لقبوا بشبكات الراديو المتمردة

المجاهد دباح يروي تضحيات شباب واجهوا الموت لتحرير الجزائر

سهام بوعموشة

كانوا يلقبون بشبكات الراديو المتمردة، رجال الخفاء.. هؤلاء الذين يجهل جيل اليوم تضحياتهم.. شبان تركوا دراستهم ليلتحقوا بساحات القتال من أجل تحرير الجزائر وأصبحوا محاربين مختصين في ميدان الاستعلامات خدمةً للثورة.. غداة الاستقلال، كان 50٪ منهم قد استشهدوا والذين نجوا من الموت، استفادت الجزائر من خبرتهم وكفاءتهم في مواصلة تكوين إطارات، ووضع البنية التحتية بمختلف القطاعات الوزارية ومديريات الأمن وممثليات الجزائر بالخارج.
شكل مركز التنصت بالتنسيق مع مصلحة فك الرموز، ضرورة حتمية لقادة الثورة؛ لأنه يسمح للوحدات المقاتلة أن تكون على علم بتوقعات العدو مسبقا، وهذا عن طريق الاتصال بجهاز الراديو الرابط بين قيادة الأركان ومختلف الولايات.
مشروع إنشاء شبكة اتصالات تتمثل في جمع الرسائل الإذاعية للعدو، وإنشاء الربط الإذاعي، طرحه مؤسس شبكة المالغ، العقيد عبد الحفيظ بوصوف، خلال مناقشات حول مشاكل الولاية الخامسة التاريخية، حيث كلف رفيقه سي سدار، في أفريل 1956 بالذهاب إلى مدينة وجدة، للبحث عن جهاز راديو ذي تقنية عالية، للبدء في التنصت على العدو.
 وتمكن سي سدار من العثور على جهاز به ذبذبات تنتشر على مستوى تردد، تعمل عليه قوارب الصيد الذي يوجد بحدود الرقعة التي يستعملها الدرك الفرنسي بالمغرب الأقصى وبالجزائر.
اتخذ قرار إنشاء هيئة الاتصالات في مؤتمر الصومام، لتدارك النقائص المتزايدة للاتصالات الأرضية.
يروي محمد دباح، عضو بمصالح الاتصالات، دفعة الشفرة بالولاية الخامسة التاريخية، كيفية عمل جهاز التنصت الذي مكنهم في البداية من التقاط رسائل الدرك الاستعماري بعين تموشنت وبتلمسان.. كانت هامة جدا بثت شفهيا، وشيئا فشيئا، تكونت فرقة بقيادة سي عمار ثليجي، ضابط سابق في الاتصالات بالجيش الفرنسي.
 يقول دباح في شهادته التي وثقها في كتاب بعنوان «كنا نلقب بشبكات الراديو المتمردة»: «هذه الفرقة كانت لها كفاءة في ميدان الاتصالات، وكان لابد من تكوين مجاهدين في استقبال وإرسال المورس، وقد سمح إضراب الطلبة في ماي 1956، بانضمام مجموعة من الشباب المتطوعين للالتحاق بجبهة القتال من أجل تحرير الجزائر».
ويشير إلى أن هذه المجموعة انبثق منها أول أعوان شبكة الراديو الذين كان تكوينهم يتمثل في حسن استعمال وقراءة المورس، واستعمال جهاز الراديو وإصلاحه عند الضرورة، يقول: «إفشاء سر يعني إهداء سلاح لعدوك».
ويضيف: «بوجدة، في 6 أوت 1956، كانت هناك شاحنة صغيرة قديمة رمادية اللون، لا تلفت الانتباه، تجوب المدينة منذ ساعات، فتتوقف من حين لآخر بركن من أركان الشارع المظلم، يفتح بابها الخلفي فيصعد شابان أو ثلاثة غريبي الهيئة، كل واحد منهم يحمل حقيبة بيده، ويجلسون بهدوء يغلق باب الشاحنة وتنطلق ببطء».

36 شابا متطوعا..
وحسب شهادة المجاهد، فإنه كان لابد أن تتكرر العملية مرات عديدة في نهاية الظهيرة، وفي المساء، تجمّع بمنزل بنهج صافي، ست وثلاثون شابا متطوعا من الثانويات، ومن الجامعة ليلتحقوا بساحة المقاومة، ولأول مرة، يسافرون في سيارة مغلقة لمسافة طويلة، وهم يعلمون أنهم اختيروا لاجتياز تربص في كيفية استعمال جهاز الاتصالات.
النواة الأولى التي تجمعت، كان لابد أن تشرع في العمل دون انقطاع بالقيادة الحماسية لضابط سابق عمار تليجي، لتصل في غضون شهر إلى قراءة التذبذبات بسرعة 600، وينبغي على المتربصين، خلال هذه المدة، استيعاب الكيفيات الأولى لإصلاح عطب الراديو والاعتياد على الشفرة وتقنياتها، حتى يستطيعوا مستقبلا تحويل الرسائل إلى رموز وفكها.
كان هؤلاء المتربصون الستة والثلاثين الأوائل، يجلسون القرفصاء على حصير حول مدربهم.. كان لابد عليهم بعد عشرين يوما، وبعد مجهود معتبر يوميا من الساعة السادسة إلى الثانية عشرة، وبعد قيلولة قصيرة من الساعة الثانية زوالا، يواصلون عملهم إلى ساعة متأخرة من الليل، فبرهنوا بذلك أن ليس هناك عائق يقف حائلا أمام قرار الشعب.
وفي نهاية الشهر، أصبحوا كلهم قادرين على قراءة صوت التردد بسرعة قدرها 600، وقد استطاع البعض الوصول إلى قراءة سرعة التردد بمقدار 900 إلى 1080، وهذا يعتبر إنجازا عظيما لا مثيل له خلال مدة قصيرة، يقول دباح.
العناصر الأولى لدفعة زبانا، وجهت نحو المناطق التي عينوا بها، وكانت هي التجارب الأولى، وفي 14 جوان 1957، أرسلت دفعة بن مهيدي إلى التربص بالناظور، ثم بالمكان نفسه أرسلت دفعة لطفي للتربص أيضا في أكتوبر 1957، تبعتها سلسلة من الدفعات للتربص نحو كل من المغرب الأقصى وتونس، والتي زودت شيئا فشيئا جيش التحرير الوطني، ثم لجنة التنسيق والتنفيذ والشبكات الخارجية ببنية تحتية متينة للاتصالات.
زودت العناصر الأولى التي أرسلت إلى ساحة المقاومة في أوت 1956، بأجهزة إرسال تسمى ر.س.أ R.C.A، وكانت تستعمل بداية في الاتصالات البحرية، والتي حولتها المصالح التقنية التابعة لجيش التحرير الوطني، وكانت توضع بأكياس من خشب تحميها من كل صدمة ومجهزة ببطاريات كبيرة جدا، فلم يكن من السهل حل مشاكل النقل عن طريق هذا الجهاز على مستوى الولايات.
 طرحت مشاكل عويصة أخرى تتمثل في إيصال أولى هذه الأجهزة، لأنها كانت تشكل خطرا دائما على أمن وحدات القتال، بسبب الدوي الكبير الذي كان يحدثه مولد الكهرباء الذي كان ضروريا لتشغيل جهاز البث، وعندما يتمكن العدو من التقاط هذه الإرسالات عن طريق مقياس الزوايا، يتمكن من تحديد مكان البث جغرافيا وبدقة، وبالتالي يستطيع إرشاد المقنبلين الأعداء نحو الموقع.
 وكان لابد على الأعوان تغيير مواقعهم كل ليلة بعد كل بث، وفي أغلب الأحيان، بعيدا عن الفرق المقاتلة، يحرسهم بعض الجنود كل منهم مزود بمسدس أو حتى بقنبلة يدوية التي تستعمل إن تطلب الأمر في الدقيقة الأخيرة لتفجير جهاز البث، حتى لا يقع بين يدي العدو.
 كانت الخسائر معتبرة في صفوف أعوان الشفرة يقول دباح: «هؤلاء المحاربون الذين لم يكن لهم الحظ ليستشهدوا والسلاح بأيديهم، فهم يموتون متمسكين بأجهزتهم للاتصالات من أجل إرسال برقية أو يكونون مشغولين بتحطيم بطاقة الشفرة قبل أن ينالوا الشهادة».

الرقيب فريد (محمد عطار).. أول من استشهد
تطلبت الوسائل التقنية للمواصلات تطورا سريعا، بالنظر لظروف الحرب والعتاد المتطور الذي يحوز عليه الاستعمار الفرنسي، وتفطن إلى ذلك قادة الثورة، حيث عوض مركز قيادة الاتصال الإذاعي القديم أ.ر.ت13، بأجهزة إرسال أكثر فعالية وقوة والجنود الذين عينوا بساحة القتال لم يصبحوا مجبرين على حمل جهاز بحجمه الكبير ر.س.أ على ظهر بغل، فقد أصبحوا يملكون أجهزة إرسال واستقبال مثل التي تملكها قوات الحلف الأطلسي، والمسماة أ.ن.ج.ر.س9.. أجهزة محمولة ذات مولد كهربائي صغير ينقل دون أن يحدث أي صوت.
من جهة أخرى، طور جيش الاحتلال وعمم وسائل الالتقاط «قونيو» من أجل إبطال عمل ذلك الجهاز المهم للوحدة والتنسيق، والذي أصبح وحدة اتصالات بتمركزه وفرض نفسه بكل ولاية وناحية وبكل منطقة من التراب الجزائري كوسيلة حديثة للمقاومة.
في هذا الصدد، يقول دباح: «كان لابد أن تتطور أكثر فأكثر، وأن يحاذي المقاومة المسلحة جنبا لجنب، فالعدو يحاول التسلل والاندساس بشبكاتنا، وينجح أحيانا. من جهتها، قيادة الاتصالات لجيش التحرير الوطني تنسل هي الأخرى بشبكات العدو، وتنجح أحيانا في زرع الهلع في صفوف جيش الاحتلال، والدليل على ذلك الاشتباك الكبير الذي وقع بالقرب من الحدود التونسية، بين فرق المشاة والطيران الفرنسي الذي فقد اتجاهه، ومن هنا كانت قائمة الشهداء المجهولين لا تعد ولا تحصى».
فمنذ 22 نوفمبر 1956، استشهد الرقيب فريد (محمد عطار) وهو أول من استشهد من بين هؤلاء الشبان الذين أرادوا أن يضحوا بحياتهم، وقد تبعه الرقيب زناقة (الحاج مغلام) وآخرون كثيرون.. 86 شابا منحدرين من ثلاث عشرة دفعة متتالية، دونت أسماؤهم، الواحد تلو الآخر، حسب الترتيب الأبجدي بكراس مدرسي قديم، حسب شهادة دباح.
ويشير المجاهد إلى أنه كان لابد من تكوين أعوان الشفرة، ومجموعة لصناعة بطاقات الشفرة، فعند تعيين عون جهاز الراديو، ينبغي أن يحمل بطاقة الشفرة زيادة على ما لديه من أجهزة أخرى، فكل المراسلات الإذاعية كانت مشفرة، وهذا ما أدى إلى تطوير مراكز الشفرة لصنع بطاقات مختلفة للشفرة، تستعمل لقيادة أركان الجيش للمناطق، للولايات، للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

مراكز التنصت تلتقط شبكات معلومات العدو
كلف سي سدار من طرف سي مبروك (عبد الحفيظ بوصوف) بتنظيم مركز تنصت على العدو، هذا المركز الأول يتكون من 12 جهازا كان موجودا بوسط المدينة، حتى لا يتمكن العدو من كشفه.
في 8 جانفي 1957، بدأت مصلحة التنصت تعمل بطريقة عقلانية، فعلى غرار مركز التنصت بالغرب، أنشئ مركز الشرق ليترصد حركة الوحدات الفرنسية شرق الجزائر.. كان التنصت على العدو مصدر معلومات فعال ومهم سواء بالشرق أو بالغرب.
تطور التنصت العملي في الجهة الشرقية بتطور المراكز الموجودة عادة بالمغارات المحفورة أمام مراكز الحدود الفرنسية، ويمكن أن تتابع حركة الراديو العملية للفرنسيين من عربة إلى عربة ومن مركز إلى آخر، ومن الثابت إلى المحمول ومن المحمول إلى الثابت.
كانت مهمة مراكز التنصت سواء بالجنوب أو بالشرق، التقاط مجمل الشبكات الفرنسية، العسكرية والإدارية، وكانت تسمى مصلحة مراقبة الراديو» أ.م.ن.ب.إ»، وهكذا كان قادة الثورة بمراكز التنصت يتلقون المعلومات من الوهلة الأولى عبر نشرة المعلومات اليومية، نشرة المعلومات الأسبوعية، ونشرة المعلومات الشهرية.
كانت المراكز الصغرى للتنصت الملحقة، موجودة بأماكن قريبة من الحدود الغربية الشرقية، وكان ذلك يسمح بمتابعة المكالمات الهاتفية بين الجنود الفرنسيين خلال الاشتباكات مع وحدات جيش التحرير الوطني، وكانت شبكات العدو للدرك والمصالح الإدارية الخاصة جد عملية ومنهجية.
كان الدرك هم الأوائل الذين يتدخلون بالمدن والأرياف أو بالتجمع السكاني مجهزين بوسائل، وأعوانهم من بين الأقدام السوداء، من الذين يعرفون ويحسنون اللغة العربية واللهجة القبائلية، كانوا يجمعون ويلتقطون المعلومات المتعلقة بتحركات المجاهدين ويقدمونها لقادتهم الذين يبثون هذه المعلومات للسلطات المدنية المقيمة بمقر المقاطعة بالدائرة، بالولاية والجيش.
كانت أجهزة الاستقبال للبث الإذاعي الموجودة بمراكز التنصت تعمل دون انقطاع لتتابع حركة تنقل العدو، وتلتقط أهم المعلومات، وكان أعوان الشفرة منشغلين بالبث الإذاعي، يروي دباح: «كنا نلتقط أدنى إشارة، نستقبل الرسائل، نطلع على محتواها لنحدد نوايا العدو، فجمع المعلومات كان مهما جدا من حيث الكم والكيف».
ويضيف: «إذ أن المعلومات التي يتبادلها الفرنسيون كانت معتبرة تشمل على توقعات نشاطات مختلف الوحدات لجيش العدو مثل عمليات التمشيط، التفتيش، تنقل الوحدات، التدخلات الجوية وغيرها، مع تحديد الأماكن، التواريخ والساعات، ما يسمح لقيادة الأركان بالاتصال عن طريق البث الإذاعي للاتصال بوحدات جيش التحرير الوطني المعنية بكل هذه التوقعات للعدو عن طريق الرسائل المرموزة، حتى تتخذ احتياطها فتحبط أعمال العدو وتحول البعض من تلك الاتصالات لتصبح العمليات لصالحنا».
كانت تلتقط وسائل البث معلومات هامة تسمح للقيادة العسكرية لجيش التحرير بالتعرف أحيانا على أن العدو على علم ببعض تدابير جبهة التحرير، مثل محاولة خرق الحدود انطلاقا من التراب المغربي أو التونسي بأماكن موجودة بإحداثيات الخريطة وفي التواريخ المحددة.
 وهذا ما كان يثير خوف قادة الثورة بالقاعدة الغربية في مصدر المعلومة وكيفية تسريبها، ما يدخل الشك في وجود خونة في صفوف جيش التحرير الوطني، وان العدو تمكن من تفكيك رسائلهم عن طريق مصالح اتصالات الثورة، ما يؤدي إلى إلغاء تحرك فرق أعوان الشفرة أو تغيير مكان وساعة التحرك، تتسرب معلومات مهمة جدا خاصة المتعلقة بهوية المخبرين.
كل وحدة فرنسية كان ينبغي أن ترسل في نهاية اليوم إلى مركز قيادتها نشرتها للمعلومات اليومية، وترسل التحاليل وخلاصات إلى قادة المناطق لمختلف وحدات الجيش أو مختلف الولاة، والأوامر والتوجيهات لمختلف وحدات الجيش أو للإدارات الولائية المختلفة، وهذا ما سمح لأعوان الشفرة الجزائريين بتحرير نشرة حرب لبثها عن طريق الإذاعة من خلال برامجها اليومية: «هنا إذاعة الجزائر الحرة المقاتلة صوت جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني يكلمكم من الجزائر»، والأمر نفسه بالنسبة لجريدة المجاهد وبعد ذلك وكالة الأنباء «مصلحة الأنباء الجزائرية».
ويؤكد دباح أنه انطلاقا من 1957 أصبحت هناك تغطية متزايدة لشبكة الراديو بالجزائر والدول العربية، وبعض الدول الإفريقية الحدودية وبلدان صديقة أخرى، فبفضل هذه الشبكة تمكنت قيادة الأركان ووحدات جيش التحرير الوطني بالداخل أن تبقى على اتصال دائم مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
يقول: «كان الفرنسيون يفيدوننا، دون علم، بمعلومات عن جيشنا، ويذكرون خسائر الأصدقاء والأعداء، وما خسروه من رجال وعتاد أو غيره، ويفيدوننا بالخونة الذين التحقوا بالعدو وكانت فرنسا تملك مركزا كبيرا لالتقاط البث الإذاعي ببن عكنون مدينة الجزائر، يدعى التجمع للرقابة الإذاعية مجهز بجهاز استقبال حديث به عدد كبير من الموظفين».

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024