جبلوا على عقيدة إخضاع الإنسان العربي

ضباط تفنّنوا في تقتيل الجزائريين وسلب ممتلكاتهم

الدكتور محمد رزيق

إن دراسة “رسائل جندي تسع سنوات من الحملات في إفريقيا”، وهو مجموعة مراسلات لوسيان فرانسوا دو مونتانياك خريج المدرسة العسكرية لسان سير دفعة أول أفريل 1821، والذي رقي إلى رتبة نقيب في 28 جانفي 1836، وأرسل في أواخر ألسنة نفسها إلى إفريقيا (الجزائر )، لم يعد إلى فرنسا منذ وصوله إلى الجزائر أواخر 1836، وإلى غاية مقتله على يد قوات الأمير عبد القادر في 26 سبتمبر 1845، إلا مرة واحدة في عطلة مرضية، عمل في الجزائر، البليدة، وهران، تلمسان، وسكيكدة... رقي إلى رتبة مقدم في 10 مارس 1845”.
نشر في هذا الكتاب مجموعة من الرسائل، رسالته الأولى بتاريخ 8 جانفي 1837 وهو متوجه نحو الجزائر وإلى غاية آخر رسالة: جامع غزوات 30 أوت 1845، هذه الرسائل نشرت من قبل ابن أخيه E de Montagnac.
مجموع هذه الرسائل دلت أن الحرب التي خاضتها فرنسا في الجزائر في السنوات الأولى من الاحتلال وخاصة فترة 1830-1871، وبصفة أخص بعد وصول الجنرال بيجو إلى الجزائر كحاكم عام ابتداء من 1841 وإلى غاية 1847 كانت حربا قاسية وعنيفة، والإرث الذي تركه لمساعديه ومعاونيه الذين تتلمذوا عليه وشبوا على طرائقه بعد ذلك، ليصبحوا من ألمع ضباط فرنسا الساميين وعلى رأسهم سانت أرنو، كافينياك، شانغارنييه، لاموريسيار، بيدو، يوسف وغيرهم.
هؤلاء الضباط الساميين الذين بدورهم سيخلفوا ضباطا آخرين تفننوا في تقتيل الجزائريين وذبحهم وحرق محاصيلهم والاعتداء على شرفهم وإذلالهم إلى درجات لا يمكن وصفها، ليتأصل بعد ذلك في الجيش الفرنسي عقلية مفادها أن العربي لا يمكن إخضاعه إلا بالقوة والعنف، وأن العربي لا قيمة له ولا يساوي مثقال فرنك واحد، وأن العربي الجيد هو الفرنسي الميت، وهذا ما يتوجب على الجندي الفرنسي أن يفهمه ويفهمه للعربي.
«فالعربي هكذا هو مجبول، ابق مستريحا فإنه سيستيقظ، وسيقترب، سيسخن سوف يلفك، سيستعيد الثقة في نفسه، سينطلق كالصاعقة، سيهزم جيوشا “.
«أبهره بأعمال كبيرة، بهجومات فجائية، بمسيرات جريئة، بالجرأة والعدوان، هذا الشعب الساذج، هذا الشعب الفنان، يفر أما الإقدام أو ينحني ليستحسنه “.
سياسة السلب والنهب والتقتيل التي باشرها الجيش الفرنسي في الجزائر، ليست وليدة عهد بيجو بل سبقته، وهذا تأكيد للحقائق التاريخية التي لا يمكن أن نتغاضى عنها، فالجيش الفرنسي قد لجأ إلى التقتيل والإبادة منذ الحملة الفرنسية على الجزائر في 1830، وليس منذ مجيء الجنرال بيجو، وإن كانت العملية أخذت ابعادا أخرى بعد 1841 بقيادة بيجو، وما يؤكده ذلك هو ما جاء في كتاب بيليسيي دو راينو “حوليات جزائرية” الجزء الأول، وهو يروي تفاصيل الزحف نحو الجزائر بعد الإنزال في سيدي فرج يوم 14 جوان 1830، وما تلى ذلك من معارك بين الجانب الفرنسي والجزائري.
 ففي 29 جوان 1830 يقول المؤرخ العسكري بيليسيي دوراينو:«... إن المنازل الريفية والتي وجدناها مهجورة، قد سلبت على العموم ودمرت أما منازل القناصل الأوروبيين، التي لم يتعرف الجنود على أعلامها، فقد لحقها ما لحق المنازل الأخرى، بعض السكان الذي وجدوا متخفين في المنازل أو حولها قد تعرضوا للقتل، إمرأتين أو ثلاثة قتلن خطأ، بعضهن تعرضن للإغتصاب، هذه هي المصاحبة الحزينة لكل حرب، حتى الحرب العادلة “.
جيش من الصعاليك يبطش بالسكان
ويقارن بين همجية جيش الاحتلال الفرنسي للجزائر في جويلية 1830، وجيش الوندال الذين احتلوا روما ليصل إلى حقيقة مفادها أنه: “أبدا، ربما لم يحدث احتلال بنفس الفوضى الإدارية مثلما تعرضت له الجزائر، حتى في القرون الأكثر بربرية”، وذلك من خلال السلب والنهب والتخريب الذي تعرضت له مدينة الجزائر من قبل جيش الاحتلال الفرنسي.
والسؤال المطروح هو: ما هي مواصفات الفرنسيين الذين قدموا إلى الجزائر؟ يجيب عن ذلك لوسيان دو مونتانياك في إحدى رسائله الموجهة إلى عمه برنارد دو مونتانياك: وهران في 11 مارس 1837 حيث يصف الجيش الفرنسي المرابط في وهران بأنه يتكون من الصعاليك gueux والناهبين والمجرمين المستعدون لأي عمل ليحذر منهم بقوله “إننا نحذر منهم أكثر من البدو”.
وفي رسالة وهران 30 أكتوبر 1840 فإنه يقول بعد قطع سهل تليلات: “لقد وقعنا على جزء من قبيلة الغرابة التي تفاجأت، إلتهمت، سلبت: تسعمائة وثلاثة وأربعون ثورا، ثلاثة آلاف رأس غنم وماعز، ثلاثمائة حمار، ستون حصانا، ثلاثة بغال، عشرون جملا، دجاج، زرابي كثيرة، خيم، شعير، قمح، نقود، .. سبع نساء، وبعض الرجال الذين لم يستطيعوا الفرار قتلوا، أظن أنه من الصعب أن ننجز غزوة كاملة، لم نترك لهم إلا أعينهم للبكاء “.
بعد أن عرض دو مونتانياك لمشاهده التي صورها في رسالته ليوم 31 مارس 1842 التي كتبت في معسكر، فإنه يصل بعد ذلك إلى الهدف من هذه الغزوات والمداهمات بقوله: “إننا سعداء، لأننا أنهينا في وقت قصير ما لم تحققه اثنتي عشر سنة “.
«.. في غضون أربعة أشهر، استطعنا أن نترك بصمات واضحة على السكان الذين كانوا بالأمس معتدين بأنفسهم وأكثر تهديدا، استطعنا أن نفرض عليهم احترام قواتنا التي لم تكن معترفا بها وبأي رعب ضربناهم”.
«... منذ ثلاثة أشهر، كان من المتعسر على ثلاثة كتائب أن تتخلص من مأزق على بعد فرسخين من معسكر، واليوم فإن 23 رجلا وضابطا يسافرون لمدة 48 ساعة على بعد 30 فرسخا من معسكر دون أن تطلق عليهم رصاصة في بلد لم تطأه أقدام الأتراك من قبل “.
إن رسالة معسكر 31 مارس 1842 لدو مونتانياك لعمه والتي يصف فيها بعض الغزوات التي شهدتها بعض المناطق الجزائرية، الغرب الجزائري تحديدا بهدف تقويض دولة الأمير عبد القادر التي كانت عرضة لحرب الإبادة التي ارتكبها الجيش الفرنسي في حق الجزائريين تشرح جيدا الحالة النفسية الهشة التي وصل إليها سكان الجزائر خاصة في المناطق التي شملتها الحرب، وبالأخص غرب الجزائر أمام الضربات التي قامت بها الطوابير الجهنمية والقوات الخاصة للجيش الفرنسي.
 هذه النفسية التي جعلت هذا الشعب يفر بمجرد سماع أخبار وصول الجيش الفرنسي، دون أن يقف في وجهها أو على الأقل ينظم دفاعاته اتجاهها، ما دامت النتيجة هي الإبادة والسلب والنهب في حق الرجال والنساء والأطفال والحيوانات والثروات...
ويؤكد دومونتانياك في رسالته: “... إننا نعيش هنا، حياة قطاع الطرق خاصة كتيبتنا للنخبة اللتان توضعان دائما في الصفوف الأمامية في مثل هذه الظروف، كما أن جنودنا أصبحوا يتمتعون بوحشية توقف الشعر فوق رأس بورجوازي محترم “. وهو ما يجعل دومونتانياك ينصح بعدم إدخال هؤلاء الجنود إلى فرنسا لأن لا شئ يستطيع أن يقف في وجه طاقتهم ونشاطهم.
يصف دومونتانياك هؤلاء الجنود الذين كانت تتكون منها كتائب النخبة التي كان دومونتانياك أحد ضباطها اللامعين يقول: “ تصوروا مجموعة من كبار الشياطين، ترتدي خرقا مصححة بقماش وقطع من الصوف بكل الألوان، وقطع من جلود الماعز أو الخرفان مغطاة بالقمل، يرتدي بعضهم قبعات والآخرون طربوش وبعضهم ارتدى قبعات من اللبد chapeaux de feutre، وآخرون ارتدوا صمبريرة كبيرة من سعف النخل... أما أسفل هؤلاء الأشخاص فقد زينت بجلد الخروف أو جلد الثور بشعره، نظرا لإنعدام الأحذية، يضاف لذلك وجه أسمر ولحية طويلة بالنسبة للغير، وبكلمة واحدة وحوش حقيقية “.
ويؤكد هذه الحقيقة في نفس الرسالة الموجهة إلى عمه:« في كل العمليات الحربية التي نقوم بها منذ أربعة أشهر، هناك مشاهد تلين لها الصخرة، لو كان لنا الوقت لنلين قليلا، وعلى كل حال فقد وصل بنا الأمر أن ننظر كل هذا بلا مبالاة جافة تجعلني أرتعد “.
إن غاية كتائب النخبة - كتائب الموت - التي يعتبر دو مونتانياك أحد قادتها كانت اليد التي ضربت بها فرنسا نفسية المجتمع الجزائري وإصابته في الصميم بهدف تحقيق الخضوع المطلق لفرنسا والولاء لها والتخلي عن روح المقاومة التي اعترف دو مونتانياك بشدتها، لذلك كان على هذه الكتائب “إبادة كل من لا يزحف إلى أقدامنا كالكلاب”، “... السكان الذين لا يقبلون شروطنا يجب أن يستأصلوا، وتصادر كل ممتلكاتهم، وتدمر دون مراعاة السن أو الجنس، لا يجب أن ينمو الحشيش في المكان الذي وطئته أقدام الجيش الفرنسي”.
ففي رسالته: جامع الغزوات 12 فيفري 1845 يقول دو مونتانياك عن نفسه: “... لكي أطرد الأفكار السوداء التي تؤرقني أحيانا، فإني أقطع الرؤوس، ليس رؤوس الخرشوف الأرضي، ولكن رؤوس بشرية حقيقية “. هذه اعترافات لجرائم ارتكبت في الجزائر من قبل الجيش الفرنسي بهدف تطويع الجزائر كاملا واخضاعها لفرنسا الدولة والجيش يتبين أن أهم ما اقترف التقتيل، الذبح، السلب، النهب، الحرق، اقتطاع الرؤوس، الترويع، العقاب الجماعي.
 المجرم سانت أرنو
سانت أرنو، 1798-1854 ترك هذا الضابط آثارا مكتوبة تمثلت في مجموعة من الرسائل التي أرسلها إلى أقاربه ومعارفه يتباهى فيها بالإنجازات العظيمة التي حققها الجيش الفرنسي في الجزائر، والقائمة على نفس المواصفات التي رأيناها مع العقيد دو مونتانياك.
يعتبر من أهم الضباط الميدانيين للجيش الفرنسي، بدأ مهامه بالجزائر كضابط صغير ملازم أول ليترقى بعد ذلك إلى المراتب العليا، حتى أصبح بفضل الخدمات التي قدمها لفرنسا في إخضاع الجزائر والجزائريين ومن خلال قيادته للطابور الجهنمي في العديد من المناطق الجزائرية لسحق أي انتفاضة أو ثورة بل لتأديب القبائل المترددة، أو تلك التي تجرأت لمحاربة فرنسا أو تقديم الدعم والمساندة للمجاهدين.
نتيجة لهذه الأعمال عين وزيرا للحربية في 1851 خلال عهد نابليون 3 ليترقى بعد ذلك ماريشالا عام 1852 (جاء إلى الجزائر في 1836 برتبة ملازم ليغادرها برتبة جنرال في 1851). كان هذا الضابط من أهم أعوان وخلفاء الحاكم العام بيجو الذي أحاطه بكل عنايته وسعى لترقيته وتقريبه منه، وكلفه بإدارة العديد من القوات المرابطة في البليدة، مليانة، الشلف، ...
عمل هذا الضابط بكل جد واجتهاد في سبيل إلحاق أكبر الخسائر المادية والمعنوية بالمجاهدين الجزائريين وعلى رأسهم الأمير عبد القادر وخلفاؤه البركاني وابن علال، وابن السالم، ... وفي سبيل تحقيق ذلك سوف يستخدم أقسى أنواع الإبادة والتخريب لشل قدرات القبائل الجزائرية حتى تزحف على بطنها لطلب الخضوع من فرنسا وهو الشيء الذي رواه في عشرات الرسائل التي أرسلها إلى أفراد أسرته ومعارفه وخاصة أخيه طوال الفترة التي عمل بها في الجزائر وفي مختلف المناطق وذلك من الفترة الممتدة من 1836 إلى 1851. كلفه بيجو القيادة العليا لمليانة والشلف، ثم كلف من قبل الدوق دومال الحاكم العام بعد بيجو ابتداء من 1847 على القيادة العليا لكل من مستغانم، الجزائر، وقسنطينة.
إن هذا الضابط يؤكد من خلال رسائله نظرة الازدراء والدونية التي ينظر بها للجزائريين، يرى أن العرب متخلفون وأنه ليست لهم قابلية للتحضر وأنهم شعب لم يحقق أي تقدم.. هكذا ينظر المجرمون إلى البشر..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024