مـــا يـــجــــــب الـــتـــمـــعـــــّن فـــــيــــه

أثــر القرآن على الــــنّـفـوس

القرآن الكَريم هو المُعجزة الخالدة لهذا الدين، وهو الكِتاب الحكم الذي أنزل على النبي الكريم، وإذا كان الأنبياء السابِقون عليهم السلام قد أوتوا من المُعجزات ما آمَنَ عليه البشر في وقتِهم، ثمَّ انتهَت هذه المُعجزات بموتِهم، وفناء أقوامِهم، فإن الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم ظلَّ وسيظلُّ مُعجزة يُدرِكها اللاحقون بعد السابقين، ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون، وتلك وربي معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، وتتناسب مع القرآن الذي أراد الله أن يكون آخر كتاب أنزل من السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله: “ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة” (رواه البخاري ومسلم).
ولما كان العرب أرباب الفصاحة والحوار والمُناظَرة، نزَل القرآن ليتحدَّاهم جميعًا، إنسَهم وجنَّهم في الفصاحة والبلاغة؛ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}الإسراء: 88.
 وفوق ذلك فقد استطاع القرآن الكريم أن يَخترق قلوبهم، وهم بعدُ على الكفر والضلال، وما زال يؤثر فيها حتى عاد أصحابها إلى الهدى والإيمان، يقول جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه - وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها - سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}الطور: 35 - 37، كاد قلبي أن يطير؛ البخاري، وإنْ كان تأخر إسلامه إلى ما بين الحديبية والفتح وقبل خيبر.
 وكانت قصة عتبة بن ربيعة، وهي مشهورة وإسنادها حسن، وخلاصتها أن قريشًا اختارت أحسن رجالها ليُكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو الوليد عتبة بن ربيعة وكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا وهو مُنصِت له، فلما فرَغ قال: “قد فرغت يا أبا الوليد؟”، قال: نعم، قال: “فاسمع منّي”، قال: أفعل.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}فصلت: 1 – 5.
 ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سَمعها منه عُتبة أنصتَ لها، وألقى يديه خلف ظهرِه معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: “قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك”، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضُهم لبعض: نَحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكُه ملككم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به!
قالوا: سحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
 وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}المائدة: 83، بل تأثَّر به مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يَسترقون السمع؛ {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}الجن: 1، 2.
  إذا كان هذا هو أثر القرآن في المشركين، وهو غيض من فيض، وقليل من كثير، فالسؤال هنا الذي يجب أن نسأله أنفسنا ما هو أثر القرآن فينا نحن المسلمين في هذه الأزمنة؟ وقبل هذا السؤال سؤال آخر: ما هو نصيبُنا من قراءة القرآن؟ وما هو حظنا من الخشوع والتدبر حين يتلى القرآن؟
 إن واقع كثير من المسلمين اليوم واقع مرٌّ يُرثى له - مع الأسف الشديد - فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها، والهجر أصبح ديدن المسلمين إلا مَن رحم الله، البضاعة مع كتاب الله مُزجاة، ويرحم الله زمانًا كان الشيخ الكبير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أقرئني القرآن، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقرئني قال: “اقرأ من ذوات الراء”؛ أي: التي تبدأ بـ (الر)، قال: يا رسول الله، ثَقل لساني وغلظ جسمي، قال: “اقرأ من الحواميم”، فقال مثل قوله الأول، قال: “أُقرِئك من المُسبحات”، فقال مثل قوله الأول، قال: ((عليك بالسورة الجامعة الفاذَّة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، فقال الرجل: والذي بعثَكَ بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفلَحَ الرُّوَيجِل، أفلح الرُّوَيجل”.
 وإذا كان فضْل سورة (زلزلت) هذا، فما بال من تتوفر لهم الأداة لقراءة القرآن كله، ويتوفَّر لهم مِن النشاط والقوة ما يُمكنهم مِن إعادة قراءة القرآن مرةً تلْوَ المرة؟ اللهمَّ لا تَحرمنا فضلَكَ، ولا تصدَّنا بسبب ضعفِ نفوسنا وغلبة شهواتنا عن كتابك، إلا أنَّ فضْل الله واسع، ولكن هل من ساعٍ إلى الخير جهده؟ أليس من اللائق بك - أخي المسلم - أن تُبكِّر في المجيء إلى الصلوات الخمس لتَحظى بقراءة قسْط من القرآن، وتَحصل على رصيد كبير من الحسنات؟ وإن أبيت بكَّرت فيما تستطيع التبكير يوم الجمعة لتقرأ ما تيسَّر مِن القرآن وخاصة سورة الكهف التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضلِها في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتَين” (أخرجه الحاكم).

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024