ضمنت تماسك المجتمع وحفظت حقوق الورثة..

«الأوقـاف” بالجزائــر.. نظام اقتصـادي محكـم..

سهام بوعموشة

عرفت “الأوقاف” في الجزائر بما هي مؤسسة اجتماعية دينية عريقة سبقت مجيء الأتراك إلى الحكم، واستمرت في الانتشار والتوسّع طيلة الفترة العثمانية، واكتسبت أهمية كبيرة، رغما عن الاحتلال الفرنسي الذي استحوذ على نسبة كبيرة من الممتلكات داخل المدن وخارجها، قدّر المؤرخون نسبتها بثلثي الأملاك الحضرية، وكان الجزائريون قد أخضعوا الأوقاف إلى تنظيمات خاصة محكمة، بهدف ضبط مواردها وإخضاع ريعها للتسجيل في دفاتر خاصة، وبلغت الممتلكات الوقفية أوجها، فأسهمت في تلبية حاجات المجتمع.

عملت الإدارة الاستعمارية على إصدار العديد من القرارات والمراسيم للقضاء على مؤسسة “الوقف”؛ لأنها كانت تمثل العمود الفقري لتماسك المجتمع الجزائري، حيث ساهمت في الحركة التعليمية وبناء البنى التحتية.
 ومن بين المؤسسات الوقفية مؤسسة الحرمين الشريفين، مؤسسة سبل الخيرات، الجامع الأعظم، بيت المال، الأندلسيين، أوقاف الزوايا والأولياء والأشراف، أوقاف المرافق العامة، الطرق والعيون والسواقي، وأوقاف الأوجاق، الجند والثكنات.

مؤسسة الوقف..

ويعرف “الوقف” بأنه” حبس مال يمكن الانتفاع به لجهة ما، ولا يحق التصرّف فيه وهو من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية وإحساس بالتضامن مع المجتمع، ولقد أكد القرآن الكريم والأحاديث النبوية على مشروعية الأوقاف، لما لها من دور فعّال وخير كبير بين المسلمين، ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”.
وتشمل الأوقاف العقارات المملوكة والأراضي، والأوقاف الخاصة في الجزائر هي أوقاف بيت المال، أوقاف الطرقات، أوقاف العيون، أوقاف الأندلس، أوقاف الأشراف، أوقاف مكة والمدينة، أوقاف سبل الخيرات، والأوقاف العامة هي أوقاف الشيخ الثعالبي، الجامع الكبير، أوقاف المساجد والزوايا والقباب والمقابر لكل منها على حدة، أوقاف القنيعي.
أما شروط الوقف فهي أربعة: المحبس وهو المال الموقوف، المحبس له أي الشخص أو الجهة الموقوف عليها، الصيغة التي يتمّ بها عقد الوقف، هذا الأخير هو عقد من عقود التبرعات، لذلك يلزم لصحته أن يكون الواقف ممن تتوفر فيهم أهلية التبرع هي أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، وغير محجوز عليه لسفه أو غفلة؛ لأن الصبي والمجنون والعبد ليس من حقهم التصرفات في أملاكهم تبرعا. وشروط الموقوف عليه أن يكون جهة، بر أو قرية.

تصريف الأوقاف..

البعد الديني للوقف يتمثل في بناء المساجد والوقف عليها وعلى ما يتعلق بها من أجور الموظفين من أئمة وغيره، والبعد الاجتماعي تمثل في إنشاء الملاجئ الخيرية وكثير من الحمامات والساقيات، وهذا بدافع المسؤولية الجماعية وبناء المستشفيات، فهي تغطي احتياجات عديدة للمجتمع الإنساني ومصاريفها.
 خصّصت الأوقاف لشراء المستلزمات الطبية، ولها بعد اقتصادي في البناء والتعمير واستصلاح الأراضي الزراعية واستثمارها وتجهيزها، إضافة إلى بعد ثقافي وتعليمي كالوقوف على المكتبات وجمع الكتب من أماكن بعيدة، وبهذا تساهم الأوقاف في تشعب المعرفة وتطوّرها، كما تساهم في إثراء الحياة الفكرية والثقافية بمساهمات العلماء والمفكرين.
من أقدم الواقفين العثمانيين في الجزائر، خير الدين بربروس، وخادمه الذي أعتقه وهو عبد الله صفر، فقد بنى هذا الأخير الجامع المعروف بجامع سفير في 940ه - 1534م، وأوقف عليه وقفا بلغ عشر زويجات، وهي تقدر بمائة هكتار من الأراضي، وأوقف خير الدين نفسه، قطعة أرض هامة، إضافة إلى الباشا عبدي الذي بنى مسجدا جامعا، وأوقف عليه أوقافا جعلها تحت إدارة أملاك مكة والمدينة، ومن الباشوات الذين اشتهروا بالوقف على المساجد والمدارس وغيرها محمد بن بكير، الحاج محمد بن محمود ومحمد بكداش، وكذلك البايات والوزراء والكتاب الذين اهتموا بالوقف.

مؤسسات خيرية تصنع الحركية الاجتماعية

كانت الأوقاف في الجزائر العثمانية تتوزع على مؤسسات خيرية عديدة ذات طابع ديني وشخصية إدارية ووضع إداري خاص، ومنها مؤسسة أوقاف الحرمين الشريفين، يعود تأسيسها لصالح الحرمين الشريفين في الجزائر إلى العهد الإسلامي الأول.
واستنادا إلى أقدم الدفاتر المتعلقة بحسابات كراء الأوقاف المخصّصة لمرجع الحرمين الشريفين، يعود إلى عامي 1648-1649، حيث تؤول أوقافها إلى فقراء مكة والمدينة، فتوجه تارة بالبر مع قافلة الحجاج، وتارة بحرا إلى الوكالة الجزائرية بالإسكندرية في السفن الإسلامية أو النصرانية ومنها إلى الحرمين الشريفين.
ولقد أوقف كثير من الجزائريين ممتلكاتهم، ما جعلها في طليعة المؤسسات الخيرية من حيث عدد الأملاك التي تعود إليها والأعمال الخيرية التي تقوم بها، وقد لاحظ قنصل فرنسا بالجزائر “فيليب فالي” أواخر القرن الـ18، مدى اتساع وانتشار أوقاف الحرمين الشريفين، وكتب: “إن أوقاف الحرمين واسعة الانتشار بمدينة الجزائر، وسيأتي اليوم الذي ستستحوذ فيه مؤسسة الحرمين الشريفين على جميع العقارات، وتكاد تكون جميع دور المدينة والبساتين المنتشرة بضواحيها تابعة لمرجع الحرمين”.
وذكر دوفو الذي اشتغل لسنوات طوال في الوثائق الجزائرية، أن مؤسسة الحرمين الشريفين استحوذت على ثلاثة أرباع الأملاك الموقوفة في الجزائر، وشهدت مدن شرشال، البليدة، مليانة، المدية ووهران وغيرها من المدن، هذه الممارسات، ودوّن ذلك في سجل المحاكم الشرعية ودفاتر البايلك.
أسهمت جميع شرائح المجتمع من الخاصة إلى العامة في أوقاف الحرمين الشريفين، ومن المساهمين في مجال الوقف الحكام الداي إبراهيم باشا بن رمضان، علي باشا، عبدي باشا، مصطفى باشا، مصطفى باي، جعفر باي، الباي إبراهيم، احمد باي قسنطينة، حسن باشا والحاج محمد التريكي، وساهم حضر وأتراك وكراغلة..
للنساء دورهنّ..
 النساء بدورهن أسهمن في تأسيس الأوقاف لصالح الحرمين، منهن فاطمة بنت محمد الشنسوني، عام 1622، وعائشة بنت حسن رئيس، عام 1658، أسست وقفا خيريا اشتمل على ما نابها من الميراث، وأوقاف الحرمين مختلفة منها الأملاك العقارية بالمدن من دور محلات، مساكن، أفران، حمامات، وخارج المدن نجد الضيعات والحدائق والمساحات الزراعية والبساتين، قدّرها تقرير اللجنة الأفريقية بـ2101 وقفا في 1834، وأسهم الموظفون كإبراهيم بلكباشي الخزناجي، عام 1730وعمر خوجة الخيل، عام 1805.

نظام إداري محكم..

إن مؤسسات الأوقاف كانت عبارة عن أجهزة إدارية قائمة بذاتها ولكل مؤسسة إدارتها الخاصة، وتتمتع باستقلال عن الأخرى، كانت تحتل موقعا إداريا واقتصاديا واجتماعيا هاما، وتعود أقدم هيئة مشرفة على إدارة الأوقاف إلى سنتي 1635-1636.
وبداية من النصف الثاني من القرن الـ17، أضحى تسيير مؤسسة الحرمين أكثر تنظيما ودقة، فقد كان تسييرها جماعيا. وكان للأوقاف مهمة سياسية، حيث كانت وجه الجزائر في العالم الإسلامي، وكانت أحد أبرز مظاهر التواصل بين الجزائر وبلاد الحجاز.
يؤكد المؤرخ ناصر الدين سعيدوني، أن أوقاف الحرمين قدرت بـ1373 ملكا، منها 70 ضيعة يشرف عليها مباشرة وكلاء الحرمين و10 ضياع و166 بستانا.
ويضيف سعيدوني أن مؤسسة أوقاف الجامع الكبير بمدينة الجزائر، تشتمل عددا كبيرا من الموظفين والمفتي المالكي الذي كان إماما يوم الجمعة والعيدين في الوقت نفسه، و19 استاذا و18 مؤذنا و8 حزابين يقرأون القرآن الكريم، و3 وكلاء يأخذون أجورهم من أوقاف المسجد الأعظم ويستفيدون من مردود أوقاف الجامع الكبير، ويعود تاريخ هذا المسجد إلى القرن الحادي عشر.
وتذكر المصادر التاريخية، أن من بين العائلات التي ساهمت في إدارة وقف الجامع الأعظم، عائلة قدورة منهم ابن جعدون، وابن الشاهد، وابن الأمين، وابن نيكرو، ومحمد بن إبراهيم، والحاج بن سي عمر، وعلي بن محمد المنقلاتي.
خير الدنيا والآخرة..
أدت هذه المؤسسة دورا هاما في مختلف المجالات، منها الحفاظ على الجامع الأعظم كمعلم، وتأدية وظائفه الثقافية والدينية والاجتماعية، حيث استعملت أموال الأوقاف لترميم المسجد والحفاظ عليه، مثلما يؤكد المؤرخ سعيدوني.
وتشير الباحثة نعيمة بحشوش، إلى أنه في المجال الثقافي، كان 19أستاذا يؤدون وظائفهم في تعليم الطلبة وتنويرهم، وكانت أجورهم تقتطع من عوائد الأوقاف، والدور الديني كان يفصل في النزاعات التي تنشب بين الأهالي ويفصل في القضايا الفقهية الشائكة التي يختلف فيها القضاة عند التطبيق والتنفيذ، وكان مركزا للمناظرات بين العلماء.
وفي المجال الاجتماعي، كانت الأموال تصرف في مناحي البر المختلفة، وتنال الفقراء والمساكين والمحتاجين، وترفع الغبن على بعض الأهالي المعوزين، وكانت أوقاف هذا الجامع توفر مدخولا سنويا قدر بـ12000 فرنك في 1837، و125 منزلا و3 أفران و39 بستانا و19مزرعة، ساهموا فيه رجال الجيش، موظفو الدولة الكبار، رجال الدين، أصحاب الحرف والأتراك والكراغلة، الحضر والقاطنين بالمدينة والوافدين من مدن أخرى، وحتى من خارج الجزائر، إضافة إلى مؤسسة سبل الخيرات وأوقاف الزوايا والأضرحة وأوقاف مؤسسة بيت المال وأوقاف المرافق العامة.
وكان دور الأوقاف الإحسان إلى الفقراء، وتقديم مبالغ مالية ومساعدات عينية للفقراء والمحتاجين في شكل إعانات وصدقات، النفقة على رجال العلم والمدرسين والطلبة.

أوقاف الحرمين الشريفين

يوضح ناصر الدين سعيدوني، أن الأوقاف كانت تتوزع على مؤسسات دينية عديدة لها إطار قضائي معترف به، مثل مؤسسة الحرمين الشريفين -مكة المكرمة والمدينة المنورة - التي كانت الأوقاف التابعة لها يتراوح عددها ما بين 1357 و1558 وقفا، حسب مختلف الإحصائيات في مدينة الجزائر وحدها، وكان ربعها ينفق على بعض المساجد كمسجد مغرين، ميزو مورتو، وجامع علي باشا.
ويرسل جزء من المداخيل إلى الحرمين الشريفين مع ركب الحجاز، ويصرف باقيه على القائمين على إدارته وبعض المحتاجين من السكان، وهناك مؤسسة أوقاف الجامع الأعظم وبقية المساجد المالكية الأخرى بمدينة الجزائر، التي بلغ عددها في بداية القرن التاسع حوالي 92 مسجدا، وقد بلغ عدد أوقاف الجامع الأعظم فقط دون بقية المساجد المالكية قبل الاحتلال 550 وقفا.
مؤسسة سبل الخيرات المخصصة للإنفاق على المساجد الحنفية التي بلغ عددها في مدينة الجزائر ثمانية مساجد، يعود إليها مردود 331 وقفا يخص جماعة الأتراك والكراغلة المنتسبين للمذهب الحنفي، والذين يضعون أملاكهم وقفا على المساجد التابعة له، وهناك أيضا مؤسسات أخرى تابعة للأوقاف مثل أوقاف الأولياء والأشراف وأهل الأندلس، فأوقاف المرابطين تتوزع على ثمانية أضرحة أهمها ضريح سيدي عبد الرحمن، الذي بلغ عدد الأوقاف المخصصة له 69 وقفا يناهز مردودها السنوي 6000 فرنك، إضافة إلى أوقاف الجند والثكنات والمرافق العامة كالعيون والسواقي والصهاريج والآثار، وهي من الكثرة والضخامة، بحيث أن وكيل أوقاف العيون بالجزائر كان دخله السنوي من عائدات الأوقاف التابعة له يقدر بـ150 ألف فرنك في السنوات الأولى للاحتلال، حسبما يؤكد سعيدوني، ويضيف: “تكمن أهمية الأوقاف في أن مردودها كان ينفق على رجال العلم والمدرسين والطلبة، الذين لم يكن الحكام آنذاك يرون ضرورة لرعايتهم، ولم تكن الخزينة العامة ملزمة بالإنفاق عليهم، وبذلك كان مردود الأوقاف يشكل المصدر الوحيد لرعاية الخدمات الثقافية والدينية في أغلب المناطق الجزائرية”.
ويؤكد قائلا: “فلولا ما كانت توفره الأوقاف من مبالغ مالية، لما أمكن الإنفاق على 106 مساجد بمدينة الجزائر و100 مكان للعبادة بقسنطينة، ولما كان في استطاعة رجال الدين إنشاء مساجد ومدارس وزوايا جديدة مثل زاوية الجامع الأعظم بالجزائر، التي بنيت من عائدات الأوقاف”.

بناء اللحمة الاجتماعية..

ويشير الباحث إلى أن الأوقاف ساعدت على الحدّ من المظالم والأحكام التعسفية، ومكنت العجزة والقصر والمطلقات والأرامل وغير الراشدات، بفضل تشريعات الوقف من استغلال مصادر رزقهن باعتبارها وقفا أهليا لا يباع ولا يشترى، ولا يمكن حيازته بتصرف أو  استحواذ أو مصادرة، وإنما يسمح فقط لصاحبه بكرائه بمقابل سنوي محدد يقره المجلس العلمي بعد وضعه في المزاد العلني، وهذا ما دفع حوالي 22 امرأة في مدينة الجزائر إلى وقف أملاكهن على الجامع الأعظم، وعملت أحكام الوقف أيضا على تماسك الأسرة الجزائرية وحفظ حقوق الورثة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024