«لنعش معا في سلام» متأصلة في المجتمع الجزائري
«عندما ترك المجتمع المسامحة» تاه في دروب العشرية السوداء
في المداشر والقرى جلس الجزائريون على الأرض يفترشون «الحصير» لا تميز فيهم عائلة ضحايا الإرهاب وعائلة الإرهابي او التائب، وكما فعل الأجداد لقرون خلت اجتمعوا في مجلس صلح فقط من اجل الجزائر و الأجيال الصاعدة ،...في صورة تعكس نُكران الذات بعيدا عن مشاعر الانتقام و الكراهية قرر الجزائريون فتح الباب لبصيص الامل في غد افضل، لتكون المصالحة الوطنية رسالة سلام أنهت مأساة حقيقية، ولشعاع النور الذي أخرجها من نفق مظلم كان يراد له ان يكون بلا مخرج....
شهادات حية نقلتها «الشعب» لأناس جعلوا من الجزائر أولويتهم الأولى ومستقبل الأجيال الصاعدة رهانهم الأكبر بعد الإعلان عن مشروع المصالحة الوطنية التي صوت عليها الشعب الجزائري في 2005، روايات حقيقية لضحايا العشرية السوداء تحكي عبر المسالك الوعرة للمناطق النائية التي تغلغلت اليها المأساة الوطنية كيف تحولت ايامهم الى عد تنازلي انتظارا للموت الذي كانت تفوح رائحته في كل مكان، شهادات تروي تفاصيلها المعنى الحقيقي لشعار «لنعش في سلام».
قلوب ثكلى جمَعها التسامح
في العامرية بعين تموشنت وفي صورة تجسدت فيها أسمي صور الانسان في حالاته السامية جلست عائلة أمير مجموعة إرهابية سابق وعائلة فقدت ابنها الوحيد على يد الإرهاب، جنبا الى جنب يطالبون المجتمع بتجاوز المأساة ليكبر الصغار في ظل الامن والأمان، وبعيدا عن الانتقام قالت أم الشرطي الذي قُتل على يد الإرهاب ان الميت لا عودة له من حياة البرزخ.
لكن الأطفال – حسب قولها - هم الأمانة التي يتوجب الحفاظ عليها بترك الضغائن و الانتقام و مشاعر الكره جانبا ليتحد الجميع من اجل الجزائر و سلامتها، وعلى يمينها قالت اخت الأمير السابق ان عائلتها عانت الويلات بسبب اخوها الذي اختار مساره و لم تختره العائلة له، كانوا هم أيضا ضحية أفعال لم يقم بها سوى فرد واحد من عائلتها ولكن وزرها وقع على العائلة بأسرها، لذلك قالت ان انسب حل للخروج من تلك الدوامة كان السلم الذي ترجمته المصالحة الوطنية التي صنعت الحدث على المستوى العالمي و عكست بقبول الشعب الجزائري لها على اختلاف شرائحه و توجهاته تشبت مجتمع كامل بالعيش في سلام.
اما الام خ- ب فقالت ان الإرهاب سرق منها فلذة كبدها قبل انهائه للخدمة العسكرية بشهرين فقط، كان عمره حينها لا يتجاوز واحد وعشرون سنة و عوض دخوله عليها بالبطاقة العسكرية عاد اليها و نعشه مسجى بالعلم الوطني، لكنها رغم ان دمعتها ما زالت تسيل على خدها عبرت عن قبولها للمصالحة الوطنية لأنها لا تريد لأمهات الجزائر ان تبقى تبكي أبنائها، ولا تتمنى ان تخسر الجزائر سلامها الى الابد، والمسامح – كما قالت-دائما كريم كرم الأرض الطاهرة التي يعيش عليها لذلك على القلوب ان تتحد لتأمين حياة امنة للأجيال الصاعدة و حتى لا تعيش ما عايشه من كانوا في سنهم في العشرية السوداء.
«نعيش في سلام» بعد عودتنا الى المجتمع
في أعالي جبل بوكحيل الذي يبعد 180 كم عن مقر ولاية المسيلة تقع قرية «قمرة» قرية عانت الامرين في فترة التسعينيات وبسبب ذلك سجلت أكثر من 400 ضحية إرهاب، «كمال» إرهابي تائب يقطن بالمنطقة كانت له كلمة في المصالحة الوطنية التي اعتبرها رسالة سلام وقال انه كان ينشط في جيجل اين بقي في جبالها لمدة تناهز الست سنوات بعد فراره من السجن الذي قضى فيه سنتين كاملتين، ولكن قانون الرحمة الذي سبق المصالحة منحة الفرصة للرجوع الى اهله والعيش وسط المجتمع الذي يعيش فيه، لان الغد لا يتحمل مآسي أخرى و لا جراح اكبر، فكانت المصالحة تجسيد حقيقي لرغبة قوية لشعب يبحث عن السلام و الوئام بعيدا عن الأحقاد و الضغائن.
اما «عزالدين» من العاصمة فلم يبتعد كثيرا عما قاله كمال اين أكد ان مفهوم المصالحة والمسامحة متأصل في المجتمع الجزائر ولقرون طويلة كانت جلسات الصلح في الاحياء والمداشر والقرى الوسيلة الناجعة للعيش بسلام في الجزائر ، ولأنه ممن سجنوا بعد القاء القبض عليه سنة 1990 لأشرافه على وسائل الاعلام للحزب المنحل، استفاد من قانون الرحمة الذي أعطاه حياة أخرى بخروجه الى الحرية، و شبّه المصالحة الوطنية في تلك الفترة بانها بمثابة الدواء الذي لا شفاء من داء الفتنة و حالة الا-أمن من دونه، و قال ان الجمرة التي حرقت قلوب الجزائريين لا بدا ان تطفئها المصالحة ليكون العيش في سلام حقيقة لا حلم بعيد منال، و يكون مستقبل الأجيال الصاعدة مشرقا في ظل مجتمع متشبع بقيم التسامح والسلم، لأنها عودة حقيقية الى جوهر المجتمع و اصالته.المفقودون أيضا كانوا طرفا مهما في العشرية السوداء ومازالوا يعيشون المأساة لأنهم لا يعرفون أي شيء عن ذويهم الذين اخذتهم ايادي مجهولة الى وجهة غير معروفة ما جعلهم يتساءلون الى اليوم عن النهاية التي آل اليها ذويهم، «سهيلة» واحدة من هؤلاء اخذ اخوها ذات ليلة من سنة 1993 من منزلهم في حي «لبروفال» بالقبة ومنذ تلك الساعة لم يجدوا له اثرا سألوا عنه في كل مكان و لكن لم ينعموا بالجواب الشافي فلا قبر يبكونه عنده و لا سجن يزورنه فيه، ولان اخاه انضم الى صفوف الشرطة كانت المصالحة الوطنية الوسيلة الوحيدة ليبقى في المنزل مع اسرته في حي عرف بـ»الساخن» في العشرية السوداء ، لذلك كانت والدتها دائما ما تعتبرها صفحة جديدة من السلم و الأمان في تاريخ الجزائر ، وان المجتمع عندما ابتعد عن قيمه سال دما وعندما عاد اليها بالمصالحة عاش في سلم و امان رغم كل المترصدين و الكائدين.
بن حبيلس: السلم قيمة إنسانية متجذرة في الجزائري
وحتى نلم بالموضوع أكثر سألت «الشعب» رئيسة الهلال الأحمر الجزائري سعيدة بن حبيلس التي تنقلت الى المناطق الريفية والنائية من اجل جمع عائلات ضحايا الإرهاب و العائلات الإرهابيين و التائبين في مكان واحد ليتسامح الجميع من اجل الجزائر، على اعتبار انها كانت قادت في تلك الفترة حملات تحسيسية حول ميثاق السلم و المصالحة الوطنية و قالت ان المصالحة الوطنية جاءت انطلاقا من قيم المجتمع الاصيلة، عاينت ام الشرطي الذي قتلته يد الإرهاب تحتضن ام الإرهابي التي لم تتوقف دموعها بسبب ما قام به ابنها بل اكثر من ذلك تعلمها قائلة «السماح، السماح» في صورة لا يمكن للمرء امامها الا تعظيم تلك النفوس الكبيرة، ولم تتغير تلك المشاهد لا في الشرق و لا في الغرب و لا في الشمال و لا الجنوب، فالكل اتحدوا حول دموع تبكي الجزائر.
في تلك الفترة كان حلم الشعب الجزائري استرجاع السلم والطمأنينة لان المعاناة عاشها الطرفين والكل كان مؤمن الا ملجأ ولا ارض له سوى الجزائر، وأكدت ان الناس الذين التقتهم حينها كانوا يبحثون عن مستقبل لأطفالهم وهي النظرة المستقبلية التي جمعت الجزائريين حول السلم والمصالحة.
واستذكرت بن حبيلس والد أحد الكشافة الذين قتلوا في مقبرة في الفاتح من نوفمبر في 1994 والذي التقته في 2005 في إطار الحملة التحسيسية لمشروع المصالحة وعندما سألته عن رأيه في هذه الخطوة اجابها ان المصالحة منحته الشعور بان ابنه ومن مات معه لم تذهب دماؤهم سدى بل كانت تضحيتهم من أجل السلم في الجزائر، وقال مؤكدا « الي فات مات» ما يعطينا رؤية شاملة عن الشعب الجزائري المتشبع بالروح الإنسانية، وهي الخاصية التي جعلت الجزائر تقترح على الأمم المتحدة هذا اليوم «لنعش في سلام».