وأنّ السلطات الفرنسية تعاملت مع المظاهرات على أساس الكيل بمكيالين: فحين  تتكلّم عن الأوربيين وغلاة الاستعمار تلقّبهم بالمتظاهرين وتضعهم في ثوب الضحية الذي يبحث عن الاستقرار والأمن، على الرغم من أنه أول من بدأ المظاهرات وتصف الجزائريين باللصوص المجرمين مثيري الشغب، وهي حقائق موجودة بجريدة صدى وهران الاستعمارية” على سبيل المثال.
وفي تحليله لـ(سير الأحداث) قام بتقسيمها إلى ثلاثة مجموعات رئيسية: المعمّرون المناهضون لسياسة ديغول  وهم الذين قاموا بمظاهرات 9 ديسمبر 1960 في عين تموشنت ضد زيارة الجنرال ديغول محاولين إحباط برنامجه المبني على” الجزائر جزائرية” وحاملين لواء “الجزائر فرنسية”  وأنصار “الديغولية” من الفرنسيين  والجزائريين من البرجوازيين وبعض البرلمانيين المقتنعين بسياسته، وهي المجموعات التي خرجت في مظاهرات لمساندة مشروع ديغول بإيعاز من حكومة باريس يوم 10 ديسمبر 1960 بغرض إفشال مشاريع المعمرين المناهضين لسياسة ديغول في الجزائر، شعارهم “الجزائر جزائرية” فيما تمثل التيار الوطني، حسب نفس التوضيحات، في الجماهير الشعبية التي دخلت حلبة الصراع بقوة كتعبير عن رفضها للمشروعين الأولين في مظاهرات يوم 11 ديسمبر 1960، عبرت من خلالها عن تمسكها بالاستقلال التام للجزائر.
وهي الشرارة التي أدت، بحسبه، إلى المظاهرات الكبرى ل 11 ديسمبر 1960 بالجزائر العاصمة وبباقي مناطق البلاد، لتأكيد مبدأ تقرير المصير للشعب الجزائري ضد سياسة الجنرال شارل ديغول الرامية إلى الإبقاء على الجزائر جزءا من فرنسا في إطار فكرة “الجزائر جزائرية” ومن جهة أخرى ضد موقف المعمرين الفرنسيين الذين ما زالوا يحلمون بفكرة الجزائر فرنسية.
ولفت المتحدث ذاته في هذا الصدد إلى الكلمة التي ألقاها الجنرال  ديغول خلال شروعه  في زيارة الجزائر في 9 ديسمبر  للإشراف شخصيا على تطبيق مخططاته وإثبات فكرة “الجزائر جزائرية”، حيث ألقى  الضوء على هذا الشعار ، قائلا إنّه “مصطلح مفخّخ لديه مدلول خطير جدا، خاصة وأن الغلاة وأيادي الاستعمار في الجزائر، كانوا يعتبرون أنفسهم جزائريين، لا سيما المولودون منهم بالجزائر”.
من هذا المنطلق جاء مصطلح أخر منافس “الجزائر مسلمة” كمعيار لتحديد المقومات الوطنية والتي يأتي على رأسها الدين الإسلامي، وقال إنّ غلاة الاستعمار أرادوا من خلال المظاهرات استمالة الشعب الجزائري  وتجنيده في صفوفهم وهذا أمر رفضه الجزائريون وأخذو المبادرة في مظاهرات شعبية، تميزت في الكثير من المناطق بتأطير محكم من قبل جبهة التحرير الوطني وحمل خلالها المتظاهرون العلم الوطني وشعارات كتب عليها” تحيا الجزائر”،” الجزائر مسلمة” ، “ تحيا جبهة التحرير الوطني”،” تحيا  حكومة الجزائر مؤقتة”، “ تحيا بن بلة”، “ تحيا فرحات عباس” و«فالتسقط الأقدام السوداء”.
وواصل حديثه بقوله إن مظاهرات 11 ديسمبر، واحدة من أكبر مقاييس درجة الوعي السياسي للشعب الجزائري بقضيته الوطنية”، كما أكّدت من جديد تلاحم  قيادة الثورة مع الجماهير الشعبية وتمسك الشعب بمبادئ جبهة التحرير الوطني للقضاء على سياسة ديغول الجديدة المتمثلة في فكرة “ الجزائر جزائرية” وفكرة المعمرين “ الجزائر فرنسية”، لاسيما بعد تحرك القضية الجزائرية في المحافل الدولية وخاصة منبر الأمم المتحدة وكسبها المزيد من تأييد الرأي العام الدولي لها، خاصة وأن الحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس الذي صرّح حينها قائلا “إنّ الجزائريين قد حقّقوا هدفهم”، وهو أول رد فعل رسمي حسب نفس المتحدّث.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024