الحكيم سعدان.. طبيب ثائر وشخصية إنسانية

عمر بن سعيد

شكّلت بسكرة ساحة وطنية في الجهاد الوطني السياسي والثقافي طيلة فترة ليل الاستعمار. أنجبت واحتضنت عديد الشخصيات والوجوه البارزة، التي شكلت قناديل في مسيرة الكفاح والمقاومة التي تُوجت بأم الثورات التي انتزعت الاستقلال اغتصابا.

ومن هذه الشخصيات شخصية قريبة إلى قلوب البساكرة، وهو الطبيب والمناضل أحمد الشريف سعدان المعروف بـالحكيم سعدان، الذي ارتبط اسمه وتاريخه بهذه المنطقة.
ولد أحمد الشريف سعدان، وهو اسمه العائلي الكامل بأحد مناطق الميلية الجبلية في 06 نوفمبر 1895 وبالتحديد في قرية أولاد بوفاهة حسب رواية الشيخ محمد خير الدين.
نزحت أسرته إلى مدينة باتنة وهي الأسرة البسيطة، كان والده عامل مقهى وهذه العوامل الاقتصادية والمعيشية هي التي دفعت أسرته إلى النزوح، تلقى الطفل احمد الشريف المبادئ الأولية من تعليمه هناك.

الدراسة والتعليم
بعد إكمال دراسته الابتدائية بباتنة تنقل إلى قسنطينة، وانتسب إلى المدرسة العربية الحكومية وهي من بين ثلاث مدارس أنشأتها فرنسا لتخريج القضاة والمترجمين، لكن الحكيم سعدان اختار طريقا آخر حيث انتقل بعد أربع سنوات إلى ثانوية «دومال»، ثم انتقل إلى جامعة الجزائر وتخرّج منها بشهادة طبيب، وأكمل دراسته في كلية الطب بتولوز في فرنسا وحصل على شهادة في طب التشريح.
كانت إقامته بفرنسا فرصة لقاء الأمير خالد، الذي تأثر بأفكاره والمبادئ التي كان يدعو لها، قبل عودته إلى أرض الوطن في 1921، عمل طبيبا بإحدى القرى القريبة من مدينة عنابة لمدة 06 سنوات.

نهاية رحلة وبداية رحلة ببسكرة
سنة 1927 كانت نقطة تحوّل في حياة الدكتور سعدان بتنقله للإقامة والعيش والعمل في بسكرة، استبشر السكان لقدومه وتمكن بسرعة من التأقلم بهذه المدينة المضيافة، وتحول إلى بسكري شعورا وواقعا.
التف حوله الناس لما كان يقدمه من خدمات طبية للفقراء والمحتاجين، وكانت لسعدان حظوظ في التقرب واللقاء مع أسماء لامعة في العلم والأدب، والذي احتوته أخلاقهم وطيبتهم فازداد تقربا منهم ومن أبرز هؤلاء الشيخ الطيب العقبي والشاعر محمد العيد آل خليفة.
وصف الشاعر محمد العيد انتقال وتواجد سعدان ببسكرة بقوله: «كالغيث النافع يحب الأرض بإمطاره لما رآه الناس من خيره وقد اجتمع هذا الأخير به أي سعدان فوجده طيبا حاذقا، رجلا حكيما صادقا جمع إضافة إلى حذقه في الطب والحكمة وسماحة الخلق.
وعبّر الشاعر عن إحساس سكان بسكرة من الجزائريين بقدوم سعدان بينهم فقال إن «الجزائر أنجبت أبناء أبرار أبرزهم مهرة جاؤوا لحماية وزرع الفكر والوعي، يريدون الرقي بهذه الأمة ولطالما كان هذا الهدف لديهم، وما يدعوا للفرح ويحمل إلى التفاؤل هو إقبال الكثيرين إلى مهنة الطب التي هي من انفع الأعمال عند البشر، ولعلّ التأثر بشخصية الحكيم سعدان أدى بالكثيرين إلى حب هذه المهنة».
لعلّ تفاؤل وترحيب آهل بسكرة بسعدان في بداية الأمر كونه أول جزائري يمارس مهنة الطب في مدينتهم، وقد أعطته بسكرة مكانة مرموقة وفضلته على البعض من أبناءها لا لشيء إلا ما لمسه الناس من أخلاق وتفاني في العمل، وتقديم المساعدة لمن يطلبها، وذلك قبل أن ينغمس في الشأن العام ويصبح نائبا عماليا لعمالة باتنة آنذاك ثم بمجلس بسكرة إلى غاية 1948.
شارك في المؤتمر الإسلامي ممثلا عن الجنوب، حيث طرح أعضاء المؤتمر مطالب لدى حكومة الوحدة الشعبية، ويحسب لسعدان طرحه للحكم العسكري بالجنوب، وكان نشاطه السياسي تحت مظلة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري تحت قيادة فرحات عباس.
ويسجل التاريخ أنه الجزائري الوحيد، الذي استقال من عضوية مجلس الاتحاد الفرنسي سنة 1947، وكانت له صولات وجولات في معارك انتخابية ضد عملاء الاستعمار والإدارة الاستعمارية في المناسبات الانتخابية، خاصة المجلس البلدي لمدينة بسكرة.
لم يقتصر عمله على الجانب الإنساني والسياسي بل تعداه إلى مجالات كرة القدم، بإنشائه لجمعية نادي الهلال البسكري حيث كان له دور في إحياء النشاط الرياضي ببسكرة.

وفاة طبيب المحرومين
أودع الحكيم سعدان السجن في 1945، وذلك بعد اليوم الاحتجاجي الذي تزعمه، وتعرض في غياهب السجون التي حول إليها من منطقة لأخرى، وأصيب بمرض شديد الخطورة.
بعد إطلاق سراحه، كان نصف ميت نتيجة التعذيب والإهمال في العلاج والظروف القاسية التي كان يحول فيها من سجن لآخر، وهنا بدأت رحلة النهاية لمسيرة حافلة بالعطاء.
توفي في 1948 بإحدى المصحات الطبية بفرنسا، ودفن بمقبرة العزيلات بالمدينة التي أحبها وناضل فيها، وتشير المصادر التاريخية والشهادات إلى أن جنازته كانت مهيبة شارك فيها آلاف من محبيه ووجوه ورجالات من الأحزاب الوطنية وغيرها من الفعاليات الشعبية بما فيها بعض الأوروبيين.

وقد نقشت على شاهد ضريحه مرثية من أربعة أبيات شعرية:

هنا صارم أغمدته المنون
وما كان يألف غمد الجفون
هنا جسد أنهكته السقام
وقلب ألحت عليه الشجون
هنا نام طرق تحدى الكرى
ولم يلفت لحياة الفتون
هنا قبر سعدان رمز الفدى
سقاه الغمام يغيث هتون

وهكذا طويت صفحة ناصعة من نضال رجل أحب هذا الوطن وأحب فقراءه، وكانت له صولات للحق لم تثنيه المصاعب ودسائس المستعمر وأعوانه، وخلدت مدينه ذكراه بإطلاق اسمه على ثانوية وعلى مستشفى كان يحمل اسم الكاردينال لافيجري.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024