المستعمر استعمل كل الوسائل في ردع الثّورة المباركة

مراكز التّعذيب..شواهد على بشاعة الإستعمار

ز - كمال

 

 ما تزال مراكز التعذيب والمحتشدات التي أقامتها السلطات الاستعمارية الفرنسية بمناطق عديدة وبلديات بولاية بومرداس، شاهدة على جرائم الاحتلال وبشاعة أساليب التعذيب والاستنطاق، الذي مورس على المجاهدين والمناضلين منذ بداية الثورة التحريرية بهدف تحطيم عزيمة الثوار، وكسر الارادة الشعبية التي التفت حول قيادة جبهة التحرير من أجل تحقيق هدف واحد هو الاستقلال والحرية مهما تكون التضحيات التي يدفعها الشعب الجزائري.

 تحصي ولاية بومرداس 83 معلما تاريخيا تعود الى الحقبة الفرنسية منها 42 مركز تعذيب، 39 محتشدا وسجنين ومحتشد، حسب إحصائيات مديرية المجاهدين، التي قامت بإجراءات عديدة لترميم وتهيئة هذه المعالم وتحويل بعضها الى متاحف تاريخية، على غرار مركز “غوتي”، الشهير ببلدية سوق الحد في إطار توجهات الوزارة الوصية للاهتمام أكثر بالذاكرة التاريخية، وربطها بالأجيال الحالية والقادمة من الشباب ومناهضة كل أشكال النسيان، وأيضا محاولة تسجيل والاحتفاظ بصور وممارسات التعذيب النفسي والجسدي اللاإنسانية التي اقترفها الجيش الاستعماري ومعاونوه من الحركى، وهي جرائم تبقى - بنظر الباحثين - قائمة ولا تتقادم مع الزمن، خاصة في ظل وجود مثل هذه الشواهد المادية التي تكفي لوحدها إدانة فرنسا الاستعمارية، واقتيادها الى منابر الاعتراف بالمحاكم الدولية.
وقد اهتمّ ملف الذاكرة الوطنية بكل ما هو مرتبط بهذه المسألة من شواهد مادية ولا مادية، وفتح قنوات تسجيل الشهادات الحية للمجاهدين والمناضلين الذين ما زالوا على قيد الحياة، وهذا عبر الاهتمام الكبير من قبل وزارة المجاهدين ومديرياتها عبر الولايات من أجل جمع أكبر قدر من المعلومات والوثائق كمادة أولية توضع بين ايدي المؤرخين الباحثين الجزائريين من أجل كتابة فصول جديدة من تاريخ الثورة التحريرية والحركة الوطنية منذ دخول الاستعمار الفرنسي الى الجزائر سنة 1830، وهذا وفق نظرة وطنية للمدرسة الجزائرية حتى يمكن تصحيح كثير من المغالطات ونقاط الفراغ والتزييف للوقائع والأحداث التي مارستها المدرسة الفرنسية الاستعمارية لتشويه الواقع وتبييض وجه المستعمر الغاشم.
من هذا المنطلق، جاء الاهتمام ايضا بترميم وصيانة مقابر الشهداء ومراكز التعذيب في مختلف الولايات ومنها بومرداس، التي تضم لوحدها 42 مركزا من أصل 250 مركز على المستوى الوطني أقامته السلطات العسكرية الفرنسية، وهو دليل على أهمية المنطقة ودورها الكبير ابان ثورة التحرير، حيث تقاسمت النشاط الميداني تنظيميا ما بين الولاية الثالثة بقيادة الشهيد عميروش، والرابعة بقيادة الشهيد أمحمد بوقرة، وكانت مسرحا للعديد من المعارك وممرا هاما ما بين المنطقة الشرقية والغربية، وهو ما أكسبها أهمية كبيرة مقابل تشديد الخناق عليها من قبل الجيش الفرنسي بلجوئه الى اساليب ووسائل أخرى جهنمية لفصل الشعب عن الثورة، تمثلت في إقامة محتشدات جماعية ومراكز للتعذيب عرفت بالوحشية والقسوة، لكنها لم تكسر إرادة التحرر والاستقلال من قلوب المناضلين والمجاهدين، الذين مرّوا بهذه الدوائر المظلمة، كان قدر بعضهم النجاة رغم العذاب الوحشي، وظلوا الى اليوم يتذكرون مشاهد الوحشية، وآخرون ارتقوا شهداء مع حرمان أهاليهم من زيارات قبورهم بعد اعدامهم ورمي جثامينهم في وادي يسر لمسح آثار الجريمة الشنعاء.
”غوتيه”..دار “بوني” و”جيرمان”..
الوجه البشع للإستعمار
 تشكّل مراكز التعذيب المعروفة تاريخيا بالمنطقة وبأسماء استعمارية أغلبها لكولون أو أحواش و«فيرمات”، في المصطلح العامي كمركز حوش”غوتيه”، ببلدية سوق الحد “دار بوني” ببغلية، معتقل “جيرمان” بلقاطة، معتقل “قالوطة” بدلس، وغيرها كثير، أحد أهم أبشع الأساليب الدنيئة للإدارة الاستعمارية الفرنسية، التي لجأت اليها في بعد بداية ثورة التحرير بحسب كثير من الدراسات التاريخية، أي بداية 1956 أو التاريخ المفصلي للثورة التي عرفت تحولا كبيرا بعد مؤتمر الصومام، إضراب الطلبة وغيرها من الأحداث العسكرية والسياسية التي عززت من مكانة الثورة وتعزيز الالتفاف الشعبي حولها، مقابل فشل كل محاولات فرنسا لتشويه المجاهدين والمناضلين من خلال وصفهم بقطاع الطرق والخارجين عن القانون.
وبهدف محاصرة الثورة وفصلها عن الشعب الذي احتضنها من البداية، شرعت السلطات الاستعمارية في انتهاج سياسة جهنمية جديدة بإنشاء محتشدات ومعتقلات لجمع المواطنين والسكان وإحاطتهم باسلاك شائكة لإبقائهم تحت المراقبة، إضافة إلى مراكز تعذيب من أجل استنطاق المناضلين والمسبلين للإدلاء بمعلومات عن المجاهدين، وهي مراكز عرفت بسمعتها السيئة جدا، بالنظر إلى وسائل التعذيب المستعملة بها، وكان من أشهرها مركز التعذيب لحوش “غوتيه”، ببلدية سوق الحد، الذي يعود تاريخ انشائه الى 1956 ويتسع لـ 200 معتقل حسب البطاقة التقنية التعريفية للمعلم الذي حوّل من مزرعة كانت تابعة للمعمر “غوتيه” تحصل عليها سنة 1872 مع بداية إجراءات نزع الملكية مباشرة بعد ثورة المقراني.
وما تزال الى اليوم بعض الشواهد المادية كالأسوار والحجرات الاسمنتية الرهيبة التي كانت تستغل في حفظ الخمور شاهدة على بشاعة المركز وفظاعته، وهذا تحت ادارة وإشراف الرائد المجرم “سكيرفو”، بمساعدة بعض الضباط والحركى وفرقة من المظليين الذين مارسوا كل أنواع وأشكال التعذيب لاستنطاق المعتقلين، ونظرا لأهميته التاريخية أدرج المركز ضمن المعالم التاريخية التي ستستفيد من عمليات تهيئة وترميم كي يبقى شاهدا على جرائم فرنسا في حق أبناء الشعب الجزائري، وكان محل زيارة وتفقد لوالي ولاية بومرداس، بمناسبة إحياء ذكرى مظاهرات 17 أكتوبر.
يمثّل معتقل “حوش جيرمان”، ببلدية لقاطة، أحد أشهر مراكز التعذيب والاستنطاق التي أقامها الجيش الفرنسي بالمنطقة سنة 1957 لمحاصرة الثورة، وعزل المجاهدين عن الحاضنة الشعبية وممارسة مزيد من الضغط عبر تلك الممارسات الوحشية التي كان يتعرض لها المعتقلون من مدنيّين مسبّلين، مناضلين ومجاهدين، إلى جانب عدد آخر من المراكز المعلنة والسرية التي لجات إليها فرنسا عبر 20 بلدية ببومرداس، عرفت نشاطا ثوريا كبيرا منها مركز “قالوطة” ببلدية دلس لمحاصرة ثوار عرشي بني ثور وبني سليم، ومراقبة المنفذ المؤدي الى غابة ميزرانة، مركز “دار بوني” ببلدية بغلية، حوش “البوشي” و«سطورة” ببلدية الخروبة، مركز باسطوس ببلدية برج منايل، مركز حوش “الرول” ببلدية تيجلابين وغيرها من المراكز والمحتشدات الأخرى التي تبقى الى اليوم شاهدة على العدوان الفرنسي، راسخة في أذهان سكان المنطقة والمعتقلين الذين مروا من دهاليز الغرف المظلمة التي تحتفظ بصور ومشاهد رهيبة من ممارسات الاستعمار الفرنسي.
وعليه، كان من الواجب ونحن نحتفل بالذكرى 69 لاندلاع ثورة التحرير المجيدة أن نستذكر بطولات وأمجاد المجاهدين، الذين ضحوا بدمائهم في سبيل استقلال الجزائر، وعلى نفس الاهتمام أيضا، يكون الاعتراف لكل المناضلين وخصوصا المدنيين الذين احتضنوا الثورة، وقدّموا كل أشكال الدعم والمساندة لكن بثمن باهظ، حيث كان جل نزلاء المحتشدات ومراكز الاستنطاق من هذه الفئة التي كافحت في صمت، وهي اليوم بحاجة الى تقدير ورد الجميل مع واجب الاحتفاظ بالشواهد الدامغة والأدلة الثبوتية التي تمثلها هذه المراكز سيئة السمعة، وكوصمة عار في جبين فرنسا الاستعمارية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024