حقيقة العيش الطيب الموصل إلى الحياة الأكمل في الآخرة

إن الحياة الطيبة مطلبٌ للناس جميعًا، الحياة التي تكون مصبوغة بالسعادة والهناء، وبالتعبير الأوضح والأكمل؛ كما جاء في القرآن المجيد، الحياة الطيبة مطلبٌ للمكلفين جميعًا، وتتعدد وسائلهم وتتنوع طرقُهم في الوصول إليها، لكن الله جل وعلا قد أوضح الطريق وبيَّن السبيل، وهدى إلى المحجة، وأقام الحجة على الجميع، مبينًا لهم هذه الحياة الطيبة التي ينالها مَن ابتغاها، وسلك طرقها في هذه الحياة الدنيا؛ لتكون موصلةً له إلى الحياة الطيبة الأكمل في الدار الآخرة.
يقول الله جل وعلا واعدًا عباده المؤمنين، ومُحرِّضًا لهم على هذا المنهاج القويم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، النحل الآية 97.
فهذا وعدٌ من الله الكريم، وعدٌ من الله الذي قال عن نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}،النساء الآية 87  فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً.
والذي يظهر والله أعلم أن المراد بالحياة الطيبة هنا في هذه الحياة الدنيا؛ لأن الله قال في تمام الآية الكريمة:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ}؛ يعني: في الآخرة، في الحياة الدنيا لهم الحياة الطيبة، والحياة الطيبة هذه جاءت الشريعة لتهذِّب أفهام الناس فيها، وفي مفهومها، فهي شاملةٌ لوجوه الراحة من أي وجهٍ كان، وقد رُوِي عن بعض العلماء تفسيرٌ لمعنى هذه الحياة الطيبة، فرُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم فسروا الحياة الطيبة بالرزق الحلال الطيب، وروي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه فسَّر الحياة الطيبة بالقناعة، وروي عن علي بن أبي طلحة أنها فُسِّرت بالسعادة، وروي عن الحسن وغيره من العلماء، قالوا: لا يطيب لأحدٍ حياةٌ إلا في الجنة، وهذا مصيرٌ منهم؛ لأن الحياة الطيبة المرادة هنا، هي الحياة الطيبة في الآخرة، ورُوِي عن الإمام الضحَّاك رحمه الله أنه قال: الحياة الطيبة هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا، والذي يظهر والعلم عند الله أن ذلك كله داخلٌ في مفهوم الحياة الطيبة، ولذا قال العلامة ابن عطية رحمه الله: إن طيب الحياة اللازمة للصالحين، إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها قوة رجائها، فالمؤمن رجاؤه بالله عظيم، وتعلُّقه بالله كبير؛ ولذا لا تضيق عليه المضائق، ولا تصعب عليه الصعوبات التي تواجه غيره؛ لأنه يرجو من الله الفرج، ولولا وجود الأمل في الدنيا، لضاقت بالناس معايشهم.
وجاء عن بعض العلماء ما يفيد أن الحياة الطيبة شاملةٌ لذلك كما تقدم، وهذا ما أشار إليه العلامة الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقال: إن الصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، ولذا فمما تقرره هذه الآية الكريمة، وما جاء في معناها من نصوص شريفة، أن الحياة الطيبة ليست كما يسبق إلى مفهوم كثيرٍ من الناس أنها مرتبطةٌ بالمال، نعم المال وجهٌ من وجوه السعادة، لكن يمكن أن يقوم بغيرها،
 نعم المال وجهٌ من وجوه السعادة، لكن مع وجود نظرةٍ مستقيمةٍ متوازنة إليه؛ لأنه ربما كان المال سببًا لشقاء صاحبه، فقد يكون التاجر الذي يملك الأموال الطائلة مُصبحًا وممسيًا في شقاءٍ لا يعلمه إلا الله، فهو يكد ليجمع المال، ثم يكد ليحفظه ويحافظ عليه، فيصبح ويمسي في الشقاء والصعوبات، يُصبح ويمسي في شقاق ومنازعات، وربما أمضى حياته كلها على هذه الحال، لكن تجيء الشريعة لتقرر النظرة الصائبة لهذا المال، وما أعظم ما نبَّه إليه نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام وهو الذي عُرض عليه أن تكون جبال مكة ذهبًا، وعُرض عليه أن يكون نبيًّا ملكًا، ولكنه اختار أن يكون عبدًا رسولاً.
وهو القائل لأبي ذر رضي الله عنه: (ما يسرني أن عندي من المال كذا وكذا من مالٍ كثير، ثم أصبح وأمسي إلا وقد قلت به هكذا وهكذا، وهكذا عن يمينه وشماله، ومن أمامه)، يعني أنه ينفقه فيما يحبه الله وفي مراضيه، ولذلك فإن الكرام من الناس والنبلاء لا يشعرون بلذةٍ من المال إلا إذا قضوا به الحاجات، وساعدوا به الناس، ودفعوا به الفاقات، ما قيمة مالٍ يُكدس في الأرصدة لا توصل به رحم، ولا تُرفع به فاقة، ولا تُرسم به على الوجوه سعادة؟!
إن مالاً هذه حاله وجوده كعدمه، بل ربما أدى إلى بعض الناس إلى أن يقتر على نفسه هو، وعلى أهل بيته وقرابته، ومثل هذه النظرة تُبين أن المال ليس هو المقصود في ذاته، إن في الحياة أشياءَ كثيرة غير المال الكثير، تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله والثقة به سبحانه، والاطمئنان إلى رعايته وإلى ستره ورضاه، في الحياة الدنيا أشياء كثيرةٌ غير المال تَطيب بها الحياة: الصحة والهدوء، والرضا النفسي، والبركة التي تكون في حياة الإنسان.
في الحياة الدنيا أشياء كثيرةٌ غير المال تطيب بها الحياة؛ من مثل: سكن القلوب، ومودات القلوب، والفرح بالعمل الصالح، وآثاره في الضمير وفي الحياة، ليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل حين يتصل القلب بالله الكريم.
نعم إن هذه الشريعة الغرَّاء تُعدِّل نظرة الناس إلى المال وحقيقته، وكيف يُستمتع به، وفي هذا روى الإمام الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: ((قد أفلح من هُدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا، وقنَع به).

يتبع

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024