المختص في علم الاجتماع الدكتور أيت عيسي حسين:

أزمة الأخلاق أخطر من نظيرتها الاقتصادية

تيبازة: ع.ملزي

يرى الدكتور أيت عيسي حسين، أستاذ علم الاجتماع بالمركز الجامعي مرسلي عبد الله بتيبازة، أن أزمة الأخلاق حين تعصف بالمجتمع وتهوي به، فإنها أخطر بكثير من الأزمة الاقتصادية.

 فالمجتمع الجزائري اليوم يتّسم بانحلال وتقهقر أخلاقي باعث على التخوف فيما يخص منحى تطوره، وكذا انعكاساته التي ستتفاقم مستقبلا بلا شك، ذلك أن الكل يبدو كما لو أن عوامل هذا الانحلال تتعزّز وتتضافر باستمرار في غياب تام لأي رؤية أو استراتيجية متكاملة لوضع حد لهذا التردّي، تكون في مستوى شموليتها وعمقها وتعقيدها، علما أن الزمن هنا ليس أبدا جزءا من العلاج، فالآفات الاجتماعية تنمو مع الوقت وتنمو معها مضاعفاتها من الحدّ الذي يمكن عنده معالجتها بأبسط الحلول إلى الحد الذي يصير الأمل في حلها ضربا من المستحيل.
ويؤكد الأستاذ أن المستوى الذي بلغته ظواهر العنف والانحراف والإجرام قد بلغ درجة عالية من الخطورة، ما يستدعي دق ناقوس إنذار حقيقي لاستدراك الوضع قبل فوات الآوان، واكتمال شروط تخلخل وانفلات الأمن المجتمعي، وأن مؤشرات تقييم آفة الجريمة تحديدا قد فاقت بكثير المعدل الطبيعي، وأضحى من الضروري إعادة النظر جذريا وبعمق في مجمل الرؤية والسياسة الاجتماعية - الأمنية، لأن ما انتهج الى حد الآن قد أفرز نتائج عكسية.
 وقال الدكتور آيت عيسي بأنّ الفترة المنقضية التي تمتد على مدار عشريتين من الزمن شهدت تحولات ثقافية وقيمية وسلوكية عميقة ومتسارعة جدا. وإذا كان التغير حتمية اجتماعية فإن الفارق شاسع بين مجتمع يتقدم وآخر يتقهقر، حيث أفرزت مجمل تلك التحولات تفشّيا فظيعا لأخطر أشكال الانحراف والجريمة، حتى صارت الثقة عملة نادرة ضمن الروابط الاجتماعية.
وعددّ الدكتور أيت عيسي في هذا المجال جملة من المؤشرات الموضوعية ذات المصداقية، التي تثبت المنحى التأزمي، منها على سبيل المثال الاحصائيات الرسمية التي ترصدها مؤسستي الشرطة والدرك الوطني، وكذا تضاعف عدد مختلف قضايا العنف والانحراف والجريمة (بما في ذلك الاعتداء والقتل والسرقة والاغتصاب والاختطاف) المطروحة أمام المحاكم، وكذلك التطور النوعي لهذه القضايا، ونقصد مثلا اختطاف الأطفال الذي صار يشكل هاجسا لدى الاسر الجزائرية، بالاضافة إلى مؤشر اكتظاظ المؤسسات العقابية وعجزها عن استيعاب كل الموقوفين والمحكوم عليهم. ولعل من أبرز هذه المؤشرات أيضا الحضور القوي واليومي لقضايا الاجرام في الصحافة بكل أشكالها، خاصة المكتوبة. ولا شك أن الحس العام لا يمكن أن يخطأ جملة، والمجتمع بالفعل يعبر بأشكال مختلفة عن شعور عميق باللاأمن والخوف والقلق وعدم الثقة، ما حوّل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات حذرة وسطحية، بما في ذلك علاقات الجيرة، التي كانت سابقا شبيهة بعلاقة الدم، ولم تغزو الأبواب الفولاذية والنوافذ المعززة بقضبان الحديد المنازل والعمارات الجزائرية، وعلى كل حال فإن الدراسات العلمية المعمقة، خاصة في مجال علم اجتماع الجريمة، وكذا الملتقيات العلمية المتخصصة تكاد تجمع على هذا التشخيص، فالجريمة تتفاقم وتزداد أنماطها خطورة وتعقيدا.
  أما عن العوامل التي أفرزت هذا الواقع المؤلم، فقد نبّه أولا الدكتور أيت عيسي حسين إلى أن الظواهر الاجتماعية مهما كان حجمها، فإنها دائما وليدة رزمة من العوامل وليست أبدا نتاج عامل وحيد، كما أنها تولد وتنمو وتتفاقم في إطار الزمن، أي سياق التغير الاجتماعي ككل.
 غير أنّ المؤسسة الأسرية تتحمّل هي الأخرى جانبا عظيما من المسؤولية، وتحديدا بالنسبة لبروز وترعرع بذرة الانحراف والعنف لدى الطفل الجزائري. ذلك لأنها وبسبب مجمل التغيرات التي طرأت عليها قد تركت فراغا أخلاقيا رهيبا حينما تنازلت عن مهمتها التربوية، سواء تحت ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة التي جعلتها تعطي الاولوية لوظيفة الاعالة المادية، أو تحت تأثير القيم والتصورات الزواجية والأبوية الجديدة التي حرمت الاطفال من الاشباع العاطفي منذ الطفولة المبكرة، وكذا تراجع السلطة الأبوية وبروز نمط الأسرة النووية التي فصلت الطفل عن الإطار الواسع للرقابة العائلية. وقد جاءت وسائل الاتصال الحديثة لتقضي بضربة واحدة على ما تبقى من الرابط الأسرية الضيقة، حينما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بديلا افتراضيا لعلاقات الأسرة والجيرة.
وبالموازاة مع هذه الاستقالة التربوية للاسرة، فقد حصل تراجع لسلطة الضبط الاجتماعي التي كانت تتيح في السابق للجيران وكبار الحي أن يتدخلوا لتصحيح إرهاصات السلوك المنحرف والإجرامي لدى أطفال ومراهقين ليسوا أبناءهم.
ولقد ساهمت وسائل الإعلام أيضا بشكل غير مباشر في تفشي الجريمة من خلال تغذية الاستعداد والميل غلى العنف، بداية من الطفولة عبر برامج الرسوم المتحركة وكذا الألعاب الرقمية، وصولا الى المراهقة من خلال بث أفلام العنف وتمجيد السلوك العدواني وفق مؤثرات نفسية جد فعالة وخفية. ويبدو أن الحصص الاجتماعية التي تبثها القنوات التلفزيونية الجزائرية، وكذا المقالات التي تنشرها الصحافة المكتوبة حول قضايا الانحراف والجريمة قد أدت إلى مفعول عكسي، حيث قد تحولت من خلالها هذه الوقائع إلى شبه اعتيادية خاصة عند تبريرها.
ولا يمكن إلا أن نشير إلى التأثير الحاسم لظاهرة التحضر العشوائي والمتسارع على تهيئة المدن الجزائرية لتكون مرتعا وبؤرة مثالية لبروز العصابات داخل الأحياء، وتسهيل عملية استقطاب مراهقين وشباب يعيشون حياة يومية في أحياء مراقد بدون أي تأطير ثقافي أو تربوي أو رياضي نوعي يملأ أوقات فراغهم، خاصة بالنسبة لغير المتمدرسين وكذا الذين يعانون من البطالة، والطبيعة تأبى الفراغ كما هو معلوم طبعا.
ولجبر هذا الجرح العميق الذي ألمّ بالمجتمع، يقترح الدكتور أيت عيسي حسين معالم كبرى للإصلاح، تكون الانطلاقة بإجراء دراسة علمية شاملة ودقيقة وموضوعية ومبنية على معطيات حقيقة، يقوم بها ثلة من العلماء من تخصصات متنوعة ذوي كفاءة علمية وبحثية ونزاهة أخلاقية، تتيح لنا تشخيص ما هو كائن على مستوى المؤشرات والأنماط والعوامل، بحيث تتمخّض هذه الدراسة عن اقتراح استراتيجية وطنية لمجابهة هذه الظاهرة، استنادا على تجارب رائدة في العالم وبمراعاة الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع الجزائري، على أن تنخرط كل مؤسسات المجتمع في هذه الاستراتيجية، بداية من الاسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الاعلام والمؤسسة الأمنية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات أيضا. لا بد من إعادة التسليح الأخلاقي لكل شرائح المجتمع الجزائري، وخاصة الشباب.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024
العدد 19444

العدد 19444

الأحد 14 أفريل 2024