اعرف بطلك..

محمود الطيطي..قصّة مقاتل وإنسان

بقلم الأسير: رائد نزار عبد الجليل

 يشكّل محمود الطيطي حالة فريدة ونوعية في العمل النضالي والفدائي ضد قوات الاحتلال الصهيوني، فهو من المقاتلين الذين تركوا بصمة واضحة في وعي ووجدان كل من التقى به أو سمع عنه، حيث استطاع بسلوكه وإقدامه أن يخلق ظاهرة إجماع من قبل من كان حوله، فهو الشخص الوحيد الذي لم يختلف عليه أحد من كافة فصائل العمل الوطني والاسلامي، رغم هناك من اختلف معه في الرأي.

 محمود الطيطي كان وما زال وسيبقى قديسا، وأيقونة نضالية في معابد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال. كان لقائي الأول قد وقع في شهر حزيران من عام 2001، حيث جمعني به صديقي وأخي الكبير أبو عاهد، وذلك بعد أن قمت وبتوجيهات منه التخطيط لعملية عسكرية بالقرب من مستوطنة (بركه) الجاثمه على أراضي جنوب نابلس، حيث كانت الخطة بأن نضع عبوة ناسفة بالقرب من الشارع المؤدي الى المستوطنة، وتفجيرها ومن ثم إطلاق النار على قوات الاحتلال التي سوف تهرع إلى مكان التفجير، ولكن كان عندنا مشكلة وهي في السلاح، حيث كانت خليتنا لا تمتلك السلاح الكافي في تلك المرحلة، وحتى أننا لم نكن نمتلك المال الكافي من أجل أن يغطي تكاليف صناعة العبوات الناسفة، حيث كان الممول الوحيد لخليتنا هو راتب صديقي لأبو عاهد الذي كان يضع تقريبا كل ما يملك من مال في شراء لوازم العمل المسلح، ومن قبل لوازم العمل التنظيمي للشبيبة الطلابية التي كان قائدها في الضفة ونابلس، فكان الحل لمشكلة نقص السلاح في الذهاب إلى الأخ المقاتل ناصر عويص الذي كان يرأس خلية عسكرية تمتلك أكثر من قطعة سلاح، وهو على علاقة جيدة مع الأخ ناصر الذي التقى به في العراق بعد أن تم إبعاده في الانتفاضة الأولى إلى العراق، وبالفعل توجّهنا أنا والأخ أبو عاهد والشهيد عاهد فارس (الذي في ذلك الوقت لم يكن يعرف عن عملنا العسكري) إلى بيت ناصر عويص في مخيم بلاطة، حيث التقينا هناك مع الأخ ناصر الذي بعد أن أخبره أبو عاهد بما نخطط، وافق مباشرة ورحّب بالأمر على أن يكون هو وخليته شركاء في هذا العمل، وكان هذا اللقاء كما عملت فيما بعد هو بداية انتعاش الخليتين العسكريتين، وبعد أيام تم جلب العبوة الناسفة وتوجّهنا إلى مخيم بلاطة، وذلك قبل شروق شمسي يوم الجمعة الموافق 8 حزيران 2001، حيث كان هناك في انتظارنا قرب المخيم ثلاث رجال داخل سيارة بيضاء اللون، وما أن خرج ناصر عويص من السيارة حتى اقترب منه شاب بطول متوسط اسمر البشرة ذات ملامح صارمة ولكن طيبة في نفس الوقت يشعرك حين تنظر في عينيه براحة وطمأنينة، وكأنّك تعرفه منذ زمن طويل نظر إلى السيارة نظرة خاطفة ثم سأل ناصر عن الشاب الذي سوف يضع العبوة فأشار الأخ ناصر عويص بيده تجاهي، في حينه رمقني رمقة لم أحدّد معناها ولم أفهمها إلا فيما بعد، حين أصبح كما كان يقول لي (أخي الصغير)، حيث قال لي بعد هذا اللقاء بعد شهر أنّي حين رأيتك أخذت ناصر عويص على جنب، وقلت له أنت متأكّد أنّ هذا الولد سوف يضع العبوة، كان عمري وشكلي في ذلك الوقت يفصحان عن وجه طفل وليس مقاتلا، وكان كلّما نذكر هذا الموقف يكاد يغمى علينا من الضحك.
وبعد أن نزلت من السيارة وأنا أحمل العبوة، توجّهت نحو سيارة فركبت من الخلف، حيث كان في السيارة شابان هما الأخ المقاتل محمد اليدك، الذي كان يجلس على المقعد الأمامي والأخ المقاتل رياض مرشود، الذي كان يجلس في المقعد الخلفي، وما أغلقنا الأبواب حتى قام محمود بتشغيل مسجل السيارة دعاء أهل الثغور، ومن ثم انطلقنا حول الهدف ونفّذنا عمليتنا الفدائية، وأدّى إلى إصابتي ولكن ما أريد أن أتحدّث عنه، هو شيء له علاقة بنقاء هذا الإنسان محمود الطيطي وإخلاصه، وحبه إلى كل من كان حوله، كان يعمل المستحيل من أجل أن يحافظ عليه ليس جسديا فقط بل روحيا ونفسياً وعاطفيا، اعلم أنّ هناك من سوف يقول هذا مبالغ فيه، ولكن لا يهم إن كان الحديث على شهيد ولكن هذا ليس مبالغ فيه، وسوف أسرد لكم إحدى تلك القصص التي تدل على ذلك الإنسان العظيم، ولكم أن تحكم أنتم على ذلك: حين أصبت في عملية (بركه) الفدائية في قدمي اليمين، وجعلتني تلك الإصابة طريح الفراش لمدة طويلة تجاوزت الستة أشهر، كان محمود الطيطي يزورني في منزلي تقريبا بشكل يومي، وحين كنت في بعض الليالي أفقد الأمل في قدومه، واذهب إلى النوم كنت أستيقظ في الصباح لأجده نائما إلى جانبي، وحين أسأل والدتي متى جاء، تقول لي وجه الفجر، وعندما بدأت أرى أن العمل الفدائي والعسكري ضد الاحتلال قد تصاعد بشكل كبير، وكذلك كنت أسمع منه ومن باقي أخوة السلاح عن ما قاموا به من عمليات واشتباكات ضد قوات الاحتلال كنت أدخل في حالة من اليأس والإحباط، وذلك لأنّي لم أكن أستطيع أن أشارك في هذه الأعمال الفدائية، وذلك بسبب إصابتي ولقد شعر أخي محمود الطيطي بذلك، فجاء ذات يوم برفق أخي محمد اليدك، وهو أحد أبرز المقاتلين والمؤسسين للعمل الفدائي في كتائب شهداء الاقصى ضد الاحتلال، يحملون معهم حقيبة فيها خمسة أجهزة خلوية من نوع (نوكيا)، بالإضافة إلى بعض المعدات التي لها علاقة في تصليح الهواتف الخلوية، ووضعها محمود أمامي وقال لي: اسمع يا رائد نحن في غاية الحاجة لك، وعليك أن تتعلم كيف تحول الجهاز الخلوي جهاز تحكم عن بعد للعبوات الناسفة، ثم أضاف وبشكل جدي وحازم نحن لا نستطيع أن نوكل هذه المهمة لأحد غيرك، فهذا موضوع خطير، وفعلا قام هو واليدك بتعليمي على صناعة تلك الأجهزة، وكان كل يوم يأتي ويخبرني عن تلك الأجهزة وما صنعت بالاحتلال خلال تفجيرها في تلك العبوات، كان يشعرني من خلال حديثه أنّ الفضل في ذلك يعود إلى تلك الأجهزة التي قمت أنت بتحويلها إلى أجهزة تحكم عن بعد، ولقد استطاع بذلك أن يخرجني من حالة الإحباط واليأس والشعور بالعجز إلى حالة من الفخر والرضى بأنّي شريك في كل خلية وعمل ضد الاحتلال.
لاكتشف بعد استشهاد محمود الطيطي بسنوات، وذلك من خلال أخي محمد اليدك سر ذلك الأجهزة حين أخبرني بأنّ تلك الأجهزة لم يتم وضعها على أي عبوة، بل كان محمود يفكّكها كل يوم ويعيدها إليك من أجل أن تجمعها مرة أخرى.
سألته ولماذا كان محمود يشغل نفسه كل ذلك بهذا الموضوع؟ فأجابني:هذا هو محمود الطيطي، لقد ألمه وأوجعه كلما كان يزورك ويرى علامات اليأس والإحباط على وجهك، وشعورك بالعجز لعدم قدرتك على المشاركة في العمل العسكري بسب إصابتك، فحاول أن يخفف عنك هذا الشعور بتلك الحيلة. هكذا كان محمود الطيطي الإنسان المقاتل والصديق والأخ والحنون، الذي كان في الليالي الحالكة يشعلها بإطلاق النار وتفجير العبوات بين جنود الاحتلال ومستوطنيه. وفي النهار يقبّل أيادي أمهات الشهداء، وفي المساء يسامر أخوة السلاح الذين أعجزتهم رصاصات الاحتلال عن أداء واجبهم النضالي.

المجد لك ولكل الأبطال أمثالك مع الأنبياء والصديقين الشّهداء الأبرار.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024