العدالة الاجتماعية، التّضامن والتّسامح
المسار السياسي لبناء الدولة الوطنية حدّده بدقة بيان أول نوفمبر وعزّزته المواثيق الأساسية للثورة، أرضية الصومام،طرابلس الجزئر» بأبعادها المؤسساتية، مرجعيتها الخيارات المبدئية التي أملتها ظروف الكفاح المسلّح لاسترجاع السيادة المغيبة.
ومفهوم الدولة الوطنية ليس فلسفة أو تصوّرات نظرية غير قابلة للتطبيق أو تصنّف في خانة الطوباوية، وإنما هي امتداد في أعماق الحركة الثورية الجزائرية بقيادة «حزب الشعب» في أواخر الثلاثينات، الذي أدرج في أدبياته مبدأ الاستقلال وما بعد ذلك هي نظرة استشرافية نجدها لاحقا في الوثيقة التاريخية لنداء الثورة سنة ١٩٥٤ مصاغة بشكل منهجي ورؤية واضحة للمراحل القادمة.
وبقراءة متأنّية ومتفحّصة، فإن بيان أول نوفمبر أسّس منطلقات الدولة الوطنية، بناء على الثورة التي أقسم قادتها الأشاوس على الذهاب بها بعيدا، غايتها الاستقلال مهما كانت التضحيات، وهذا الهدف الأسمى هو الذي يقود الى التبعات الأخرى التي لها صلة وثيقة بدعم هذا المسعى السياسي.
ومسار الدولة الوطنية عبارة عن حلقات لا تنفصم عن بعضها البعض في الوفاء لمبادئ الثورة، والتمسك بمضمونها الصالح لكل زمان ومكان، وكان ذلك واضحا من خلال «النظام» الذي كانت تتمتع به في جميع المجالات بقي راسخا في أذهان كل من عاش تلك المرحلة عن قرب، ووقف على عنفوانها وهيبتها.
مباشرة عقب إعلان وقف اطلاق النار إثر اتفاقيات إيفيان في ١٩ مارس ١٩٦٢، قال الشعب الجزائري نعم للاستقلال في ٥ جويلية ١٩٦٢ بعد ٧ سنوات من التضحيات الجسام.
إننا في هذا اليوم نستحضر في أذهاننا كل شهداء هذا الوطن الغالي، الذي سقته دماء مليون ونصف مليون من خيرة أبنائه الذين كان إيمانهم قويا بالاستقلال منذ إطلاق الرصاصة الأولى في منتصف ليلة أول نوفمبر التي صادفت الاثنين كل من هؤلاء الأبطال كانت قناعتهم عميقة بذلك اليوم المشهود، وردت في رسائلهم الى عائلاتهم بأن الجزائر ستستقل طال الزمن أم قصر..هذا ما قاله شهيد المقصلة أحمد زبانة في رسالته الى أمه في بداية الثورة وهي في سنتها الـ ٣.
ما نود التأكيد عليه هنا هو أن الاستقلال أصبح حتمية لا مفر منها بالنسبة للجزائريين، وتفكيرهم انصب أساسا على ما بعد الثورة وانتظار لحظة الحسم صامدين آمام آلة القتل للاستعمار، واقفين أمامه الند للند بالرغم من محاولاته اليائسة لوقف هذه المسيرة وأساليبه الجهنمية (الخطوط الكهربائية الشائكة الملغّمة (شال وموريس)، المحتشدات، الاغتيال، النفي، التعذيب، المناطق المحرّمة.
الاستقلال لم يأت صدفة بل هو نتاج تضحيات شعب آمن إيمانا ثابتا بالكفاح الذي يخوضه وسار على هذا الدرب الوعر والشاق الى غاية تحقيق آمانيه الوطنية في يوم من أيام ٥ جويلية ١٩٦٢، معلنا بداية العهد الجديد في جزائر فتية لكنها عازمة على المضي قدما نحو المستقبل.
الوفاء لعهد الشهداء هو برنامج العمل الذي اتبعه كل من تقلد مسؤولية التسيير والشغل الشاغل كان متوجها الى السعي من أجل إقامة مؤسسات ذات محتوى ثوري بمعنى امتداد طبيعي لما جاء في المراجع الأولى من خطوط عريضة متفق عليها تعمل على حمل كل الآثار المترتبة عمّا خربه الاستعمار في المدن والأرياف ماديا وإنسانيا.
دولة لا تزول بزوال الرّجال
فمن الصّعوبة بمكان تقييم المرحلة الأولى للرئيس أحمد بن بلة كونه لم يعمّر طويلا في الحكم قرابة الـ ٣ سنوات، لكنه بدأ في إرساء معالم لبنات إدارة الشأن العام كـ «التسيير الذاتي» خاصة في قطاع الفلاحة، غير أن الأحداث لم تمهله وفي ١٩ جوان ١٩٦٥ تولى الرئيس هواري بومدين مقاليد السلطة معلنا برنامجه القائم على «دولة لا تزول بزوال الرجال».
وشرع في عمل جبّار منذ أن أصبح رئيس مجلس الثورة من خلال التأمينات كالبنوك، المناجم والمحروقات، ثم انتخاب المجالس الشعبية البلدية والولائية في ١٨ جانفي ١٩٦٧، والثورات الـ ٣ الزراعية، الصناعية والثقافية الى غاية الميثاق الوطني، والدستور والمجلس الشعبي الوطني وهكذا تحولت الجزائر من أقصاها الى أقصاها الى ورشة مفتوحة كما كانت المرحلة الذهبية للدبلوماسية الجزئرية عندما كان السيد عبد العزيز بوتفليقة يتولى منصب وزير الخارجية. كل هذه التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية ترجمة لكل تلك الالتزامات الثورية في استكمال بناء الدولة الوطنية وحضورها الملموس في الوسط الشعبي، واستمر هذا العمل الى غاية ١٩٧٨.
وحرص الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستمرارية، وهذا من خلال حماية هذا المكاسب، واصفا إياها «بالتركة الثقيلة» كما رفع شعار «المراجعة لا تعني التراجع»، أما المؤسسات الاقتصادية فنعتها «بالجثث الهامدة» التي تعيش بـ «السيروم»، كما أن «رأسها أكبر من جسمها»، كل هذا كان عبارة عن مقدمات للقرار المزمع اتخاذه لاحقا.
وبنزول سعر النفط الى ٨ دولارات للبرميل، بدأت بوادر القلاقل الاجتماعية، وهذا ما حدث في ٥ أكتوبر ١٩٨٨ وما كان الرد على ذلك الا بما سمي بالاصلاحات السياسية آنذاك، وهذا بإحداث تغيير جذري في منظومة مؤسسات الحكم بدأت بالدستور الذي انفتح على التعددية تبعته الاعلامية والتداول على السلطة من خلال الانتخابات.
واضطر هذا الأخير إلى مغادرة السلطة ليحل محله محمد بوضياف، الذي جاء في ظروف صعبة للغاية على جميع الأصعدة، حاول تسيير المرحلة بذهنية الثورية، كان وفيا للشهداء، في كل مرة يذكّر بخصالهم ومناقبهم، وبوفاته تولى المجلس الأعلى للدولة الحكم إلى غاية مجيء لمين زروال بعد العودة الى المسار الانتخابي، وتميزت هذه المرحلة بتعديل الدستور، وهذا بوضع ضوابط تمنع بالعودة الى ما شهدته الجزائر خلال التسعينات من خلال إدخال آليات تعطيل أو زحف أي تيار يحوز على الأغلبية الساحقة، وهكذا غادر زروال السلطة بإرادته المحضة.
العهد الجديد...
ومباشرة أطلّ على الجزائر عهد جديد بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في أواخر الـ ٩٠ وبداية ٢٠٠٠، وهو الرجل الذي يعرف جيدا دواليب السلطة وكيفية صناعة القرار بحكم توليه منصب وزير للخارجية وماضيه النضالي كذلك.
دخل المعترك الانتخابي بقوة ونال ثقة الشعب بكل جدارة واستحقاق، نظرا لتفاعل الجزائريين مع ما عرضه عليهم من برنامج طموح عملي وواقعي، وما يجب أن نذكر به هنا هو أن السيد بوتفليقة تقلّد زمام السلطة في ظروف حساسة جدا الجميع يعرفها، لذلك كيّف عمله المستقبلي مع مقتضيات المرحلة.
ولابد من الاشارة هنا الى أن الرئيس كان واضحا من الأول أي منذ بداية مشواره انطلاقا من خارطة الطريق التي حددها بدقة، والتي لابديل عنها منها:
أولا: إطفاء نار الفتنة في كامل ربوع الوطن.
ثانيا: وقف عملية تدهور الاقتصاد الوطني.
ثالثا: إعادة الجزائر إلى المحافل الدولة.
ولم يكتف بهذه الثلاثية، بل توسع في ذلك وهذا بتشخيص الملفات المزمع الشروع في العمل بها، لتتّضح الصورة أكثر لدى الرأي العام آنذاك حدّدها رئيس الجمهورية في:
إصلاح قطاع العدالة.
تقويم المنظومة التّربوية.
إعادة النّظر في مهام الدولة.
هكذا كان العمل وفق هذه المقاربات الشّائكة بالنظر الى تداعياتها الناجمة عن تسيير قبلي أوصل الى الانسداد في الأداء، غير أن الرئيس اعتقد راسخا بأن لا تنمية بدون أمن، ويستحيل بلوغ الهدف المرجو في غياب الاستقرار كل الاستقرار عبر كامل التراب الوطني.
واشتغل جاهدا على هذا المحور من خلال الوئام المدني والمصالحة الوطنية، استفتى فيهما الشعب الجزائري الذي أعطى اياه الضوء الأخضر قصد البدء في استرجاع السلم مخاطبا الجميع بأنه لا يمكن أبدا الاستمرار في الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، متسائلا الى متى هذه المأساة؟ لابد من وضع حد لما يجري لأنه كلف الكثير ٢٠٠ ألف ضحية و٢٠ مليار دولار خسارة. هذا ما عجّل بالتوجه الى ايجاد الاطار القانوني الذي ينضوي تحته الجزائريون لتخليصهم من الحالة التي وصلوا اليها جراء عدة اعتبارات لم يعد الكلام على من هو على حق بقدر ما يتطلب الأمر التحلي بالمسؤولية العالية في انقاذ الوطن من مخالب الفوضى العارمة.
وتعتبر المصالحة مشروعا وطنيا ناجحا بامتيار، وهذا عندما أنجزت السلم الشامل في الجزائر، ودعت الى التسامح والصفح الجميل حتى يتم العودة الى الوضع الطبيعي دون حمل أي حقد او انتقام تجاه الآخر.
ما ننعم اليوم به من هدوء جاء بفضل الرئيس بوتفليقة لابد من الاعتراف بحق الرجال الذين صدقوا ماعاهدوا الله عليه عندما قاد الجزائر الى بر الأمان، ووضع قاعدة الانطلاق في المسعى التنموي اقتصاديا واجتماعيا، وهذا بانعاش آلة الانتاج وتحريك دواليب النشاط المحلي من خلال إعمار المناطق التي خربها الدهر..وهذا فعلا ما جرى عبر كامل ولايات الوطن وفي الجزائر العميقة جميعها زارها الرئيس، ومنحها حقها في المشاريع الجوارية والخدماتية.
هذه هي أبعاد المصالحة التي تبنّتها الكثير من الشعوب لإحلال السلم ببلدانها، سمحت كذلك بعودة الجزائر الى المحافل العالمية لتكون طرفا فاعلا وشريكا في صناعة الأحداث ذات التأثير المباشر في العلاقات الدولية.
وكل هذه الدلالات تترجم حالة الدولة الوطنية التي تمر أحيانا بظروف صعبة جدا عبارة عن انكماش، لكنها لا تنحني لأحد بل هي صاحبة المبادرة في كل قراراتها خدمة للصالح العام وتفاديا لأي طارئ.
وامتداداتها لا تنقطع أبدا بل هي قناعات في الالتزام بالعناوين الكبرى التي ما تزال راسخة في الأذهان، وثابتة في المواقف منها العدالة الاجتماعية، التضامن، المساواة، تكافؤ الفرص، الانصاف، التكافل وغيرها هذه ركائز الدولة الوطنية لا تقدّر بثمن أو المخصصات التي يطالب البعض بشطبها من الميزانيات، وهكذا أفرد لها الدستور الجديد حيّزا هاما وتاريخيا غير مسبوق يؤكّد هذه القناعة لدى الجزائريّين.