ذكراك تبقى مسكن الخلود

مسعودة براهمية

 إليك أستاذي “فنيدس بن بلة” ولوعة الحزن على فراقك تمزّق قلبي، وذكراك في كل شيء حولي يا أبا وما ولدني، ويا أخا لم تلده أمي، لن أنساك وذكراك تبقى أبدا مسكن الخلود.

إنسانيتك ونبلك ونضالك الصّادق من أجل “الشعب” وعمّالها من جهة، والتزاماتك العائلية من جهة أخرى، جعل منزلتك ترتقي عاليا؛ حيث منازل الأخفياء الأتقياء الأنقياء الأبرياء، إذا غابوا لم يُفْتَقدوا وإذا حضَرُوا لم يُعرَفوا.
إنّني أستغفر الله من جرأتي، وقد وصفتك بصفات لا يتّصف بها إلاّ الأتقياء من خلقه، كيف لا وأنت المسؤول القيادي المتواضع البسيط، فلم تكن بالمتكبّر المتعالي، ولا بالطّعان اللّعان، وستظل إلى أبد الآبدين مثالا للزّميل والصّاحب والصديق الصادق في صدقه، ولا ينكر ذلك إلاّ جاحد.
أخاطبك بصيغة الحاضر الموجود ببساطة لأنّ صورتك بين عيناي بتفاصيل ملامحك البهية البريئة الدّافئة، بل لدرجة أنّي أسمع صوتك الرّقيق يناديني باسم مولدي “كريمة” لا تتراجعي إلى الوراء، استمرّي في قهر المرض، كوني قويّة، كوني واعية، كوني مجتهدة ولا تيأسي مهما قست عليك الظّروف.”
كنتُ دائما أعتبرك قدوة لي، نهجت طريقك وسرت بدربك، فيا أيّها الشّهم الكريم، أعترف لك وقد فات الأوان لا أستطيع أن أكون بنفس قوّتك وخصالك، ويا ليتني حافظت على العلاقة المثينة بيننا، وقد فتحت منزلك لي وجعلتني واحدة منكم، رافقتني وزوجتك الفاضلة في علاجي، وساندتني ماديا ومعنويا، وأبدا لم تنساني، رغم أنّي دخلت في دوّامة خانقة، جعلتني أعتزل العالم.
أذكر جيّدا، وأنا بمحطّة المسافرين “خروبة” بالجزائر العاصمة، قادمة من وهران لأجل العلاج، قسمت أن لا أحجز غرفة بالفندق، ولم تمر إلا دقائق معدودات حتى لقيتني بكل سعادة، ورحّبت بي أسرتك الصّغيرة، وكم كانت أوجه التشابه بين ابنتك وولدك كبيرة، فكلاهما يتحلى بالصّفات الحسنة والأخلاق الحميدة المتأرجحة، بل حتى أمّهما الكريمة، مثالا للمرأة المثابرة البارّة بزوجها.
وأكثر ما أدهشني خلال زياراتي المتكرّرة لمنزل الرّاحل المرحوم “فنيدس بن بلة”، ذلك الحب والتفاهم والترابط والانسجام بينهم، بل حتى قططه يعاملها وكأنّها بشر يعطف عليها ويحدثها ويداعبها بطرافته المعهودة وضحكاته المميّزة وتعليقاته الجميلة، وحنانه الفيّاض ونقاء قلبه وسريرته.
آه كم كنت متفهّما، أتّصل بك في كل زمان ومكان، حتى أيام العطل، ترد مباشرة على الرسائل والمكالمات دون أن تبدي تضجّرا أو تبرما ولا تذمرا، وكنت أرى فيك أحلامي، وطموحاتي، وسعادتي، وأرى فيك كل ما يجعلني أشعر أنّني شخصية مميّزة، ويكفي أنّك سهرت الليالي في التصحيح والتمحيص والتدقيق والتحرير، وحتى وإن تأخّرت في الإرسال تصدر مواضيعي في اليوم الموالي بأبهى حلّة، لكن المرض كان ينهش جسدك في صمت رهيب، وبلا تصنّع وتمثيل الموت ليس الوحيد من أحزننا، فحتى تقاعدك أوجعنا...

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024