الشّاعرة المجاهدة فاطمة منصوري ومعركة القصيدة بوادي سوف

فوزي مصمودي باحث في التاريخ مدير المجاهدين لولاية الوادي

 

منذ تدنيس الجيوش الفرنسية الغازية أرض الوطن في 05 جويلية 1830 إلى غاية إخراجها عنوة، بعد (132 سنة) من الاستعباد والظلم والقهر والاستدمار، وطيلة هذه المدة صَاحب الشعر الشعبي المتجذّر في الثقافة الجزائرية باعتباره أحد مقوّمات الشخصية الوطنية، ورافقت نصوصه ليل الاحتلال الحالك الزاخر بالممارسات المخزية والجرائم ضد الإنسانية، وواكب كل مراحل المقاومة الشعبية المسلحة التي خاضها شعبنا ضد الغزاة، فبرز شعراء فحول ومقاومون أنطقتهم طبيعة المرحلة شعرًا، فأغنَوا منجزنا الشعري الشعبي بكمٍّ هائلٍ من القصائد والمقطوعات التي أرّخوا من خلالها للمقاومات والمعارك ولزعمائها وشهدائها، ووثّقوا لأحداثها ومراحلها محنها وانتصاراتها وإخفاقاتها. وقد تناقلتها الأجيال شفهيا، رغم أن الكثير منها قد ضاع واندثر، بسبب عدم تدوينها وجمعها وحفظها.



قصائد تنبُضُ وطنيةً وحسًّا مقاوِمًا وتقذف نارا وتُشعّ نورا..فتشحذ هِمَم الشباب وتقوّي من عزائم المقاومين، وتدعو إلى الجهاد المسلح ضد المحتلين ومساندة الانتفاضات الشعبية، على غرار المقاوم الطاهر بن محمد بن أحمد الزروق شاعر ثورة المقراني عام 1871، والشاعر محمد بن قيطون الذي أرّخ لثورة لبّازيد بالعامري ببلدية لغروس بولاية بسكرة عام 1876، والشاعر المقاوم محمد بلخير صديق الشيخ بوعمامة في ثورته عام 1881، وآخرين وصفوا نكبة احتلال العاصمة في 5 جويلية 1830 كالشاعر مصطفى بن إبراهيم.

مواكبة الشّعر الشّعبي لثورة نوفمبر 1954
 بعد قيام ثورة نوفمبر 1954 ارتبطت هي الأخرى ارتباطا وثيقا بالشعر الشعبي، حتى شكّل ديوانا ضخما بمختلف مضامينه وأشكاله ولهجاته الجزائرية، بحيث لا يمكن اليوم لأي باحث أو أكاديمي في مجال الأدب الشعبي أن يستغني عن هذا الرصيد.
وقد عرفت الساحة الثورية في تلك الفترة بروز عديد الشعراء الشعبيين، الذين جادت قرائحهم على مدى سبعة سنين أو يزيد بقصائد تحريضية ضد الجيش الفرنسي والنيل من قادته واحتقار أذنابه، وأخرى تمجّد قادة الثورة ومجاهديها وترثي شهداءها.
كما وثّقت هذه القصائد والمقطوعات للثورة؛ أحداثًا ومعارك ومواقع وأمكنة وأزمنة وقادة وشهداء بكل جمالية وذوق فني، كما تغنّوا بها وببطولات مجاهديها وتضحياتهم، منطلقين من معاناتهم وحرمانهم وسَليقتهم النّقية وإخلاصهم لوطنهم.

فاطمة منصوري شاعرة الثّورة وعنوانها
 نظرا لطبيعة المجتمع الجزائري المحافظ، فقد طغى الشعراء الرجال على الشواعر من النساء، حيث لم يبرز منهن إلا قلة قليلة جدا، كانت من بينهن الشاعرة الكبيرة المجاهدة فاطمة منصوري ابنة وادي سوف، التي كان لها فضل كبير في حماية الذاكرة الوطنية من خلال قصائدها التي أرّخت لعديد المعارك التي دارت رحاها بهذه المنطقة، وحفظت أسماء شهدائها ومجاهديها، على غرار البطل الشهيد حمّه لخضر بطل معركة هود شيكه والمجاهد السعيد رمضاني..وغيرهما.

الشّاعرة الأرملة وحياة الفقر والتّسوّل
 في ظروف طبيعية جدّ قاسية تميّزت بها منطقة وادي سوف، وفي ظل احتلال استيطاني غاشم زاد الوضع سوءا، ولدت شاعرة الثورة الجزائرية المجاهدة فاطمة منصوري بنت نوار ومسعودة عطية، التي عُرفت بـ (العلوانية) في قرية الجديْدة ببلدية الدبيلة بولاية الوادي عام 1910، ترعرعت في هذه المنطقة التي تميّزت بالفقر المدقع والحرمان الشديد، ولم يتسنّ لها أن تقرأ حرفا واحدا! ولمّا شبّت زُفّت زوجةً إلى ناجي علواني بن علي بن عمار.
وممّا زاد في معاناة ومحن هذه الزوجة الصابرة، وفي ضنك عيشها وعيش أبنائها (عبد العزيز ومحمد وعلي) وفاة زوجها سنة 1945، ثم وفاة والده، لتتّسع دائرة الحرمان والمأساة، ولتبقى الأرملة مع أبنائها الأيتام لا معيلَ لهم ولا معين.
وبسبب هذه المحنة فقد اضطرّت - حسب ما يذكر حفيدها الأستاذ أحمد علواني في ديوانها - أن تعمل بنفسها لانعدام من ينفق عليها وعلى أبنائها الأيتام، فكانت تعمل النسيج لدى بعض العائلات مقابل قدْرٍ زهيدٍ من الشعير لا يُسمن ولا يغني من جوع، حيث تقوم بطحنه وتضيف إليه أوراق الفلفل والجزر حتى تزداد كميته، ثمّ تُعدّه وتطعمه أبناءها لتسدّ رمقهم من الجوع، وأحيانا أخرى تضطر إلى تحميص نَوَى التمر فتطحنه وتعدّه لهم!
ونتيجة لهذا الضنك في العيش والفاقة القاتلة اضطر أبناؤها عبد العزيز وعلي - رغم صغر سنّيهما - إلى العمل في سقي محصول التبغ الذي كانت زراعته رائجة في المنطقة تلك الفترة. ويروي حفيدها كذلك في ذات الديوان أن جدّته وتحت ضغط الحاجة وشدة الفقر، لجأت إلى التسوّل رفقة إحدى صديقاتها في منطقة سيدي عون خلال ليل الاحتلال الحالك.

ثورة نوفمبر تُنْطِق فاطمة منصوري شِعْرًا
 ممّا يذكر عن مترجمتنا أنها لم تقل الشعر قطُّ قبل الثورة، وإنما نطقت به مباشرة عقب انطلاقتها، وبمقابل ذلك ــ وممّا يسترعي الانتباه ــ أنها توقّفت عن قرض الشعر مباشرة بعد أن استرجعت الجزائر سيادتها، وظلّت كذلك إلى غاية وفاتها خلال شهر ديسمبر 1984.
ممّا يؤكّد أنّها عاشت فعلا مأساة شعبها ومعاناة بني قومها في ظل الاحتلال، وأن الثورة المسلّحة التي أعلنها شعبها المغلوب على أمره فرصة لا تُقدّر بثمن لإعادة مجد دولته والتخلص من الغزاة المحتلين، ويعبّر حفيدها الأستاذ أحمد علواني عن هذه الحقيقة بقوله: “فألهمها وحي نوفمبر قذائف من البيان كانت صواعق محرقة على هامات المستعمر وأذنابه، وشهبًا ألهبت فتيل القلوب وأنارت الدرب في مسيرة النضال للوصول إلى الهدف المنشود، وهو الاستقلال الذي كانت توقن به الشاعرة”.

قصائد تشحذ الهِمَم وتهجو الاحتلال وأذنابه
قامت المجاهدة الشاعرة فاطمة منصوري طيلة سبع سنوات بدور فعّال في شحذ هِمَم المجاهدين وتمجيد الثورة وأبطالها والدعاية لها، خاصة أن قصائدها كان ينتظرها المجاهدون من أعضاء جيش التحرير الوطني، ومن المناضلين المدنيّين الذين كانوا يتغنّون بها ويتناقلونها فيما بينهم خِفية، كأنّها وسائل إعلام ثورية ممنوعة، بل كان الكثير منهم يتطّلع ونسعى أن تذكرهم ضمن قصائدها ومقطوعاتها الشعرية وتعلن التحاقهم بالثورة، مع إشادتها بالحرية والكرامة في ثنايا قصائدها التي كان ينشدها أبناء وبنات شعبها، ورفضها الأغلال التي قيّده بها احتلال لم تشهد البشرية عبر تاريخها أكثر إجراما منه وتلذّذا بعذابات الآخرين. وزاد في اتساع دائرتها التغنّي بها في الأعراس والمناسبات..، ولم يقتصر هذا التلهّف على نصوصها بمنطقة وادي سوف فحسب بل تعدّاها إلى المناطق المجاورة لها.

سنتان سجنا للشّاعرة بسبب قصيدة
نتيجة لقوّة شِعرها وتأثّر الشباب به، وتلبية الكثير منهم نداء الواجب الوطني لشدّة وقعه في أنفسهم، وكذا تناقل قصائدها الشعبية بين الناس إبّان استعار الثورة التحريرية، وتنافسهم في حفظها وترجمة معانيها عمليا في ميدان المعركة، والتي أدّت إلى زعزعة استقرار الإدارة العسكرية بوادي سوف، لاسيما إحدى القصائد الثورية التي عَرّت فيها المحتل، ونالتْ من جيشه الغازي ومن عملائه، وبمقابل ذلك مجّدت فيها الثورة الجزائرية وأبطالها ومواقعها وانتصاراتها، فقام أحد الخونة بترجمتها إلى اللغة الفرنسية وقدّمها إلى السلطات العسكرية بوادي سوف، فتم اعتقالها والزجّ بها في مركز التعذيب ببلدية الدبيلة.
وأثناء التحقيق معها طلب منها الضابط قائد المركز الكفّ عن قول الشعر وأن تسكت نهائيا، مقابل تسريحها والسماح لها بالعودة إلى أسرتها، فردّت عليه هذه المجاهدة بكل شجاعة وجرأة بقصيدة رائعة ضمّت (42 بيتا)، ممّا جاء فيها:
حَالفْ مَا نْبَطّلْ لَفْتَانْ
كُونِشْ رْبحْنَا الحُريّهْ
عنها نُسكنْ في لَجْبَالْ نُدُّوهَا بالفَنطازيّهْ
عنها طْلَعْنَا جْبلْ لَوْرَاسْ وَتْوَطّنَّا في لَرْيَاسْ
إلى أن تقول:
حَالَفْ لاَ بَطّلْتْ غْنَايَا
عنكمْ لاَنِي نَادمْ فيهْ
جِبْتَهْ عن جيش التحرير
فيهمْ شَيّْ نْعَاشِيِ بِيهْ
ونكاية فيها فقد أحالها هذا الضابط المتعجرف إلى المحاكمة بتهمة: “الإشادة بالخارجين عن القانون والنّيل من السلطة الفرنسية وجيشها”، وقد حُكم عليها بالسجن لمدة سنتين قضتهما بسجن لومبيز بباتنة، لكنها ظلت صابرة ومؤمنة بقضيتها العادلة، ومدركة لدورها الوطني الطلائعي من خلال الجهاد بالكلمة، حيث عادت للشعر مباشرة عقب إطلاق سراحها.

آثار الشّاعرة فاطمة منصوري
يعود الفضل في جمع نخبة من نصوص الشاعرة إلى الأديب الدكتور أحمد حمدي، الذي قام بنشر تسع قصائد من ديوانها، مع إشارته إلى مناسبة كل قصيدة منها ضمن كتابه “ديوان الشعر الشعبي..شعر الثورة المسلحة”، الذي صدر عن المتحف الوطني للمجاهد بالعاصمة عام 1994، حيث نشر لها: (حالفْ مَا نبطلْ لفتان) التي أشرنا إليها آنفا، و(جْوابْ لبعايدْ) التي قالتها في بداية عام 1956 عندما أرسل المجاهد سي مبروك مقدم المساعد السياسي للبطل الشهيد حمه لخضر رسالة من سجنٍ بفرنسا بعد أن سقط جريحا في معركة صحن الرتم الشهيرة، التي جرت وقائعها بتراب بلدية المقرنيوم 15 مارس 1955، يخبره فيها بأنه ما زال حيا يرزق، ومطلعها:
جْوابْ لَبْعايَدْ من مبروك وْصَلْنَا
واطلقْ سْراحَهْ يَا إلهي لَنَّا
عليك السلام وإن شاء اللهْ
تَجْملْنَا جوابه دزّهْ
لَقْفُلْ لَمْسَكّرْ يا إلهي حلَّهْ
واطلقْ سْرَاحهْ يا عظيم القدرهْ
أما قصيدة “سعيد شَدُّوهْ” فقد جادت بها قريحتها بعد اعتقال العدو الفرنسي المجاهد رمضاني سعيد، وأسره بأحد أبراج الصحراء، قائلة:
سعيد شَدُّوهْ يا نار قَلْبي
ومْكَتَّفْ للبُرجْ أَدُّوهْ
لِحْقُوا قطّارة في الجُرَّة
وقد وصفته بالشجاع النّفّاع لوطنه، أما المحتلين فقد وصفتهم بـ (الكفرة):
جْدَعْ سُجاع
راهُو في الحَزَّة نَفّاعْ
كون عِندهْ رْدَاعْ
الكُفرة لاَ قَدْرُو يِرُدُّوهْ
جابوه هْنَايَا
دامعين عيوني جَرَّايهْ
خُونَا من ربّي
في ساعةْ الضيم نْصِيبُوهْ
أما العملاء فقد هجتهم ونالت منهم، حتى أنها شكّت في دينهم في قصيدة أخرى قائلة:
لقريفة دزْ جْواباتْ
للكُفرة والبَايُوعَاتْ
يالْ المستخدم عندْ الرومي
ويِفجَّع في المخلوقاتْ
لوكانهْ مسلمْ
ما يبدَلْ دينَهْ هيهاتْ
آه يا بَيُوعهْ شُوفُو
ما تْدِيرْ السّاداتْ
أما قصيدة “الله ينْصْرُو وِيِعَلِّيهْ ع العدوية”، فقد قالتها بداية عام 1955، بعد أن قامت عساكر العدو بعملية تمشيط واسعة بمنطقتي (الجديْدة) و(حاسي خَلِيفة) لاقتفاء أثر المجاهدين، الذين تمكّنوا من مغادرة المكان مباشرة بعدما تيقّنوا من تعرّف العدو على مكانهم:
الله ينصرو ويعلّيهْ ع العدوية
ويكسَّرْ حالْ فرانْسَا الروميّهْ
العدو مغشوشهْ مْذبّلة وقْلُوبها مهسوسهْ
إلى جانب قصيدة “تتسقّم لَيَّام”، التي تحدّثت فيها عن بطولات ابن بلدتها (الجديْدة) الشهيد حمّه لخضر، وتمنّت لو كانت بطلا مثله تخوض المعارك، لتواصل مسيرته بعد استشهاده في معركة هود شيكه خلال أيام: 08، 09، 10 أوت 1955 بتراب بلدية سيدي عون، كما خصّت هذه المعركة الفاصلة بقصيدة أخرى مطلعها:
نُورِّيكْ ضرْبْ الحربْ كانْ نْسِيتَهْ
نشفِّيكْ عن ضربةْ نهار هُودْ شِيكَهْ
نُورِّيك ضربِي نَايَا
كَأنَكْ غْدِيتِ عايلةْ في اسْمَايَا
نورِّيك ضربْ الحامِي
باشْ تفهمي حمّود صيدْ الدّامي
ونفرْجَكْ ما تعملْ الرّجّالهْ
نْرقِّيكْ ع الواعرْ وْلاَقَدِّيتَهْ
إلى جانب قصيدة “والحرب من بكرة ثار” التي ذكر الدكتور أحمد حمدي أنها طويلة جدا، ولم يعثر سوى على (76 بيتا) منها:
أُولادْ لجزايرْ تْعَلُّو
وُالفتنْ هزُّو حْرَابَهْ
لا يرهبُو ولا يـِذلُّو
لا تْكِيدْهمْشِ لمْجَابَهْ

الحفيد يجمع ديوان الجدّة بعد رحيلها
لتوثيق آثار الشاعرة المجاهدة فاطمة منصوري وحفظها من الاندثار، كما حدث للجزء الأكبر من تراثنا الشعري والنثري، فقد بادر حفيدها الأستاذ أحمد علواني بجمع وتنظيم نصوص ديوان جدّته بعد وفاتها، الذي أشرف على تنسيقه وشرح ألفاظه ومفرداته، والتعليق عليه وضبط شكل أبياته الدكتور أحمد زغب أستاذ الأدب الشعبي بجامعة الشهيد حمه لخضر، وصدر عن دار الثقافة محمد الأمين العمودي عام 2012 بالوادي، موشّحا بشكر وعرفان من قبل مديرها آنذاك الأستاذ محمد حامدي، ومقدمة للدكتور أحمد حمدي الأستاذ بجامعة الجزائر 3، وأخرى للدكتور محمد زغب، الذي خصّ الديوان كذلك بتفصيل حول “الأرجوزة النسائية في البوادي الجنوبية الشرقية من تعويذة سحرية إلى أغنية ملحمية..فاطمة منصوري نموذجا”، فيما قدّم حفيدها وجامع ديوانها ترجمة وافية حول جدّته والظروف المزرية التي مرّت بها، وأخرى حول مسيرتها الشعرية الثورية.
كما أضاف قصائد أخرى لم يعثر عليها الدكتور أحمد حمدي، ومن ذلك قصيد: “البارح مْنامْ الليل” و«جَانَا عيدْ على عيدْ” و«يدْ المولى طويلة” و«بادي باسم الله” و«ينصر الشبان” و«شيعتكم بالعين” وقصيدة “حيّد على صغار المجاهدين”، ليكون عدد قصائد الديوان مجتمعة (ست عشرة قصيدة) تفاوتت في الطول.
وأُؤكّدُ جازما أنّ الشاعرة المرحومة خلفت من القصائد أكبر من هذا العدد، لكنها زالت من المخيّلة الشعبية والذاكرة المحلية فضاع منها الكثير، إلا ما علق في أذهان بعضٍ من أبناء المنطقة والمهتمين بتراثها الشفهي اللامادي، بسبب عدم تدوينها كاملة والاعتماد فقط على الرواية الشفهية.

الشّاعرة فاطمة منصوري بعد الاستقلال
عقب الاستقلال ــ وكما سبقت الإشارة ــ توقّفت نهائيا عن قول الشعر! هذا الشعر الذي ارتبط فقط بثورة نوفمبر 1954، وكأنِّي بها قد جعلته وقْفًا خالصا لهذه الملحمة الشعبية دون غيرها.
ويذكر حفيدها الأستاذ أحمد علواني في “ديوانها” أن جدّته بعد استرجاع السيادة الوطنية كان لها موقف عظيم يخص الناشئة، ففي ظل تراجع كلّي للتعليم وقلة المدارس نتيجة لسياسة التجهيل التي انتهجتها سلطات الاحتلال الفرنسي في حق أبناء الشعب الجزائري لاسيما في المناطق الصحراوية التي كانت خاضعة للحكم العسكري؛ كمنطقة وادي سوف، ونتيجة للوضعية المزرية التي كانت عليها جزائر الاستقلال، فقد عمدت المجاهدة الشاعرة فاطمة منصوري إلى فتح بيتها بقرية (الدريميني) لتكون أول مدرسة شعبية بها، بالرغم أن شاعرتنا لم يكن لها نصيب من التعليم، إلا أنها كانت تدرك أهميته ودوره التعليم لبناء جزائر جديدة.

رحيلها
نتيجة للمحن والضغوط التي تعرّضت لها مترجمتنا شاعرة الجزائر المجاهدة فاطمة منصوري طيلة حياتها خلال حقبة الاحتلال الفرنسي، وحالة الفقر والمعاناة التي كانت عليها ومداهمات العسكر الفرنسيين لبيتها، وتعرضها للاستنطاق وللسجن مدة سنتين، والمصحوبة بالتعذيب النفسي والقهر الاجتماعي الذي كان يتفننُ فيه الفرنسي، فقد أصيبت المرحومة بمرض السكري الذي لازمها سنوات قبل وفاتها خلال شهر ديسمبر 1984.

فاطمة منصوري..ومرحلة إعادة الاعتبار
 لا شك أن هذه المسيرة الثورية الحافلة بالأعمال الجليلة في سبيل تحرير الوطن من أنجاس الاحتلال الفرنسي، وجهادها المرير بالكلمة الملتهبة والقصيدة النارية، وما شربته هذه الشاعرة الصابرة من محن وظروف قاتلة؛ أُمًّا وأرملةً ومناضلةً لجديرة أن تلتفت إليها الأجيال الحاضرة، وأن تعيد لها الاعتبار من جديد، حتى تكون في مستوى الشعوب الراقية التي تنتهج سلوك تكريم أعلامها ومتميّزيها بطريقتها الخاصة، وكذا من باب “ولا تنسوا الفضل بينكم”،
لذلك فإنّني أرى ضرورة إطلاق اسم هذه المجاهدة ــ التي ظُلمَتْ حيّةً وميّةً ــ على إحدى المؤسسات التربوية أو الثقافية أو الشبانية التي تم إنشاؤها في جزائر الاستقلال، هذا الأخير الذي عملت له بلا هوادة متحمّلة الفقر والقهر والظلم والسجن.
ولِمَ لا الاجتهاد لاعتماد تنظيم ملتقًى وطني يتناول “الأدب الشعبي المقاوِم”، يحمل اسمها ويخلد ذكرها، ويكون تقليدا سنويا تاريخيا راسخا في المشهد الثقافي بولاية وادي سوف، لاسيما أننا على أبواب ذكرى وفاتها الأربعين خلال السنة المقبلة 2024، مع إعادة طباعة ديوانها طباعة أنيقة، وفي حلّة قشيبة بعد أكثر من عشر سنوات على طبعته الأولى، وبالتأكيد أنّ هناك قصائد ونصوص أخرى تمّ العثور عليها طيلة هذه المدة لتضاف إلى الطبعة الجديدة المأمولة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024