مصادرة الفرح: كيف يكمّم الاحتلال صوت الحرية في القـدس المحتلّة

بقلم : لمى غوشة

حاصر الاحتلال الصهيوني كلّ مظاهر الفرح المرئية وغير المرئية المصاحبة لتحرّر الأسرى والأسيرات في القدس المحتلة عبر صفقة التبادل بين حركة المقاومة الإسلامية والحكومة الصهيونية، ليتحوّل المشهد العام من مشهد حرية إلى حالة ينتقل فيها الأسرى من سجن إلى سجن أكبر. يمكننا وصف المشهد وتكثيفه بأنّ الاحتلال أصدر أمراً باعتقال الفرح في القدس المحتلّة، فقد صُودرت الحلوى بجميع أنواعها من بيوت الأسرى المحرّرين، ومُنعت الهتافات ورفع الرايات والأعلام والتجمّعات، وتحوّلت بيوت الأهالي إلى ثكنات عسكرية مغلقة، ومُنع الصحافيون من التغطية، وهُدّد الأسرى بإعادة الاعتقال ودفع غرامات مالية تبلغ عشرات آلاف من الشواقل، وانتشرت المركبات الخاصة بالشرطة في شوارع المدينة، وأُعلنت حالة التأهّب العامة لتصبح القدس مدينة أشباح بالمعنى الحرفي للكلمة، يسيطر الخوف على أهلها كاتماً فرحهم، فالتمرّد هنا يؤدّي إمّا إلى الموت، وإمّا إلى الاعتقال. استقبلت القدس 24 أسيرة محرّرة، بينهن 10 أمهات، و48 شبلاً،[1] تم تقسيمهم على مدى سبعة أيام متوالية، ولم يُستثنَ أحد من محاولات فرض صور الضبط والسيطرة، إذ اشترط الاحتلال تسليم الأشبال إلى بيوتهم برفقة الوحدات الخاصة، يرافق ذلك عملية فحص هويات الموجودين في البيت، للتأكّد من عدم وجود أشخاص من خارج العائلة، وكذلك الحال مع الأسيرات المحرّرات. وفي هذا السياق، تقول الأسيرة المحرّرة هنادي الحلواني، التي اعتقلت في التاسع من أكتوبر من بيتها بطريقة همجية ومذلّة، بتهمة “التحريض والتماهي مع التنظيمات الإرهابية” ليفرج عنها ضمن الصفقة: “في ليلة الإفراج، عند الخروج من المسكوبية، كانت تنتظرني سيارة مخابرات فيها زوجي وشرطية قامت بتقييد يدي ووضعي في السيارة، وحينها أخبرني سائق السيارة وهو رجل مخابرات أيضاً بأنّه ممنوع التنفّس، وليس فقط الحديث. وحين وصلت باب بيتي، وجدتُ كتيبة من قوات الاحتلال، وكانوا قد طردوا كلّ من أتى بمن فيهم الصحافيون. وقامت سلطة الاحتلال ومخابراته بالصعود معي إلى باب البيت وإدخالي إليه، والتأكّد من أنّ أحداً لم يصوّرني عند اللحظات الأولى لدخولي ومقابلتي زوجي وأولادي، فحتى هذه اللّحظات تم سرقتها منا بالشروط التي وضعوها علينا، فتم منعنا من الاحتفال داخل البيت، سواء أكان الاحتفال صغيراً أم كبيراً، ومن رفع أيّ شعارات أو رايات، حتى صوري ممنوعة، وأيضاً الحديث بكثير من التفاصيل، وممنوع أن أتحدّث إلى الإعلام أو عبر أيّ وسيلة.”[2] أمّا عن ظروف تحرّر الأشبال، فيروي الأسير المقدسي المحرّر أحمد العجلوني ما جرى معه ليلة التحرّر بعد مكوثه مدة ستة أشهر داخل سجن نفحة: “أجو عنا السجانين بالسجن، قالولنا تعالوا عندكم محكمة، أخذونا، كلبشونا، حطوا روسنا عالأرض، وضلّوا ماشيين فينا حطونا بالبوسطة، بعدين سكّروا كلّ الشبابيك، فلم نعرف وين احنا، مشوا فينا ما يقارب الـ 3 ساعات وعندما فتحوا البوسطة، وجدنا أنفسنا أمام المسكوبية، وضعونا في الغرفة بدون فرشة ولا إشي لساعات طويلة، ثم جاء ضابط المخابرات وقال لنا: إنتو مروحين بصفقة تبادل.”[3] وتضيف والدة الأسير العجلوني: “اتّصلوا بنا على الساعة الواحدة والنصف ظهراً وطلبوا منّا أن نتواجد على الساعة الثالثة عند باب المسكوبية، دخلونا وقاموا بالصراخ علينا، ممنوع تلفونات، ممنوع تحكوا، ممنوع احتفالات، ممنوع كلشي، أخذوا هوياتنا وتلفوناتنا وحجزونا للـ 12 بالليل، ثم أدخلونا عالمسكوبية وجلسنا هناك لساعة ونصف أُخرى.”[4] وتكمل: “أصعب لحظة لمّا كان ابني جنبي بالسيارة ومش قادرة أحكي معه ولا أسلّم عليه ولا ألمسه، حطوني بالسيارة وواحد جنبي وابني جنبو، بس لوصلت البيت لقدرت ألمسه وأحضنه.”[5] وعليه، تقول الإعلامية منى العمري: “كثافة مشهد أن يغدو الإنسان حرّاً (بالمعنى الفيزيائي) وتأثيره في النفوس، وامتداد توارد الحدث/الصور لأيام، كلّها لا يعمل على تحرير نفوس المقهورين بشكل آني فحسب، بل يؤسّس لمخيال جمعي، وهنا نقطة بداية سردية التحرّر مقابل الضحية. وأمّا دولة الصهاينة فهي تدري أنّها لا تستطيع أن تمنع الفرح في نفس الفلسطيني وإن كانت تطبق على كلّ مناحي حياته وتتحكّم بها...”[6] يعيش الفلسطيني في القدس المحتلّة نوعاً خاصاً من أنواع الاحتلال، وهو ما كشفته الأيام الماضية، ألا وهو “احتلال المشاعر”، إذ يتحكّم الاحتلال بصورة ممنهجة ومدروسة بمشاعره؛ يؤدلجها ويوجّهها بالطريقة التي يحب، وبالكيفية التي تدعم أهدافه. يقوم بهذا كلّه مجرّداً الفلسطيني من المقوّمات الإنسانية وقدرته على التحكّم بمشاعره وحواسه، آملاً بتحويلة إلى “روبوت” يضحك ويبكي ويحزن في الوقت المحدّد الذي يختاره العدو له، لكن لا مفر من مقاومة كلّ ذلك بالحيلة الدائمة. فالفنون هي الوسائل التي تحايل بها الإنسان الأول على مخاوفه؛ فعمر المقاومة من عمر الإنسان على البسيطة، وهي في فطرة الإنسان الحرّ، وسمة من سماته الأساسية التي لا تنفك عنه طبيعياً، والإنسان يقاوم لا إرادياً أيّ سلوك عدائي تجاهه بأن يتخذ وضعياته العفوية للدفاع عن ذاته وعمّن حوله، فمن فقد مقاومته واستسلم للآخر كأنما فقد عزّته وإنسانيته، حتى لو كانت تلك المقاومة محض حيلة يتوارى خلفها المقهور.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024