تمثل أهم مفاتيح عالم المستقبل..

هكذا تشتغل بطارية الليثيوم..

الهادي.ش

في عالم يُسارع الخطو نحو الرقمنة والطاقات النظيفة، يبرز عنصر صغير الحجم عظيم الأثر، صار أشبه بـ»الحارس الصغير» للطاقة في حياتنا اليومية: بطارية الليثيوم. لم تعد مجرد قطعة تقنية توضع في الهاتف أو الحاسوب، بل أصبحت عصباً رئيسياً للتنمية، وأحد مفاتيح الانتقال الطاقوي العالمي، ورمزاً لمستقبل أقل تبعية للوقود الأحفوري.
من يتأمل مسار التكنولوجيا الحديثة، يكتشف أن كل القفزات الكبرى التي عرفتها البشرية في العقود الأخيرة، من انتشار الهواتف الذكية إلى الثورة في السيارات الكهربائية، كان وراءها هذا الابتكار الثوري.. بطارية الليثيوم هي بمثابة «قلب» ينبض باستمرار، ينظم تدفق الأيونات كما ينظم القلب تدفق الدم، ليمنح أجهزتنا الحياة التي نأخذها كأمر مسلم به.

كيــف تعمـل؟

بعيداً عن التعقيد العلمي، يمكن تبسيط عمل بطارية الليثيوم إلى حركة دائمة بين قطبين: موجب وسالب. عند شحن البطارية، تتجه أيونات الليثيوم نحو القطب السالب وتستقر داخله، وحين نشغل الجهاز تبدأ رحلة العودة نحو القطب الموجب، مطلقة تياراً كهربائياً يغذي ما بين أيدينا من آلات. الأمر أشبه بعملية تنفس دقيقة..شهيق عند الشحن، وزفير عند الاستعمال.
هذا التصميم البسيط في شكله، المعقد في جوهره، يضم أربعة عناصر أساسية: الكاثود (القطب الموجب)، الآنود (القطب السالب)، الإلكتروليت (المحلول الذي يسمح بمرور الأيونات)، والفاصل الرقيق الذي يمنع التماس الخطير الذي قد يؤدي إلى انفجار..مزيج هندسي بالغ الدقة يجعلها قادرة على العمل آلاف المرات دون أن تفقد كثيرا من طاقتها.

تفوّق على كلّ البطاريات

إذا كانت بطاريات النيكل والكادميوم قد شكلت ثورة في وقتها، فإنها سرعان ما بدت عاجزة أمام الليثيوم، فهذه الأخيرة أخف وزناً، وأكثر كثافة للطاقة، وأطول عمراً، وأسرع شحناً. والأهم أنها تخلصت من ما يسمى بـ»تأثير الذاكرة»، أي فقدان البطارية قدرتها على التخزين الكامل عند إعادة شحنها بشكل غير منتظم.
اليوم، تطورت بطاريات الليثيوم لتصبح أكثر أمانا، وبعض النماذج قادرة على تحمل الصدمات الحرارية دون أن تحترق، وأخرى صُممت لتعمل في أقسى الظروف المناخية، حتى تحت درجات حرارة سلبية تصل إلى -30 درجة..إنها ثمرة سنوات من البحث والابتكار، جعلتها الخيار الأمثل للجيل الجديد من الأجهزة والسيارات.

عماد التحول الطاقوي

ولا شكّ أن أهمية بطاريات الليثيوم تتجاوز الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة، فهي تمثل العمود الفقري للسيارات الكهربائية، والداعم الأساسي للطاقات المتجددة..الألواح الشمسية وتوربينات الرياح لا تعمل باستمرار، بحكم خضوعها لتقلبات الطقس، ومن دون وسيلة لتخزين الطاقة، لن يكون بالإمكان الاعتماد عليها..وهنا تتدخل بطارية الليثيوم لتؤدي دور «الخزان الذكي» الذي يجمع فائض الكهرباء ويعيد توزيعه عند الحاجة.
بهذا المعنى، لا تكون بطارية الليثيوم مجرد ابتكار تقني، بل هي أداة استراتيجية لمستقبل الطاقة العالمي، ولقد صارت موضع رهان دول عديدة، تعمل على تعزيز أمنها الطاقوي، وتقليل انبعاثاتها الكاربونية، وهو ما يجعل بطارية الليثيوم جزءاً من رهانات الجغرافيا السياسية والاقتصادية.

الجزائر تسهم في بناء مستقبل الإنسانية

في هذا السياق العالمي، يبرز المشروع الجزائري الطموح لتطوير صناعة بطاريات الليثيوم كخيار استراتيجي ينسجم مع رؤية الانتقال الطاقوي التي يقودها الرئيس عبد المجيد تبون، فبلادنا التي تزخر بثروات طبيعية هائلة، من شمس ورياح، تدرك أن الرهان الحقيقي يكمن في القدرة على تخزين هذه الطاقة وتوظيفها في بناء اقتصاد متنوع ومستدام.
استقبال الرئيس تبون مؤخراً للعالم الجزائري البروفيسور كريم زغيب، أحد أبرز العقول في مجال بطاريات الليثيوم عالمياً، لم يكن مجرد بروتوكول، فقد حمل رسالة واضحة مفادها أن الجزائر تريد أن تكون فاعلا أساسيا في هذا القطاع الحيوي، ولقد أكد زغيب أن الجزائر تملك المقومات لتصبح مركزاً قارياً في هذا المجال، مشيراً إلى أن الاستثمار في البطاريات ليس خياراً تقنياً، بل هو خيار استراتيجي يمكّن البلاد من تبوئ موقع قيادي في إفريقيا والعالم.

التكنولوجيا عنوان السيادة

بطارية الليثيوم لم تعد مسألة علمية محضة، فقد تحولت إلى رهان سيادي، والدول التي تملك القدرة على تطويرها وصناعتها، تملك بيدها مفتاحاً لمستقبل اقتصادي مختلف..هذه حقيقة تدركها قوى كبرى مثل الصين والولايات المتحدة، وتدخل اليوم في حسابات الجزائر التي ترسخ لمكانتها السامية في عالم جديد تتشكل ملامحه بسرعة.
إن استثمار الجزائر في هذا المجال يعني بناء منظومة ابتكار وطنية، خلق مناصب شغل، تطوير خبرات علمية محلية، وربط الجامعات بمراكز البحث العالمية. والأهم، أنه يفتح الباب أمام استقلالية طاقوية أكبر، ويجعل الجزائر لاعباً مؤثراً في أسواق جديدة لم تكن مطروقة من قبل.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025
العدد 19856

العدد 19856

السبت 23 أوث 2025