الدكتور عبد الحق كركب يكشف عن بشاعة الاستعمار

شهداء بـلا قبـور في سيدي بلعباس

ق. ث.

الآلة الاستعمارية الفرنسية.. قتل وحرق وتشريد وانتهاك للأعراف الإنسانية

خصص الباحث الدكتور عبد الحق كركب، الأستاذ بجامعة تيارت، دراسة غاية في الأهمية للحديث عن جرائم الاستعمار الفرنسي ضد الشعب الجزائري أثناء الثورة التحريرية الجزائرية (1954-1962) وذلك بقصد الإحاطة بجانب من تلك الجرائم، خاصة ما يتعلق منها بـ«شهداء بلا قبور” بمنطقة سيدي بلعباس، وقد نشر الدراسة في المجلة المحكّمة “عصور” الجديدة، موضحا أن تلك الجرائم تمثل “سياسة الإبادة الفردية والجماعية التي انتهجتها فرنسا بقصد إفشال الثورة، وتفريعها من محتواها الشعبي وقطع الصلة بين المجاهدين، وعامة الشعب، لمنع المساعدات الضرورية عنهم ونقل الأخبار إليهم.


وقال الدكتور كركب إن “التاريخ والذاكرة عبر الأجيال لن تنسى فظاعة جرائم فرنسا من تقتيل وإبادة للشعب الجزائري منذ أن وطئت أقدامه أرض الجزائر على مدار قرن وربع القرن” وأضاف أن الأعمال الإجرامية اتسمت “بشتى الأساليب من خلال القتل والتعذيب والتهجير والإبعاد والنفي والاعتقال والاضطهاد والاغتيال بدون محاكمة، وغيرها من الجرائم المرتكبة” مؤكدا أن تلك الأفعال المضادة للانسانية  “هي حقيقة الاستعمار التي لا مناص للتعتيم التاريخي والإعلامي من ذكر حقيقتها، وما عاناه الشعب الجزائري من معاناة، والذي لم يدخر أي جهد في الدفاع عن حقوقه المسلوبة، وليفتك الاستقلال الوطني ليضع حدا لقوافل الشهداء والوجود الاستعماري”.
وقال الدكتور كركيب إن منطقة سيدي بلعباس، وهي المنطقة الخامسة من الولاية الخامسة أثناء الثورة، وكغيرها من المناطق والولايات عبر التراب الوطني لم تنج من الظاهرة الاستعمارية الفرنسية، وما سيدي بلعباس إلا عينة لمثل هذا النوع من الجرائم من مجازر جماعية واغتيالات فردية دون التعريف بقبور أصحابها، وهذا بهدف قتل روح الثورة في نفوس المجاهدين وإبعادهم عنها”؛ ولهذا، رأى أستاذ التاريخ ضرورة طرح السؤال عن الشهداء بلا قبور بمنطقة سيدي بلعباس؟ فهل مسألة الشهداء بلا قبور تعتبر ضمن جرائم الحرب ضد الإنسانية؟.
يقول الدكتور كركب إن غايته من الدراسة هي تسليط الضوء على الزوايا المظلمة من جرائم فرنسا في حق الشعب الجزائري، ومنطقة سيدي بلعباس، بصفة خاصة، وتخليد أسماء الشهداء بلا قبور، لتتعرف عليهم الأجيال المتعاقبة، وتروي مآثرهم في تاريخ الثورة التحريرية،  فهم شهداء بلا قبور من الجنسين – يواصل الدكتور كركب - التحقوا وسجلوا ضمن قوائمها، ولم يعرف مكان دفنهم، ولكن ذاكرة التاريخ أحيت ذكراهم ولن تنساهم، ولا الأماكن التي أزهقت فيها أرواحهم، من أمثال بوخلدة عبد القادر، وبشير بويجرة دحو، ولعرباوي أحمد، وبوهند يحيى، والقائمة تطول في العلبة السوداء للجرائم التي اقترفتها فرنسا ضد شعب لم يكن له من ذنب سوى أنه صرخ بقوة: “نعم للحرية لا للعبودية”.

القهر الاستعماري

لقد تعرض الشعب الجزائري إلى أقسى ما يمكن أن “يبدع” القهر الاستعماري من بشاعة، وصور القهر والقمع والإبادة التي مورست على الشعب الجزائري وما نتج عنها من مظالم ومآس تفنن منظرو الفكر الاستعماري الفرنسي في صياغة منظومة قانونية متكاملة ذات طابع قمعي وزجري، وتسابق في تطبيقها السياسيون والعسكريون الفرنسيون ممن تداولوا الحكم على الجزائر هي قمة الفظاعة التي شهدتها الانسانية، ويقول الدكتور كركب إن المسؤولين الفرنسيين اعتمدوا على القمع والبطش والتنكيل مع إباحة المجازر الجماعية للسيطرة على الثورة، وجعلها جزء من أهداف الآلة العسكرية كوسيلة مباشرة للحد من انتصارات الثورة الجزائرية المتتالية.
إن الجرائم ضد الشعب الجزائري خلال الثورة التحريرية كثيرة ومتعددة في المكان والزمان في مختلف القرى والمدن الجزائرية شرقا وغربا شمالا وجنوبا، يؤكد الدكتور كركب، ومن هذه الجرائم تلك التي غيّبت المواطنين الجزائريين، وألقت بهم إلى مهاوي النسيان.
 ونتيجة لاحتدام واشتداد وقع العمليات العسكرية التي قادها أشاوس جيش التحرير الوطني في منطقة سيدي بلعباس، وأمام هذا الصد المنيع، لجأت فرنسا إلى إنشاء مراكز للتعذيب جعلتها بؤرا للقهر والاضطهاد لتطبق من خلالها أساليبها القمعية والوحشية بكل شراسة وعدوانية واعتمدت أسلوب الاستنطاق كوسيلة لردع كل طاقة رافضة للتواجد الاستعماري، ولانتزاع الاعترافات كرها من الأشخاص الموقوفين من قبل أجهزة الأمن الفرنسية حقيقية كانت أم صورية، وكانت أغلب هذه المراكز تنشط في سرية متناهية ومحجوبة عن الأنظار الدولية ودون رقابة.
الاستعمار تلميذ بليد
ورغم اختلاف مسميات مراكز التعذيب، من سجون ومعتقلات، أنشئت كلها لهدف واحد، هو إضعاف وإفشال الثورة التحريرية والسعي للنيل منها، وإلى تجفيف عقول الجزائريين من الشحنة الثورية، ولكسر معنوياتهم النضالية بغية قطع وريد الصلة الوطنية بين الثورة ومسانديها ومجاهديها، وبث سياسة الترويع والتخويف لاجتثاث شوكة العزيمة الثائرة، يقول الدكتور كركب أن ذلك كله لم يكن مجديا، فلا الرصاص ولا الحديد ثبطا من عزائم الرجال، فكان النصر حليفهم بعد معاناة وجهد جهيد.
لقد عهد الجيش الفرنسي منذ بداية الثورة التحريرية وعقب كل هزيمة يتلقى من خلالها الضربات الموجعة من قبل الثوار عقب نهاية كل معركة أو اشتباك أو كمين، أن يسارع إلى القرى والمداشر ليصب جام غضبه على الدروع البشرية نساء، أطفالا وشيوخا، موجها لهم انتقامه اللاذع فيبيدهم تارة، ويسبي ويعذّب وينتهك شرفهم تارة أخرى، مخلفا وراءه الرعب والهلع، فكان المستعمر يكن في نفسه الخوف والغل مجبولا فيه يرى في وجه كل مواطن أو مواطنة كبيرا كان أم صغيرا على أنه عدوا له حاملا البندقية لابد من تصفيته أو الانتقام منه”.

مأساة الانسان..

 ارتكبت فرنسا الاستعمارية مجازر عدة ضد المدنيين العزل منها ما وقع مساء يوم الاثنين 17 مارس 1957 أين قام ضباط الفيلق 129 بقيادة الكولونيل كاستيني (Castiny)، والنقيب مارث (Marthe) رئيس المركز العسكري لمزرعة بيران (Perrain) بعملية تمشيط واسعة النطاق حيث جرح من طرف المحافظ السياسي المختار السقاط المراحي، وعلى إثر ذلك قام الملازم لوفافر (Lefare) بالانتقام من المدنيين العزل وكلهم فلاحين وعددهم عشرون شخصا في مزرعة المعمر لافورق لوسيان (Laforgue. Lucien)، وهذا بأمر من السفاح المقدم هول (Haul).
وعن الواقعة، أورد الدكتور كركب شهادة حية للأجيال والتاريخ على لسان أحد المجاهدين الستة الذين نجوا من الموت، حيث يسرد المجاهد بتخيسي مخيسي قائلا: “زارتنا يوم الإثنين فصيلة من المجاهدين تتكون من 12 فردا بقيادة مي زغلول أين قضوا الليلة عندنا بالدوار فقدمنا لهم العناية اللازمة والمساعدة الممكنة من أكل وشرب ولباس، وكل ما يحتاجونه من مستلزمات، وفي اليوم الموالي أي يوم الثلاثاء، وهو يوم السوق الأسبوعية لمدينة سفيزف، ذهبنا إلى التسوق لشراء بعض الحاجيات لتزويد المجاهدين بالمؤونة، وحين عودتنا إلى الدوار وجدنا المجاهدين قد تحولوا عن منزلنا إلى منزل بوسطلة لحسن، وبحلول الساعة الثانية ظهرا قدمت إلى الدوار فرقة من الجيش الفرنسي مدعومة بالدرك الفرنسي في سرية تامة، وعلى رأسهم شانسين من المكتب الثاني، فباغتوا المكلف بالحراسة الذي حين رأى دورية المستعمر فر هاربا دون أن يبلغ المجاهدين بقدومهم، فحاصر الجيش الفرنسي القرية، وبدأ في إطلاق النار الكثيف، فتبادل المجاهدون وعساكر العدو النار، فأصيب أحد ضباطهم برتبة عقيد، بجروح بليغة، واستشهد منا مجاهدان اثنان، وتمكن بقية المجاهدين من الانسحاب بأعجوبة إلى الغابة المجاورة للقرية.
بعد ذلك بدأ الجيش الفرنسي في مداهمة السكان وإخراجهم من مساكنهم، وفي تلك اللحظة أمرني عسكري فرنسي بحمل أحد الشهداء فوق سيارة مصفحة، وبحلول الساعة الحادية عشر ليلا أخرجونا من ديارنا ليذهبوا بنا إلى المعصرة الكبيرة للخمور التابعة للمعمر لافورق لوسيان، ثم أدخلنا في الزنفور - قبو لتركيز وتخمير المشروبات الكحولية وبدأوا في تعذيبنا ثم قاموا بتفتيشنا ونهبوا كل ما كنا نملكه من نقود وأشياء أخرى، وتركونا هناك بعدما أشعلوا لنا السجائر، ثم أغلقوا عنا كل الأبواب وجميع المنافذ لإعاقة التنفس، وفي يوم الأربعاء وعلى الساعة التاسعة صباحا، فتحوا الأبواب، فوجدونا نحن الستة فاقدين للوعي، أما البقية وعددهم عشرون فقد توفوا اختناقا.
ويضيف المجاهد بتخيسي مخيسي في شهادته قائلا: “أخذونا نحن الستة: رمضان الجيلالي صارنو بن يحي، لقجع جلول، سايح بقدور، بولسيس حنيفي، ومحمد زباني بعد أن تأكدوا من نجاتنا إلى المكتب الثاني، ثم إلى مزرعة بيري أين تم استنطاقنا بوحشية، ليستمر هذا المسلسل كل أربعة أيام، ومكثنا هنالك مدة عشرين يوما تحت التعذيب الوحشي والاستنطاق، وفي الأخير تم إطلاق سراحنا..
والشهداء العشرون،  رحمهم الله وأحسن إليهم هم كالأتي:
بوصطلة عبد القادر، بوصطلة المختار، بوصطلة العربي، بوصطلة محمد ولد أحمد، بوصطلة لحسن، قدوس محمد ولد الحاج، وسيراس بن قدور ولد محمد بلاحة ولد لخضر، بولسيس بغدادي ولد عيسى، بولسيس جلول ولد عيسى، سمون عيسى، سمون البودالي ولد عيسى بن زبان العربي ولد جلول، صارنو محمد ولد يوسف بورخيسي الحبيب ولد الطاهر، مروك محمد، كحلة لحسن علي، لحسن بن سهلة ولد العربي. لحسن، المختار السقاط المراحي”.

مجازر مرعبة..

قامت كل من الفرقة (RI 129)، والفرقة الثانية بقيادة الكولونيل بيجار بجرائم حرب عن طريق حشر مائة وخمسين شخصا داخل بئر بمزرعة المعمر كومي (COMY)، دون غذاء أو هواء وتواصلت عمليات التعذيب الجماعي بإلقاء مائة وثلاثين (130) شخصا آخر داخل بئر بمزرعة كولي (COLY)، مع محو عائلتين عن الوجود، وحرمانهما من الحياة، وهما عائلتا سماعيلي المتكونة من 20 فردا، وبن عيسى المتكونة من 14 فردا.
ودون رحمة أو مراعاة للنفس البشرية الإنسانية، وقعت كارثة أخرى أبطالها ضباط الفرقة الثالثة عشر (DI).. المئات من المدنيين العزل ألقي بهم في آبار مهجورة بحاسي مردوم بقرية تلموني وحامي السنايسة، نذكر منهم: بن عبد الله ميمون ولد الحاج، بوعلام تومي ولد الشفار، جرود ولد حميدة، بومدين بن ديدة بلعباس بهلول عبد القادر بويجرة دحو، بوقاسمية الجيلالي، سكران الحبيب ويسي المكي، درار ، سعيد مكي ولد الشيخ آيت هني مزروق.. والقائمة طويلة..
إلى جانب هذا الصورة البشعة لزبانية الجيش الفرنسي في حق السكان، سجل التاريخ في ذاكرته الحية التي لا تمحي أبدا للأجيال شهداء آخرين عُذبوا وتم رميهم بالعشرات في الآبار، وحولت هذه الحفر إلى مقابر جماعية يغطي بها المستعمر آثار جرائمه. ويضيف المستعمر سوادا في سجله الحربي؛ ففي ببلدية تلموني أيضا وبالضبط عند دوار الحساسنة حوصر المجاهد سلاك الطاهر ولد قايد بمنزله من طرف الجيش الفرنسي التابع لفرقة (RI 129) ليؤسر، ويستنطق ويعذب ثم يرمى به إلى كلاب الجيش لينشوا لحمه حيا حتى الموت.
وبنواحي مدينة سيدي بلعباس عين تالة بسفيزف، أحرق الشهيد إملول أحمد ولد قادة حيا دون رحمة، ونفس الجرائم ارتكبت بنواحي سيدي بلعباس ببلدية تنيرة، وشيطوان وابن باديس عشرون - 20 كيلومتر عن قرية رأس الماء . كلها جرائم دفع فاتورتها هذا الشعب الأعزل الذي رفض العبودية والقهر.
وبنواحي العونيات وعين تادميت، سجل قتل جماعي في حق سكانها حيث بلغ عدد القتلى 40 شهيدا، وآبار أخرى دفنت فيها رفاة أجساد الشهداء في كل من حاسي أولاد بن عبد الله بالقرب من ترابل (Tramble) رجم دموش حاليا، وحاسي أولاد ناصر وحاسي أولاد أمبارك، حيث كان اللفيف الأجنبي والخيالة التاسعة تحكمان مراكز متقدمة، وكلما كثرت الآبار كثرت الإعدامات غير الشرعية ودون محاكمة، وكثرت معها الجرائم ضد البشرية، وكثر أيضا معها نفي البشر تجاه أرض المستعمر.
وبثكنة بودانس (Boudens) - بلدية بلعربي حاليا - أزهقت العديد من أرواح المجاهدين والقادة أمثال سي الفيصل محمودي الذي أسر وهو جريح ومبتور الذراع أثناء اشتباك وقع مع العدو، إذ بدلا من القيام بعلاجه أجهز عليه وقتل في قبو دون مراعاة للأعراف الدولية أو المعاهدات، وفي نفس الثكنة، تم إعدام كل من الرقيب عبد النعيم معطي وسي منصور، وجنان يحي.
وفي ليلة 14 جانفي 1957 اختطف بلعربي عبد القادر رفقة شقيقه الشيخ نظرا لمواقفهما البطولية والثورية ضد المحتل الفرنسي، وبدون محاكمة اغتيلا جنبا إلى جنب وغدرا من طرف ضباط تحت قيادة السفاح شوبان (Chuppin). كما اقترف جنود اللفيف الأجنبي جريمة أخرى تقشعر لها الأبدان في حق أربعة أرواح أبيدت من خلالها عائلة ميرادي حرقا ودون مراعاة للأخلاق أو الرحمة وواصلت الآلة الاستعمارية حصد الأرواح الشابة؛ فقد أحرق المجاهد قلال عبد القادر بالقرب من غابة دوار المهادة بودانس سابقا- التابعة لبلدية بلعربي حاليا.
إن دراسة الدكتور عبد الحق كركب، تقدم واقعا مؤلما مضادا للإنسانية، ارتكبه الاستعمار الفرنسي في حق شعب أعزل، لم يكن له من ذنب سوى “الحرية”.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024