أستاذ التّاريخ الدّكتور بوزيد سراغني لـ “الشعب”:

هذه جذور المأساة الفلسطينيّة

إيمان كافي

 

 يعتبر تَتبُّع أهم مفاصل السياق التاريخي للقضية الفلسطينية أمرا في غاية الأهمية لنقل صورة واضحة وحقيقية لتاريخ هذه الأرض المسلوبة، ومن أجل حماية جيل اليوم والأجيال القادمة من أي تشويه قد يعتري الصورة الأصلية لفلسطين، كما يمكنه أن يسهل استيعاب الصورة الكاملة للقضية الفلسطينية..هذا ما يقوله الدكتور بوزيد سراغني، الأستاذ بجامعة قسنطينة1..التقيناه، فقدم لنا العديد من المحطات الهامة التي مرت بها القضية الفلسطينية.


 ذكر الدكتور سراغني أن حكم فلسطين انتقل بعد الحرب العالمية الأولى من الدولة العثمانية إلى بريطانيا، بموجب اتفاقية سايكس بيكو، فأتمّت بريطانيا احتلالها لفلسطين في ديسمبر 1917، بعد أن تعهّدت للصهاينة، من خلال وعد بلفور، بإنشاء موطن لهم في فلسطين في 12 نوفمبر 1917، بالرغم من أن الفلسطينيين العرب كانوا يمثلون نسبة 92 % من نسبة السكان. واصل الاحتلال البريطاني العمل على وعده المشؤوم إلى سنة 1948، فقد تمكّن في 24 جويلية 1922 من استصدار قرار من عصبة الأمم بتحويل الاحتلال إلى انتداب، وتم تضمين وعد بلفور ضمن قرار الانتداب، ليصبح بذلك التزاما رسميا، معتمدا دوليا، علما أن فكرة الانتداب التي ابتدعتها العصبة تقوم على أساس مساعدة الشعوب المنتدبة، وإعدادها لنيل استقلالها.
عاشت فلسطين تحت نير الاحتلال البريطاني مؤامرة رهيبة، حيث حُرم أهلها من بناء مؤسساتهم الدستورية وحكم أنفسهم، ووضعوا تحت الحكم البريطاني المباشر، من خلال المندوبين السامين الذين تم إعطاؤهم صلاحيات مطلقة. فراح هؤلاء يضيّقون سبل العيش على الفلسطينيين، وشجعوا الفساد، وعملوا على تعميق الانقسامات العائلية والطائفية بين العرب الفلسطينيين، وإشغال بعضهم ببعض. في المقابل، شجّعوا الهجرة اليهودية إلى فلسطين من كل أصقاع العالم، فارتفعت نسبة السكان اليهود من 8 % سنة 1918 إلى 31.7 % سنة 1948. وأسّس اليهود الوكالة اليهودية سنة 1929، لإدارة شؤونهم في فلسطين، وقد كانت أشبه بدولة داخل دولة، لما أعطيت لها من صلاحيات واسعة.
وفي 29 نوفمبر 1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية ثلثي أعضائها، وبضغط أمريكي، القرار رقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، حيث أعطى القرار 54.7 % من الأرض لليهود و44.8 % للعرب.
اندلعت الحرب فور صدور القرار، وتحمل الفلسطينيون أعباءها في الأشهر الستة الأولى، بمساعدة عدد محدود من المتطوعين العرب، حيث قررت الدول العربية عدم دخول الحرب، إلا بعد أن تنسحب بريطانيا، وفعلا انسحبت بريطانيا في 15 ماي 1948، بعد أن أعلنت الحركة الصهيونية عن إنشاء “الكيان الصهيوني” قبل ذلك بيوم واحد.
ومثل دخول الجيوش العربية السبعة مأساة أخرى، إذ لم يزد عدد مقاتليها عن 24 ألف، في مقابل أكثر من 70 ألف مقاتل يهودي، وهو ما مثل ثلاثة أضعاف الجيوش العربية السبعة مجتمعة، كما عانت من ضعف التنسيق بينها لعدم معرفتها بالأرض، وعانت من أسلحتها القديمة والفاسدة، بالإضافة إلى أن أحد هذه الجيوش كان من بين ضباطه الخمسين الكبار 45 ضابطا بريطانيا.
استولى الصهاينة على 77 % من فلسطين، ولملء الفراغ، أعلنت الهيئة العربية العليا في 23 سبتمبر 1948، عن “حكومة عموم فلسطين” في غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، الذي دعا إلى مجلس وطني فلسطيني في غزة، بتاريخ 01 أكتوبر 1948، أين تم الإعلان عن قيام دولة فلسطين، على الحدود الدولية المتعارف عليها أثناء الاحتلال البريطاني، لكن الأمر انتهى بتعيين حاكم إداري على قطاع غزة، ليصبح تحت المناطق الخاضعة للرقابة.
وكان من النتائج المباشرة لحرب 1948، قيام الصهاينة بتشريد نحو 58 % من الشعب الفلسطيني إلى خارج أراضيهم، حيث أقاموا عليها كيانهم، ودمّروا أكثر من 400 قرية عربية، وارتكبوا 34 مجزرة، من أشهرها دير ياسين في 9 / 4 / 1948، كما اغتالوا “فولك برنادوت” الدبلوماسي السويدي، والوسيط الدولي للأمم المتحدة، في 17 / 09 / 1948، أثناء أدائه لمهامه الرسمية، وقد كان المسؤول المباشر عن قتله زعيم حزب ليحي “إسحاق شامير”.
لقد مزّقت حرب 1948 النسيج الاجتماعي للشعب الفلسطيني، الذي وجد نفسه مشردا في العراء، من هنا استحقت هذه المرحلة أن تسمى “النكبة”.
وعلّق الدكتور بوزيد سراغني قائلا إن هذه المرحلة شهدت انحسار الاستعمار عن معظم بلدان العالم العربي والإسلامي، غير أن الأنظمة المستقلة سعت إلى ترسيخ نفوذها وبناء الهوية الوطنية القطرية، بدلا من السعي نحو الوحدة، ممّا كرّس حالة التمزق في جسد الأمة العربية والإسلامية، وترسّخت حالة الإحباط بعد فشل الوحدة المصرية-السورية، فلا الوحدة تحقّقت ولا التحرير، بل ضاعت باقي فلسطين، وتم تشريد 330 ألف فلسطيني، إضافة إلى احتلال سيناء والجولان، بعد حرب 1967.
ويذكر محدّثنا بأن هذه المرحلة شهدت نشأة حركة فتح في الكويت عام 1957، وفي 28 / 5 / 1964 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في القدس، برعاية الملك حسين وبدعم مصري، عن ميلاد منظمة التحرير الفلسطينية، برئاسة أحمد الشقيري، وأكدت المنظمة على خيار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.
وأبرز المتحدث أن النتائج المؤسفة لحرب 67، هو أن تركيز الأنظمة العربية، وكذا منظمة التحرير الفلسطينية، قد صار على استعادة الأراضي المحتلة سنة 1967 فقط، مما يعني الاستعداد الضمني للتنازل عن الأرض المحتلة سنة 1948. شهدت هذه المرحلة كذلك ازدهار العمل الفدائي خاصة في الأردن ولبنان، واستطاعت حركة فتح الوصول إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبحت برئاسة ياسر عرفات في فيفري 1969، وتمكّنت المنظمة من الحصول على الاعتراف العربي بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في أكتوبر 1974، ليتم دعوة رئيسها إلى مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وتصبح عضوا مراقبا بها، ومن ثمة لم تعد القضية الفلسطينية قضية لاجئين، كما كان في السابق، بل أصبحت منذ 10 ديسمبر 1969 قضية تحرر وطني.
وفي السادس أكتوبر 1973، اندلعت حرب أكتوبر، واستطاعت مصر وسوريا تحقيق نتائج باهرة في البداية، حيث تمكّنت مصر من الزحف نحو الجناح الشرقي من قناة السويس، والتوغل داخل سيناء، كما تمكّن السوريون من التوغل داخل الجولان، لكن ما لبث العدو أن استعاد المبادرة، مستفيدا من الدعم الأمريكي، فاستعاد ما فقده من أراض، فأوقفت مصر الحرب استجابة لقرار مجلس الأمن في 22 أكتوبر، ثم لحقتها سوريا لتدخل المنطقة في حرب استنزاف دامت 80 يوما. بعدها وقّعت مصر اتفاقية فك الاشتباك مع الكيان في 18 جانفي 1974، نصت على انسحابه من غربي القناة إلى مسافة 30 كلم من شرقها، كما عقدت اتفاقية فصل القوات بين السورية والكيان في 31 ماي 1974.
واعتبر التحسن النسبي في أداء الجيشين العربيين، وخسائر الكيان الجسيمة في هذه الحرب، انتصارا مؤزرا، واستثمر الرئيس السادات هذه الحالة لتحريك الوضع باتجاه التسوية السياسية، فقام بزيارة الكيان في نوفمبر 1978، وتطور الوضع لتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978.
وعقب انتفاضة “أطفال الحجارة” التي اندلعت في 09 / 12 / 1987، أين تجلت قدرات كبيرة للشعب الفلسطيني في التضحية والعطاء، حيث واجه أطفاله ونساؤه دبابات الصهاينة بالحجارة، وكانت هذه الانتفاضة مناسبة لظهور حركتي الجهاد وحماس.
انتهت الانتفاضة بتوقيع حركة فتح، بزعامة ياسر عرفات، لاتفاقيات أوسلو مع الكيان الصهيوني سنة 1993، أين اعترفت منظمة التحرير بحق الكيان الصهيوني في الوجود الشرعي على 77 % من مجمل مساحة فلسطين المحتلة سنة 1948، في مقابل السماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم على أراضي 67.
وللتذكير - يقول الدكتور سراغني - فإن هذا الاتفاق جاء في حالة ضعف عربي شديدة، تميزت بتمزق الصف العربي، بعد غزو العراق للكويت، وتوقيع الأردن لاتفاقية سلام، شبيهة بكامب ديفيد، مع الكيان الصهيوني، واستفراد أمريكا بالريادة العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لذا عمل الكيان على استثمار الوضع الجديد، فأعاد علاقاته مع غالبية الدول الاشتراكية سابقا، كما فتح أبواب الهجرة إلى فلسطين، خاصة من الاتحاد السوفياتي المنهار الذي زوّد الكيان بأزيد من مليون مهاجر، بالإضافة إلى كفاءات عسكرية عالية.
ودخلت القضية الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو في وضع جديد، ميّزه الاختلاف الشديد بين رؤيتين ومسارين متعارضين في التعامل مع أولويات العمل الوطني وثوابته، وطريقة إدارة الصراع مع الاحتلال، هذا الأخير الذي لم يبد جدية صادقة في تنفيذ بنود أوسلو، بوضع رؤية حل الدولتين على أرض الواقع، وتبين أنه كيان يحاول إدارة الصراع لا حله، من خلال إطالة أمد المفاوضات، والتنكر للاتفاقات، معتمدا على السند الأمريكي الذي اعترف بالقدس عاصمة للكيان، وشجّعه على مصادرة أراضي الفلسطينيين، والتوسع في الاستيطان.
هذه السياسة التي جعلت طائفة واسعة من الفلسطينيين تقتنع بخيار المقاومة المسلحة للكيان الغاصب، فاشتدت المقاومة، وارتفع عدد العمليات الفدائية في الضفة الغربية، خلال انتفاضة القدس 2015-2017، خاصة بعدما تبين للجميع أن العدو يريد فرض سياسة الأمر الواقع، فيما يتعلق بمدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، من خلال تكثيف الاقتحامات، في مسعى واضح لفرض التقسيم الزماني والمكاني، كما حصل مع المسجد الإبراهيمي سابقا.
وللتذكير فإن المقاومة المسلحة في غزة تخوض اليوم معركة “طوفان الأقصى”، في سياق الاحتجاج على هذه السياسة الصهيونية تجاه المقدسات الإسلامية، بعد أن كانت قد خاضت معركة “سيف الأقصى” في 2021، لذات الغرض.


 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024