ساهم في تمتين الوحدة الوطـنية

القضاء الثوري.. قطيعة مع النظام القضائي الاستعماري

سهام بوعموشة

شكّل القضاء الثوري إبان ثورة التحرير، سلاحا آخر للكفاح ضد الاحتلال الفرنسي، بفضل إرساء قادة الثورة لدعائم نظام قضائي جزائري طُبّق بالقطر الجزائري، وبين اللاجئين الجزائريين في المهجر، فأحدثوا بذلك قطيعة مع النظام القضائي الاستعماري، الذي يتنافى مع الأحوال الشخصية الوطنية والإسلامية للجزائريين.

ساهم القضاء الثوري في تمتين الوحدة الوطنية، وأدرك الجزائريون بأن القضاء الذي تمارسه جبهة التحرير الوطني هو الذي يعنيهم ويتوجّب عليهم احترامه، مثلما يؤكد المجاهد صالح رحماني، في شهادة له نشرت في العدد 180 من مجلة أول نوفمبر لسنة 2015، بعنوان «القضاء الثوري: سلاح إستراتيجي أثناء ثورة التحرير الوطني، الولاية الثانية التاريخية نموذجا».
يبرز المجاهد رحماني، أن القضاء أثناء الثورة كان مرتكزا على أسس وقيم العدل والتسامح بين الجزائريين، إنصاف المظلومين ورد الحقوق لأصحابها ومعاقبة المعتدين، ونشر ثقافة الصلح والتراضي بين الإخوة، وإحياء التراث الفقهي القضائي لأجدادنا. وكان إنشاء هذا النظام يهدف إلى تحرير الإنسان الجزائري، ورفع ظلم الاستعمار، وفصل الجزائريين عن الإدارة الاستعمارية وأعوانها في الشرطة والأمن، وتعويض المحاكم الاستعمارية بنظام قضائي عادل وثوري يحمي الناس والثورة.

تنظيم قضائي يشرف عليه ضباط جيش التحرير

ويشير المجاهد إلى أن النظام القضائي إبان الثورة، كان مقسّما إلى القضاء العسكري، وتمثله مجالس عسكرية يشرف عليها ضبّاط من جيش التحرير الوطني على مستوى القسم والناحية والمنطقة والولاية، واختصاص إقليمي، باستثناء القضايا الكبرى أو الشائكة التي تتطلّب مشورة وتزكية القيادة العليا. ويضيف أن اختصاص القضاء العسكري، المنازعات والخلافات بين المجاهدين أو بين المسبلين، الخلافات بين الأفراد والهيئات وداخل النظام الهيكلي للثورة، الخلافات بين أفراد من جيش التحرير أو جبهة التحرير الوطني ومدنيين، كل القضايا التي لها صلة بالنظام الثوري وسيره سيرا حسنا منظما، ولا يوجد أمكنة مخصّصة للقضاء يحضر إليها الناس للمحاكمة لأسباب أمنية، ويشير رحماني، إلى أن المحاكم العسكرية غير دائمة، تتشكل بسرعة عند الضرورة، وحسب طبيعة وخطورة القضايا المعروضة عليها للبتّ فيها.  في حين، القضاء المدني فهو تنظيم المجالس الشرعية على مستوى الدوار، المجلس الخماسي وأعضائه، وهم مساعدو المجلس الشرعي، وعلى مستوى القسم والناحية، يتألف المجلس الشرعي من رئيس وأعضاء مساعدين له، وقد يكون بعضوية اثنين أو ثلاثة أعضاء، حسب تواجد العناصر ذات الكفاءة لهذه المهمة. ولهذا القضاء اختصاصان، الأول في المجال المدني يتعلّق بالأحوال الشخصية، الخصومات والنزاعات حول الممتلكات، الخصومات والنزاعات حول التجارة، والاختصاص الثاني في المجال الجزائي، يتعلق بالاعتداء على الممتلكات والحرمات والأفعال المخلة بالحياء، الضرب والجرح، الخيانة، السرقات، الاعتداء على الأشخاص.
ويستمد القضاء الثوري تشريعاته من الفقه، ويعتمد مذهب المالكية، ومرجعه هو مختصر الفقه للشيخ خليل، ويوضح المجاهد رحماني، أنه إذا كانت القضايا المدنية والأحوال الشخصية يمكن أن يفصل فيها مجلس الدوار ومساعديه، فإن القضايا الجنائية والجزائية تعد من اختصاص المجلس الشرعي وحده.
وكانت ولاية القضاء تسند للرجال الذين تتوفر فيهم مواصفات الاخلاص للثورة والحس بالمسؤولية، الدراية بميدان الفتوى والقضاء، الشجاعة والحزم والحسم، التجرّد والنزاهة والحياة والإنصاف، الاستقامة الخلقية، فهم المأمور والإلمام بأحوال الناس ومشاكل المواطنين أثناء الحرب المدمرة.
ومن مميزات أحكام القضاء أثناء الثورة، الحكم باسم الثورة والنظام، مع إلزامية التنفيذ الفوري، وعلانية الجلسات والنطق بالحكم، ويمكن الطعن في الأحكام، لاسيما في القضايا المدنية والأحوال الشخصية.
وبالرغم من ميزات النظام القضائي إبان ثورة، إلا أنه لم يخل من بعض النقائص، مثلما يؤكده المجاهد رحماني، منها أن النظام القضائي لا يتوفر على سلك قضائي كلاسيكي مدعم بالسجون لحبس المحكوم عليهم، ولا على قضاة التحقيق والنيابة بسبب ظروف الثورة، ما أدى إلى حدوث بعض التجاوزات في أحكام المحاكم العسكرية بطريقة غير مقصودة، فالمهم كان حماية الثورة والصالح العام. في حين ارتكبت أخطاء قليلة جدا في مجال القضاء المدني.
ويضيف المجاهد أنه بعد استرجاع السيادة الوطنية، وفي إطار امتداد الدولة الثورية، أصدرت أول حكومة جزائرية مستقلة مراسيم رئاسية وقرارات تنظيمية تتعلّق بتنفيذ قرارات المجالس القضائية للثورة، وتلك المتعلقة بالحالة المدنية، وهي المرسوم رقم 62-153، المؤرخ في 31 ديسمبر 1962 المتعلق بتنفيذ قرارات المجالس القضائية للثورة، والمرسوم رقم 62-126، المؤرخ في 13 ديسمبر 1962 المتعلق بالحالة المدني.

بيان أول نوفمبر أقرّ العدالة والمساواة  في التقاضي

من جهته، يؤكد محمد غربي، أستاذ بقسم التاريخ جامعة الجيلالي اليابس سيدي بلعباس، في مقال بعنوان «القضاء أثناء الثورة التحريرية»، صدر في العدد الأول من المجلة المغاربية للدراسات التاريخية والاجتماعية، أنه مع اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر 1954، ألزمت جبهة التحرير الوطني كل من تقلّد وظائف حكومية فرنسية بما فيها المناجم والمزارع الفرنسية، والمناصب السياسية مثل القايد والباشاغا بتقديم استقالاتهم، وأصدرت أمرا إلى الجماهير بالتخلي عن البدع مثل زيارة القبور والمشايخ والمشعوذين، وكل ما يتنافى ومبادئ الإسلام، وإلا طبقت عليهم عقوبات صارمة، وسارعت إلى قطع كل علاقة تربط الجزائريين بالمحاكم الفرنسية، ومنعت الجزائريين من دفع الضرائب إلى الخزينة الفرنسية، واللجوء إلى المحاكم الفرنسية في أي نزاع يقع بينهم.  وصدر قرار من جيش التحرير الوطني بإيقاف كل المنازعات السابقة التي كانت معروضة أمام هذه المحاكم، وشكّل فقه المذهب المالكي المصدر الأساسي لقانون الثورة، وكانت تطبق العقوبات على القتل المتعمد، الكذب، الشهادة الخاطئة، النميمة، شرب الخمر، الزنا، السرقة، لعب القمار، الاغتصاب.
ويشير الباحث إلى أن بيان أول نوفمبر 1954 حدد مبدأ قانوني وهو العدالة والمساواة دون تفرقة على أساس عرقي أو ديني أو لغوي. وأكد مؤتمر الصومام أنه ليس من حق أي ضابط مهما كانت رتبته العسكرية أن يحكم بالإعدام على شخص، وأنه يجب تشكيل محاكم.
ولفرض الانضباط الثوري، أنشأت الثورة اللجان القضائية المتكوّنة من لجان خماسية ينتخب أعضاؤها من أفراد الشعب الذين تتوفر فيهم الكفاءة والاستعداد القضائي، وكانت موزعة على أقسام، كل قسم في قرية أو اثنين، ودواوير يتراوح عددها بين الستة والعشرة، وغالبا ما كان مكوث هذه اللجان يدوم حسب المشاكل المطروحة عليها.
 وتستعين اللجان بعلماء الناحية التي تعمل بها، فيأخذ القاضي برأيهم في القضايا التي تستعصي عليه، وتنظر اللجان في الحبوس والأوقاف والصدقات والزكوات، ويعين القاضي من يساعده في جمعها، والحفاظ على ممتلكات الغائبين واليتامى، والنظر في التركات والمواريث سواء كانت ملكا لمجاهد أو مناضل أو مواطن بسيط، يوضح الباحث غربي.
ويؤكد غربي أن قضاة اللجان الشعبية حظيت بالاحترام والتقدير في أوساط الجماهير، لأنهم اتبعوا إجراءات بسيطة وسريعة وفعّالة في حل المنازعات المعروضة عليهم، فكان القاضي يفرض حضور الأطراف المتنازعة في الجلسات وتقديم أدلتهم وبياناتهم وشهودهم، ولم يسمح بتوكيل ممثل سوى للأشخاص الذين كان لهم عذر مثل البعد، قصر السن والجنس، وغالبا ما كان القضاة يتنقلون إلى عين المكان ما قلل تأجيل القضايا. وشملت المحاكم المدنية اختصاصات القضايا المدنية وبعض القضايا الجزائية مثل الامتناع عن دفع الاشتراكات، وعدم الاستجابة للاستدعاءات الموجهة من جبهة أو جيش التحرير الوطني دون عذر جدي، وتتمثل العقوبات التي تحكم بها في عقوبات جسدية منها الضرب بالعصا أو الغرامة المالية، وكان القضاة يستمدون هذه الأحكام من مختصر خليل وأعراف المنطقة، وإن لم يجدوا فمن اجتهاداتهم، وإذا عجزوا عن حل أي نزاع، كانوا يحيلونه إلى جهة أعلى، والأحكام التي تصدر عنهم كانت نهائية والطعون التي تقدم ضدهم كانت ذات طابع ولائي.
أوكلت جبهة التحرير الوطني النظر في الجرائم الأخرى للمحاكم الثورية التي تختلف تشكيلتها باختلاف صفة المتهم مدني أو عضو في جبهة التحرير الوطني، ورتبته، انقسمت إلى المحاكم الثورية المختصة بجرائم المدنيين، أنشئت في كل النواحي للنظر في الجرائم الجسيمة التي يرتكبها المدنيون مثل الجوسسة لصالح العدو، وتتكون من مسؤول الناحية، وهو المسؤول السياسي والعسكري رئيسا، مسؤول الإعلام والاتصال ممثلا بالنيابة، المرشد أو المحافظ السياسي مدافعا عن المتهم بطلب منه وثلاثة أعضاء يختارون من بين سكان العرش، مساعدين محلفين.
 وكانت إجراءات المحكمة بسيطة وتجري وقائعها باللغة الوطنية وشفهية، وبالنسبة للمتهمين الأجانب، تتمّ بلغتهم أو بواسطة مترجم، ولاعتبارات سياسية أو نفسية، يمكن لمسؤول الناحية أن يعلن عدم اختصاصه، فيحيل المتهم إلى المحكمة الثورية للمنطقة كي تفصل فيها.
وبالنسبة للمحاكم الثورية المختصة بجرائم العسكريين، إذا كان الخطأ الذي ارتكبه الجندي بسيطا يحاكم في الكتيبة التي ينتمي إليها سواء بتجريده من سلاحه أو فرض ساعات إضافية للحراسة، واعتبر هذا الإجراء عقوبة نفسية كبيرة للجندي خاصة أمام زملائه، وكل متهم يظل بريئا حتى تثبت إدانته، وفي الحالات الأخرى فيحال المتهم إلى إحدى المحاكم وهي محكمة الناحية، محكمة المنطقة والمحكمتين الثوريتين ما بين الولايات، وهما أعلى الجهات القضائية، تتواجدان على مستوى الحدود الغربية والشرقية، تختصان في الفصل في أول وآخر درجة في الجرائم المرتكبة، سواء كانت بسيطة أو جسيمة داخل وخارج الجزائر، مثلما يوضحه الباحث.
تتكون من غرفة تحقيق يشرف عليها ضابط برتبة نقيب على الأقل، وهو يمثل النيابة العامة، وقاضي رئيسا، وجماعة من القضاة مساعدين تمثل مصلحة كتابة الضبط، وثالثا الدفاع. وتجدر الإشارة إلى أن أجهزة هاتين المحكمتين لم تكونا دائمتين، باستثناء غرفة التحقيق نظرا للدور الذي كانت تقوم به.
ولضبط قائمة الجرائم، قسمت جبهة التحرير الوطني، الأخطاء إلى ثلاث درجات وفقا لخطورتها، فالأخطاء البسيطة تشمل عدم دفع الاشتراكات المقدرة على عموم الشعب بمائتي فرنك، ترك الكلاب ليلا في طريق جيش التحرير الوطني، والعقوبة المسلطة هي قتل الكلب أمام أعين صاحبه فورا، ومن الأخطاء أيضا عدم التصريح للمصلحة الإدارية لجبهة وجيش التحرير الوطني بالزواج والمواليد والوفيات، قطع أشجار الغابات دون إذن، وعدم احترام النظافة الشخصية والعامة، التدخين، عدم الاستجابة لدعوات جبهة التحرير الوطني، الضرب والجرح البسيط.
 وتجدر الإشارة إلى أن المشرع الجزائري كان متشدّدا في وضع القوانين وصارما في تنفيذها، استجابة لظروف الثورة وقلة وعي المواطنين بالمهام المنوطة بها، والدسائس التي كانت تدبرها السلطات الفرنسية لإجهاضها، فكانت توجّه إنذارا أوليا للعناصر التي تخالف أوامرها، فإن استجابت أعفيت من المتابعات وإن تمادت تجد المحاكمة بانتظارها، مثلما يؤكده الأستاذ غربي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024