مجاهدو منطقة الميلية في شهادات لـ”الشعب”:

الانطلاقة الحقيقية للثورة كانت يوم 20 أوت 1955

سهام بوعموشة

شكلت منطقة الميلية التي كان يطلق عليها إبان الاحتلال الفرنسي أولاد عيدون معقل الثوار الأشاوس، أطيح بالعديد من الجنرالات الذين تعاقبوا على المنطقة للقضاء على الثورة بها، ضانين أن المهمة سهلة لإخماد فتيل الثورة وعلى رأسهم الجنرال ترانكي، العقيدين ماري وسوفينياك.
«الشعب” زارت هذه المنطقة المجاهدة التي لم تأخذ حقها في الكتابات التاريخية وحتى في وسائل الإعلام بمناسبة الذكرى الـ67 لهجومات الشمال القسنطيني، إقتربنا من بعض المجاهدين الأحياء، لأن أغلبيتهم ممن شاركوا بفعالية في الثورة ماتوا. وتؤكد المجاهدة فطيمة بوطمين زوجة المناضل الكبير مسعود بوعلي، المجاهدين عبد الله بودميغة وعمر شيدخ العيدوني أن أبناء منطقة الميلية، كانوا سابقين للإلتحاق بالثورة، بعضهم كان ينشطون بنواحي سكيكدة والقل والأوراس وميلة.

 عبد الله دميغة أمين قسمة المجاهدين بالميلية ومندوب الدائرة بالنيابة، أحد مجاهدي المنطقة يروي لـ«الشعب” تفاصيل عن هجومات 20 أوت 1955 بالميلية، والمشرفين على تنظميها تنفيذا لتعليمات الشهيد زيغود يوسف، ويتحدث عن كيفية التحاقه بالثورة في 1955.
من مواليد 1937 بالعنصر، تلقى دروسه في الكتاتيب القرآنية، ينتمي إلى أسرة مجاهدين وشهداء، إلتحق بالثورة كبقية شباب الأرياف في 1955 ولم يتجاوز سنه 16 سنة، واصل النضال حسب التوجيهات وتعيينات المسؤولين ككتاب ومسؤولين القسمات إلى غاية الاستقلال.
يؤكد دميغة أن الثورة، انطلقت بقوة في 1955، كان المسؤولين الأوائل ينتمون إلى الحركة الوطنية.  ويضيف : “جاءنا المسؤولين والظروف كانت صعبة لتجنيد الشباب الذين يرون فيهم الإلتزام والإنضباط، عندما كنت في المقهى اتصل بي أحد المسؤولين يدعى شطاط سليماني استشهد، فيما بعد، طلب مني تأدية القسم:«أقسم بالله العظيم لا أخون ولا أفشي سري حتى تستقل الجزائر وأموت” ترسخت هذه العبارة في ذهني”.
يشير محدثنا أنه عندما تمركز بيجار في الجبال والمشاتي، كانوا ينشطون في الخفاء، يتصلون بالمراكز السرية التي كانت موجودة آنذاك، كلف بمهام سرية وهي مراقبة الأشخاص الذين يتصلون كثيرا بالعدو، ويجمعون علب الطماطم والحديد لصنع القنابل، لأن هناك مجموعة من المجاهدين المتمركزين في الأماكن السرية، وهكذا سارت الأمور إلى غاية الاستقلال.
يؤكد أن عائلة دميغة تتكون من 23 فردا التحقوا بالثورة، بما فيهم شهداء ومجاهدين حتى قريتهم نظمت فرقة لوحدها.
من بين أحد أقاربه الشهيد رابح الذي نظم فرقة التدريبات حتى عمت الثورة، ويوضح أن الجبل كان عبارة عن ثكنة عسكرية، أصبحت فيه شرطة، قضاء، كان مناضلين قدماء ينشطون في سرية.
يشير إلى أنه عندما انتظمت الثورة في الميلية كان هناك مناضلين قدماء، وشخصيات وطنية أشرفوا على انطلاق الشرارة الأولى للثورة في الميلية، ولما تكونت أولى العمليات في الشمال القسنطيني، أشرف زيغود يوسف على سكيكدة والسمندو، وأشرف لخضر بن طوبال على نواحي ميلة والميلية وأشرف ضاحي على جيجل وعمار بن عودة على عنابة.
يوضح محدثنا أن تم تكوين الأفواج، توجه الفوج الأول للقرارم، والفوج الثاني بقيادة بلقعوير عمار بسيدي معروف، تقرر في الفوج الثاني مهاجمة المنجم للاستيلاء على الذخيرة البارود والأسلحة، تمت العملية، لكن لم تنجح لأن الأبواب كانت محصنة، والإمكانيات ضعيفة لفتحها.
كان المجاهدون يتوفرون على أسلحة بسيطة من بنادق صيد، سلاح من نوع بي 96، يقول: “إذا كانت الانطلاقة بسيطة، إلا أن الهدف تحقق وهو إطلاق الرصاصة الأولى، كانت الحركات تمر ليلا ولهذا جاءت فكرة قتل كلاب الحراسة في المشاتي، وصدر القرار حتى لا ينكشف أمر المجاهدين الذين يخرجون ليلا”.
ويشير إلى أنه حدث فتور في النشاط الثوري بعد انطلاقها، واستمر إلى غاية الحصول على السلاح، وكان مسؤولي الثورة ينظمون الشباب ويجندونهم ويجمعون الأسلحة، ينظمون الأمور بحسب الحاجة وحسب ما يرونه صالحا لذلك اليوم.
 يكلفون المناضلين بالتمويل وتوزيع البريد، ودليل للمجاهدين يستكشف المنطقة، جمع الإعانات والتبرعات وتخزينها ومراقبة الخونة والعملاء.
ويضيف دميغة:«الشعب الجزائري كان ذكيا، هناك من لم يكن يؤمن بالثورة بالنظر إلى قوة فرنسا الاستعمارية وضعف الإمكانيات والفقر لدى الجزائريين، جاء الحسين بوعلي المدعو مسعود هو قائد المنطقة حاملا رسالة من المجاهد بن عودة من عنابة، واتصل بمجموعة من المناضلين منهم عيسى وصيف رحمه الله، كان من المناضلين الأوائل”.
ويقول : “الرسالة التي احضرها لتبليغها إلى بن طوبال لقبول مسعود بوعلي، للإشراف على العملية التجنيد التام في المنطقة”.
ويوضح المجاهد دميغة أن بن طوبال ومساعديه كانوا يشرفون على العمليات بالميلية.
يوضح دميغة بشأن هجومات الشمال القسنطيني أن، زيغود يوسف اجتمع مع القادة في مكان يسمى الزمان الحدائق بسكيكدة للتحضير لهذه العملية، واتخذ القرار حول الطريقة وكيفية العمل والأماكن التي يستهدفونها بالهجوم، والمناضل مسعود بوعلي تكفل بالعملية في الميلية.
ويؤكد أن هجومات الشمال القسنطيني هي الإنطلاقة الحقيقية للثورة، مستشهدا بما قاله مالك بن نبي أنه إذا كانت الانطلاقة أول نوفمبر 1954، فإن الانطلاقة الحقيقية هي 20 أوت 1955، الانطلاقة الأولى عبارة عن إعلان.

الهجومات دامت ثلاثة أيام بقيادة مسعود بوعلي

ويشير إلى أن الهجومات دامت ثلاثة أيام بالميلية إلى غاية 22 أوت، نفذت الهجومات بقيادة المناضل الكبير الحسين بوعلي، المدعو مسعود الاسم الثوري، الذي نظم المجاهدين والمسبلين وحتى الشعب شارك في الهجومات.
اعتمد بالدرجة الأولى على المجاهدين المدربين وحاملين السلاح، ويسير المسبلون والشعب خلفهم، على عكس ما حدث في سكيكدة التي خسرت أرواح نتيجة سوء التنظيم. وواجهم المستوطنون المسلحون، حتى قال احد اليهود كل واحد منا يقتل جزائري سنقضي على الشعب كله، يضيف محدثنا.
ويؤكد أن الاستيراتيجية التي خططها قائد العمليات مسعود بوعلي تكللت بالنجاح ودون حصول خسائر تذكر في صفوف الشعب، ومن أبرز العمليات التي نفذت في هذه المنطقة ودامت ثلاثة أيام، هي نصب كمين لحاكم الميلية “رينو” على الطريق الرابط بين الميلية وقسنطينة وبالضبط في جسر اودادي حوالي 5 كيلومتر عن الميلية، بعد قتله سقط سلاحه من السيارة، وهو عبارة عن رشاش من نوع مات 49 أخذه المجاهدون، بينما فر به سائقه ميتا حتى أوصله إلى مدينة الميلية.
سائقه كان من المناضلين عاش حتى الاستقلال، وعملية أخرى، وهي نصب كمين واد زقان، الذي سقط فيه عدد من جنود العدو وغنم فيه المجاهدون قطعة رشاش من عيار 24 و29 المجاهدون لم يحسنوا استعماله، لأنه لأول مرة يستخدمونه، هذا النوع من السلاح تحافظ عليه فرنسا كثيرا، مجاهد شارك في حرب الفيتنام هو الذي استخدم السلاح.
نصب كمين في منطقة وزان وقتل شرطي فرنسي وأخذ مسدسه،تدمير جسور عديدة وقطع أسلاك الكهرباء، والهاتف، حرق شاحنات المستوطنين، إضافة إلى تطويق مدينة الميلية، اتخذوا مواقع الدفاع والحذر.
وتوّج المجاهدون بدخول قرية اراقوا قرب منطقة سطارة، كان يقطنها المستوطنون رفع فيها العلم الجزائري محمد بلعابد هو الذي اشرف على العملية وقتلوا مستوطن وزوجته.
عدد الشهداء الذين سقطوا خمس شهداء فقط بالنسبة للعملية ككل، قليل زيدان، بوزردم علي، زرطال عبد الحميد، بريجة علي، بوخميس، بولقرون يوسف، ويشير دميغة إلى أن الشهيدين زرطال وبريجة شاركوا في هجوم 1955 بدون سلاح، هجموا على العساكر وأخذوا منهم السلاح وحاربوا إلى غاية استشهادهم.

زيغود قدّم جائزة للمسؤولين على الهجومات في الميلية

وعن تقييم عملية الهجومات 20 أوت يوضح المجاهد: “تم بدوار أولاد مبارك، اشرف عليه المهندس زيغود يوسف، سلم قائد الولاية الثانية جائزة كبرى للمجاهد مسعود بوعلي تتمثل في مصحف القران مكتوب بخط اليد، يقول زيغود في الرسالة في تقييم العملية: “خسرنا عسكريا ونجحنا سياسيا في الشمال شرق قسنطينة، وهي سكيكدة، فإننا نجحنا سياسيا وعسكريا في شمال غرب قسنطينة ويقصد بها دائرة الميلية”.
الجائزة قدمت للمسؤولين الذين أثبتوا كفاءتهم القيادية، وهي تدل على نجاح هجومات الشمال القسنطيني، بناحية الميلية على غرار تلك في سكيكدة، هدفها فك الحصار المضروب على الولاية الأولى لأن فرنسا ركزت كل قوتها في الاوراس، ادعاءات فرنسا التي مفادها أنها قضت على الثورة، وضع حد للمترددين المشككين من مناضلي الأحزاب السياسية التي لم تشارك في الثورة والشعب الذي بقي ينتظر هذا اليوم، يضيف المجاهد دميغة.
ويؤكد محدثنا أن هذه الهجومات تعتبر أول هجومات عسكرية للمجاهدين ضد العدو المدعم بالآلة العسكرية الحربية المتطورة، لإسماع صوت الثورة، لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت على أبواب عقد اجتماعها في سبتمبر، تشتيت قوات العدو.
ويضيف: “بعد هذا الهجوم تأكدت لفرنسا أن منطقة الميلية صامدة، وبأن الشعب قال كلمته، وبالتالي استعملت كل قواتها بالمنطقة، أقامت مراكز بيجار لما جاء احتل كل المناطق الاستيراتيجية بالأرياف، كانت تدعي أنها قضت على الثورة في الشمال القسنطيني بالضبط في الميلية ونشرت ذلك على صفحات جرائدها، ومن هنا جاءت عملية ذراع بولخشب، عملية عسكرية اشتباك”.
 ويشير أن قادة الثورة أصدروا أوامر بتجنب اصطدام المجاهدين مع قوات العدو إلا للضرورة، لأن لديه قوة ويحاصروهم ويقضون على المجاهدين.
ويبرز محدثنا أن قادة الثورة عندما شاهدوا فرنسا وزعت قواتها بالمنطقة قرروا القيام بعمليات كبيرة لإعادة الاعتبار والثقة للشعب، قرروا مهاجمة مركز عصفورة بأولاد عربي لكن كان محصنا، إضافة إلى الأمطار التي حالت دون دخول المجاهدين.
اجتمعوا في 1956، وقرروا القيام بالهجوم على قافلة عسكرية، تم الاستيلاء على السلاح وحرق الشاحنات، استشهد فيها مجاهدين.
هذه العملية أعادت الثقة والاعتبار للمجاهدين واظهروا لفرنسا أن الثورة مستمرة ولا يمكن القضاء عليها، وحدثنا المجاهد دميغة عن عمليات كبرى كثيرة منها عملية حمادة عن طريق القل، كمين قتل فيه 22 عسكريا والاستيلاء على السلاح، معركة أزارا حسب النتائج استشهد فيها المناضل الكبير المعروف بشجاعته اسمه”البركة”، قتل فيها حوالي 100 عسكريا، أسقطوا طائرة عقيد فرنسي، بعد الاستقلال نقلت الطائرة للمتحف.
ويروي لنا المجاهد أنه في سنة 1957، كان النساء ينزلون من الجبال، لأخذ التمويل والرسائل ونقلها، فيتعرض لهم الجنود الفرنسيون ويتعدون عليهن فقرر المسؤولون إنشاء الفيلق يقوده البركة الذي كان نائب مسعود بوعلي، كلفوه بالقيام بالعملية ألبس عسكريين بزي نساء ونصب لهم كمين، للتمويه عندما رآهم جنود العدو ضانين أنهم نساء تقدموا، فقتلهم المجاهدون.
وعلى إثر ذلك استقدم العدو قواته، وخرج البركة للمكان رغم تحذيرات المجاهدين بكشفه إلا أنه أصر على الخروج، فاستشهد رفقة زميله بقصف الطائرة الفرنسية، وجرح آخر. ما دفع فرنسا للاحتفال بموت البركة واحضروا جثته للميلية يقولون “لقد قضينا على قائدكم”.
وتحدث أمين قسمة المجاهدين بالميلية، عن المحتشدات ومراكز التعذيب التي أنشأتها إدارة الاحتلال الفرنسي بالميلية، وزجت بها الجزائريين، وأصبحت الميلية منطقة محرمة، كل شيء يتحرك يقصف بالطائرات الحربية.

السجن الأحمر” أشهر مركز تعذيب..

 ومن أشهر مراكز التعذيب الذي حول الآن إلى متحف هو مركز”السجن الأحمر”. مراكز التعذيب بالميلية، بناية شيدت من طرف الاستعمار الفرنسي سنة 1887، لاستعمالها مقرا لرجال الدرك الفرنسي، ثم أدخلت عليه تحسينات توسعية سنة 1935.
كان منطلقا لكثير من التحقيقات، كانت تستجوب المدنيين والمتهمين بطرق عنيفة، والتعذيب والاستنطاق، بعد 8 ماي 1945، القي القبض على الكثير من المناضلين لاستنطاقهم وبقوا يمارسون أبشع طرق الاستجواب عليهم إلى غاية 1954.  حولته إدارة الإحتلال إلى مركز استعلامات في 1954، بقي يمارس أبشع أساليب التعذيب، بالكهرباء، غطس الرأس بالماء، السجن الانفرادي، تقطيع الأجساد بطرق بشعة كالشنق والذبح، الرمي بالرصاص.
 يتوفر على عشرة زنزانات فردية، الباب حديدي، أنشأت فرق الاستنطاق وفرقوا فيه بين المساجين الحق العام والسياسيين،  فكان دخول هذا المركز عند أهل الميلية يعني الموت.
بعد الاستقلال حول إلى سكن للمجاهدين، ثم حول في المدة الأخيرة بعد الاتفاق ما بين الولاية والوزارة المجاهدين والسلطات المحلية، إلى مركز تعذيب تابع لمديرية المجاهدين بقي تسييره مشكل، فيه صور لمجاهدين الذين تعذبوا فيه. ويقول دميغة، بمناسبة الذكرى الـ67 لهجومات الشمال القسنطيني، أن إحياء هذه المحطات التاريخية هي لأخذ العبرة وتوجيه رسالة لشباب اليوم، أن الاستقلال لم يأت دون تضحيات.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19462

العدد 19462

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024