لا تنال المعالي بالآماني

التضحية وحاجة الأمة إليها من الأفراد والجماعات

لا تُنال المعالي بالأماني، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية بشتى صنوفها. والمراد بالتضحية: التبرع بالشـيء دون مقابل، كالتضحية بالنفس أو المال أوالعمـل أو الـوقت أو الجاه أو الـعلم أو المنصب... أو غير ذلك، حتى يظن الإنسان أن لا حق له فيما زاد على حاجته الـضـروريـــة، فيبذل جهده في تقويم ذلك دون مقابل مادي يناله مكافأة على تبرعه، وإنما يرجوبذلك كله وجه الله ـ تعالى ـ، ونصرة دينه.
وهذا المعنى نفسه هوالمقصود مــــن الجود والبذل، وإن كان غلب إطلاق الجود على إنفاق المال الكثير، بسهولة من النفس، في الأمور الجليلة القدر الكثيرة النفع كما ينبغي، وهو لا شك من أعظم أبوابه، والمال عماد لكثير من أعمال الخير المتعدية التي لا تقوم إلا به.
إلا أن المراد بالكلمة أوسع من ذلـك؛ فـــإن هذا المعنى جزء من معناها الواسع الذي يشمل المراتب الآتية أيضاً:
1 - الجود بالنفس، وهو أعلى مراتب الجود.
2 - الجود بالرياسة، وامتهانها في سبيل نفع الخلق ودعوتهم.
3 - الجود بالوقت والراحة والنوم واللذة، فيتعب ويسهر ويجهد نفسه.
4 - الـجــــود بـالـعـلـــم وبذله، وهوأفضل من الجود بالمال، ومنه تعليم الناس، وإجابة السائلين بما يشفيهم، وهي زكاة العلم.
5 - الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وهذا زكاة الجاه.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كخدمة بدنية، وكلمة طيبة، وفكرة نافعة.
7 - الجود بالعِرض، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب.
8 - الجود بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ. وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن والبشاشة والبسطة. وهوأعظم مما قبله.
10 - الـجـــود بـتـرك مـــا في أيدي الناس، وترك الالتفات إليه والتعرض له بالحال أو اللسان.
وهـكـــذا يتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة - في بعض الأحايين - أشد احتياجــــاً إليها من المال، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من المال الذي تشغله تنمية ماله؛ فإذا تـصـــــدّق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره. ثم للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته، وصدقه فيها مع الله ـ تعالى ـ كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله فقال: «فهما في الأجر سواء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والنية أمر يعلمه الله من القلوب، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق القليل حال الضراء.
وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات والجماعات  منزلة الجود والتضحية:
الجود والتضحية شـعـبـة مــن شعب الإيمان، وخير وسيلة لشكر نعم الله التي لا تحصى؛ لأنها استعمال للنعم في محبة الله ـ عـز وجل ـ، كما أن استعمالها في غير الطاعة أو الشح والبخل بها كفران لها.
والأدلة في مدح هذه الخصلة متكاثرة، لكن أبرزها في الدلالة على المقصود تلك الآيات التي تصف الـمـؤمنين بالإنفاق في حالات تعكس قوة يقينهم، واستقرار هذه الصفة في نفوسهم. وإنفاق الـمــال صورة من أبرز صور الجود، لكنها جزء قليل منه. ومن تلك الأدلة: قولـه تعالى ـ: {ويطعمون الطعام على حبّه مسكينا أو يتيما إنّما نطعمكم لوجه الله}، الإنسان الآية 8 أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطـعـــــام؛ ولكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ومثله قوله: {وآتى المال على حبه}، البقرة الآية 177.
- قوله ـ عــز وجـــل ـ في وصف المتقين المسارعين إلى الخيرات: {الذين ينفقون في السراء والضراء}، آل عمران الآية 134 أي: فـي عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً.
ومن اعتاد الإنفاق في الشدة هان عليه في حال الرخاء والسعة. فالإنفاق حال العسر تدريب للنفس على البذل وحب الآخرين، وتحرير لها من سلطان الشح. والمشاهد أن من يـشـــح بالقليل حال فقره يشح بالكثير حال غناه.
قوله تبارك وتعالى ـ: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}، الحشر الآية 9 وهذا المقام أعلى من الذي قبله {ويطعمون الطعام على حبه}، الإنسان الآية 8، فإن المحب للمال قد لا يكون محتاجاً ولا مضطراً إليه بخلاف هؤلاء، كفعل الصدّيق  ـ رضي الله عنه  ـ لـما تصدّق بكل ماله.
والإيثار: أكمل أنواع الجود، ولا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله ـ تعالى ـ مقدمـــة على شهوات النفس ولذاتها.
وفي مقابل الحث على البذل فقد عظم الله ـ عز وجل ـ قبح الشحّ وشناعته في قوله: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}، الحشر الآية 9، وهذا يشمل وقايتها من الشح في جميع ما أمر به العبد، فيفـعلـه منشرح الصدر، ويترك النهي ولو دعته نفسه إلى فعله فلا يكون بين هذه النفس وبين الامتثال إلا العلم بالأمر، ووصول المعرفة إليه، والبصيرة بأنه مُرْضٍ لله ـ تعالى ـ، فيحصل الفوز والفلاح.
وهذا يوضح أن الشح بشيء مما أوتيه الإنسان ـ وكان في وسعه وطاقته ـ مذموم جداً وسبيل الفلاح ترك الشح، وهو أمر يعني: سماحة النفس وطيبها في فعل أوامر الله ـ تعالى ـ، ونفع الخلق بكل وسيلة متاحة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024