جالس الفلاح ومازح الجندي ووقف على أداء المسؤول..

هذا هو بومدين

سهام بوعموشـة

رجل جعل المنصب وسيلة للتّقرّب من المواطن

بوخروبة كان متحفّظا..خجولا يحب الطّلبة

  تجمع كل شهادات من عايشوا الرئيس الراحل هواري بومدين، أنّ الرجل كان نموذجا للإخلاص للبلاد، تميز برؤية واعية للواقع بمتغيراته، وللمستقبل بتحدياته، في إطار استراتيجية شاملة حقّقت إنجازات هامة، وفتحت آفاقا واعدة محليا وإقليميا ودوليا، وعزّزت علاقات الثقة والتعاون مع مختلف الأمم والشعوب.كان بومدين واعيا بالتاريخ، مستوعبي للواقع، له نظرة استشرافية ثاقبة، نبّه إلى أن المعركة مازالت مستمرة، وحذر من الدمار لمن ينسى تضحيات الرجال والنساء في معاقل الثورة، وضع خارطة الطريق لإعادة بناء الدولة الجزائرية بما يضمن الوفاء لتضحيات الشهداء، وكثيرا ما كنا نشاهد عبر شاشة التلفزيون، وهو يذرف الدموع عندما تحدّث عن استشهاد العقيد لطفي.

 يقول المجاهد الهادي حمدادو، بطل باخرة أتاوس لجلب الأسلحة في حديث لـ «الشعب»: «عرفت المرحوم هواري بومدين عندما كان اسمه محمد بوخروبة، في القاهرة قبل الثورة، كان يدرس في الأزهر وكنت أزوره من حين لآخر، كنت في الجامعة في دار العلوم، من حين لآخر كنا نذهب إلى الأزهر لنلتقي ببعض الجزائريين».
ويشير حمدادو إلى أنّ بومدين كان متحفّظا دائما لا يريد الاختلاط مع الناس ولا الحديث، عرف بأنه خجول، ولا تعرف له حركة، وبالرغم من ذلك كان يتضامن مع الطلبة الموجودين في القاهرة، ويروي لنا المجاهد حادثة وقعت صيف 1954، بالقنصلية الفرنسية بمصر، هذه الأخيرة (القنصلية الفرنسية) استولت على الحبوس الجزائري، الذي كان يدر مالا كثيرا، وكانت القنصلية الفرنسية تمنح جنيه شهريا لكل طالب يأتي ويكون مسجلا في الأزهر.
يضيف المجاهد أن بومدين لم يرض بهذا، ولم يأخذ فلسا واحدا من القنصلية الفرنسية، ومع ذلك تضامن مع الطلبة الذين أضربوا أمام القنصلية الفرنسية مطالبين بالزيادة، فاستدعت القنصلية الشرطة المصرية عندما شاهدت الشغب وطردتهم الشرطة بينهم بومدين.
يقول: «كان بومدين يركض في الشارع، فرمى أحد البوابين كرسيا على الأرض اصطدم به بومدين، وسقط أرضا فألقي عليه القبض، وأخذ إلى مقر الشرطة، وطلبنا من الشاذلي المكي الذي كان يعرف بأنه صديق الطلبة بالتدخل، جاء معنا ولم يخرج إلا ومعه بومدين».
ويشير محدثنا، بخصوص قضية التحاق الرئيس الراحل بالثورة، بأنها كانت في 1955 قبل الإعلان عن إضراب الطلبة في 1956، حيث كانوا يتصلون بالقادة على غرار أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد ومحمد خيضر عندما اندلعت الثورة في 1954، كانوا يتوسّلون خاصة بن بلة للالتحاق بالثورة؛ لأنه هو الذي كان يتصل بالطلبة وكان له علاقة بهم في القاهرة.
ويضيف: «قرّرنا التخلي عن الدراسة ونلتحق بالثورة، وبومدين كان أولنا في مارس 1955، ركب في يخت دينا وأخذ شحنة من الأسلحة وتوجه بها إلى الناظور بالمغرب، نجحت العملية وهو الذي كان رائدنا، بالنسبة لي، هو القبلة التي اتبعتها، هو الذي ألهمني ودفع بي هذه الروح لكي أتخلى عن الدراسة لأني كنت في السنة الأولى ليسانس بدار العلوم بالقاهرة».

سنّ قوانين لتحقيق التّوازن الجهوي

 يبرز مدير المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية الشاملة، عبد العزيز مجاهد، إنجازات الرئيس الراحل بومدين، في سن قوانين خاصة لتحقيق مبدأ التوازن الجهوي، من حيث ضمان الحقوق نفسها للمواطنين، ويذكر مجاهد إصدار بومدين قانون الخدمة الوطنية وإجباريتها، بعد إقامته معسكرات للتدريب بالعاصمة لمدة 45 يوما التحق بها ذكور وإناث، وكانت بمثابة التكوين القاعدي بالنسبة لكل العسكريين، ورأى بأن هذه الأخيرة لا تكفي.
البروفيسور مغدوري:

بومدين حافظ على شخصية الجزائري

 تحدّث البروفيسور حسان مغدوري من جامعة الجلفة، عن تجليات ملامح القيادة في شخصية بومدين الرمز، هذه الشخصية العظيمة التي ما زالت حية في وجدان كل الشعب الجزائري بتعاقب الأجيال، وخلدت هذا الرجل في المخيال الشعبي للجزائر والأمة العربية والعالم برمته.
يقول مغدوري: «أول ما يجب أن ننظر من خلاله إلى هذه الشخصية هو بومدين الإنسان، حافظ دوما على صفته بهذا المظهر كجزء من الشعب الجزائري، كان المنصب بالنسبة له وسيلة من أجل التقرب من الشعب، فبومدين كان يجالس الفلاح ويمازح الجندي ويقف على أداء المسؤول، وكله تمثلا لأخلاق وآداب وجدية الشعب الجزائري».
ويؤكّد: «بومدين هو التاريخ والذاكرة، حجز مكانه في قلب الثورة التحريرية، كان ابن مدرسة نوفمبر وعاش بين الزعماء والأبطال وبين الشهداء، فإذا كان هذا الرجل قد ظفر بهذا المنصب، وتولى أعلى القيادات العسكرية وقتها هذا إنما يدل على ملامح قوية في شخصية هذا الرجل، بومدين بقي معتزا بهذا التاريخ في خطاب ألقاه في 19 مارس 1962 للضباط وضباط الصف والمسبلين والمجاهدين قال الويل والدمار لمن ينسى تضحيات الشهداء».
ويضيف الباحث أنّ بومدين القائد الذي حرص على أن يكون رجل دولة، كان يحمل فكرا تنظيميا وتدبيرا حكيما وتسييرا حازما، عمل على تنظيم الدولة الجزائرية في جميع مستوياتها، وعكس شخصية الشعب الجزائري بقيمه وبتاريخه وبحضارته، فهو لم يشأ أن يبقى الجزائري في هذا الإقليم، فهو الذي ضرب أروع الأمثال في التضحية كيف لا ليكون لهذا الشعب ولهذه الدولة دور فاعل في المحيط الإقليمي والدولي، يقول البروفيسور مغدوري.
ويشير إلى أنّ الراحل كان يمثل الاعتزاز بالأمة العربية والإسلامية وبالعمق الإفريقي، كان يعي الرهانات والتوازنات ودور الجزائر عبر التاريخ، وكان المنظر.
يقول: «هو أول من حمل مبادرة جريئة في وقتها أكدت الأيام على صحتها، حينما تحدث عن اختلال في النظام الدولي بين الشمال والجنوب، وطرح آنذاك إشكالية خلاقة نضالية ما زالت اليوم تمثل الرهان بالنسبة لكثير من شعوب العالم، بومدين تمثل شخصية الإنسان الجزائري، الإنسان المحارب، الذكي والمرن، الإنسان الذي يتعلق بالمشاريع الكبرى، الإنسان الذي يعشق الانتصارات».
ويضيف: «يريد أن يحتضن الفلاح والمرأة الريفية والجندي البسيط الذي يؤدي الخدمة العسكرية أو حتى الضباط في الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير».

أحمد عظيمي:
بومدين أسّس للثّورة الثّقافية

 تحدّث البروفيسور أحمد عظيمي، أستاذ التعليم العالي بكلية علوم الإعلام والاتصال، عن البعدين التعليمي والثقافي في مشروع الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي ربط الإعلام بالثقافة، وكان يرى بأنه لا يمكن أن تكون هناك نهضة صناعية أو تطور صناعي أو زراعي بدون تعليم وتكنولوجيا وثقافة، في إحدى خطاباته قال: «إننا قد شرعنا في تطبيق المبادئ التي تعتمد عليها الثورة الثقافية، مثل إحلال اللغة العربية المكانة اللائقة بها، وتعميم التعليم بين جميع أبناء البلاد والدفاع عن المقومات الوطنية».
يؤكّد البروفيسور عظيمي أن بومدين أعطى اللغة العربية مكانة لائقة بها، وعمّم التعليم بين جميع أبناء البلاد، وكان يرى أنّه لا يمكن تحقيق نجاح الثورة الثقافية بدون نجاح الثورة الصناعية والزراعية، فقد كان يحضّر لثورة ثقافية تغير طبيعة المجتمع الجزائري والرجل والمرأة الجزائرية.
ويستند عظيمي إلى مجموعة من الحقائق والأرقام التي تؤكد أنّ فرنسا لما غادرت الجزائر بعد 132 سنة من الاحتلال لم تترك في التعليم الابتدائي سوى بضع مائة ألف طفل لتسعة ملايين جزائري، وفي 1962 لم يكن بجامعة الجزائر سوى أقل من ألف طالب جامعي.
وبلغ عدد الأطفال في المدرسة الأساسية في الدخول المدرسي 1978-1979، 3 ملايين تلميذ بعدما كان 300 ألف ومن ألف طالب في 1962 إلى 51 ألف طالب في الدخول الجامعي 1978-1979، وحسب مذكرات الدكتور احمد طالب الإبراهيمي، الذي كان وزيرا للتربية من 1965 إلى 1970، فإن كان هناك نقص كبير في قاعات التدريس بحوالي 5 آلاف قاعة تدريس والجامعات والثانويات.
ولما بدأ التحضير للموسم الجامعي 1966- 1967 تلقت وزارة التربية مساعدة ثمينة جدا من وزارة الدفاع الوطني، التي تنازلت عن الكثير من الثكنات والمقرات التي حولت إلى مدارس ومتوسطات وثانويات، يضيف الإبراهيمي في مذكراته.
كان بومدين يهدف من خلال المشروع التعليمي والثقافي الوفاء لأبناء الريف ودمقرطة التعليم، حيث أنشأ مدارس نموذجية في القرى وداخليات لأطفال البدو والرحل وللأطفال الذين يقيمون في الريف بعيدا عن المدارس، وبدأت الثورة الزراعية وشرع في إنجاز القرى الفلاحية، في كل قرية فلاحية كانت هناك مدرسة، وكان هناك برنامج استثماري خاص بالهياكل المدرسية في المناطق النائية، إضافة إلى المطاعم المدرسية والصحة ومجانية الكتاب رغم قلة الوسائل والموارد استقدم الممرين والأجانب لتعليم الجزائريين، يؤكّد عظيمي.
وسعى بومدين إلى جزأرة وتوحيد التعليم، حيث أنّ البرامج كانت أجنبية إمّا فرنسية أو من دول عربية كان هناك مجهود ضخم من أجل وضع الكتاب الجزائري ببرامج جزائرية، وبمحتوى جزائري، وأصبحت هناك مدرسة جزائرية واحدة.
وأول خطوة لاستعادة اللغة العربية لمكانتها في الجزائر في 1963، 1964 بتعريب السنة أولى ابتدائي ثم تعريب بعض المقاييس في الجامعة وتعريب مقياس المصطلحات، وكان يقول في خطاباته: «اللغة العربية بالنسبة لي هي لغة الحديد والصلب بمعنى أنه يجب تطوير اللغة العربية لتكون لغة التكنولوجيا والعصر والتطور».
احتياجات بومدين للإطارات العلمية والتقنية جعلته يدعم التكوين التقني والعلمي، ويشجع التلاميذ على التوجه نحو هذا النوع من التكوين، أنشأ مركب بومرداس كمحيط للبحث والدراسة، وأنشأ بها مجموعة من المدارس لتكوين المهندسين في الصناعات البتروكيماوية والكيماوية والميكانيك والنسيج، جامعات العلوم والتكنولوجيا بقسنطينة، باب الزوار ووهران، بدأ الاهتمام بالبحث العلمي منذ 1968.
أنشأ بومدين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في 1970، وكلّف بها أحد الرجالات الكبار والأكفاء في الجزائر وهو محمد الصديق بن يحيى، وأنشأ اللجنة العلمية لإصلاح التعليم العالي، وسعى إلى إخراج الجامعة من بوتقتها وربطها بالمجتمع عبر لقاءات تنظم مع الطلبة ويتناقش معهم، ودفعهم للمساهمة في نجاح الثورة الزراعية من خلال حملات التطوع.
وكان يقول أن الجزائر يجب أن تكون قوة علمية تكنولوجية عصرية، ويذكر البروفيسور عظيمي أنه حين زار بومدين المركز الوطني للإعلام الآلي بالحراش، قضى يومين مع الطلبة أراد فهم ما هو الإعلام الآلي وأعطى أمرا لمستشاره علاهم بإلغاء كل المواعيد، وعندما فهم ما هو هذا التخصص قال لهم:» إنّكم أنتم الذين تقومون بالثورة الحقيقية في الجزائر». وكان يردّد أن الإنسان المتعلم لا يستعبد أبدا.
وبفضل بومدين كانت الجزائر أول بلد إفريقي يدخل الإعلام الآلي والحاسوب.

محمد بوعزارة:
يتّهم بومدين بالقسوة من لا يعرف سماحته

 يؤكّد الصحفي والكاتب محمد بوعزارة، أن الرئيس الراحل كان يمنع استغلال عائلته موقعه كرئيس للدولة، وكان يقول لمستشاره عبد المجيد علاهم: «لا يأتي أي فرد من أفراد عائلتي إلا والدتي، هذا ما سمعته شخصيا من عبد المجيد علاهم رحمه الله».
يبرز بوعزارة  مواقف بومدين في الدفاع عن حقوق المضطهدين والمظلومين في العالم من فلسطين إلى الصحراء الغربية، ونظرته الاستباقية الثاقبة للعلاقات الدولية والدعوة للدفاع عن الفقراء من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي جديد ينصف عالم الجنوب الفقير.
ويذكر مخاطبته لقادة العالم الإسلامي في قمة لاهور بقوله «الناس لا يدخلون الجنة وبطونهم خاوية»، ويروي قصة عن رئيس تحرير إحدى الجرائد الكويتية وهي جريدة «قبس» عندما سمع هذا الكلام اتصل بجريدته، وقال لهم توقفوا عن وضع العنوان الرئيسي للجريدة، ووضع هذا العنوان «الناس لا يدخلون الجنة وبطونهم خاوية».
ويقول بوعزارة: «البعض الذين يتهمون بومدين بالقسوة لا يعرفون سماحة هذا الرجل، كان يقول علاهم»، من يتهم بومدين بالشدة والقسوة ليتهم يعرف حنان الرجل وقلبه الطيب». وهذا ما يؤكّده المجاهد محمد لمقامي عضو المالغ في مذكراته، أن «بومدين حين بلغه خبر استشهاد رفقائه وكان يرتدي قشابية، غطّى وجهه ثم أجهش بالبكاء، قال هذا هو الرجل الذي يتجنى عليه البعض، ويقول إنّه كان قاسيا».

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024