تفرّد بكتابة مقالة وحيدة بمناسبة الذكرى..البشير الإبراهيمي:

يوم مُظلم الجوانب بالظلم.. مُطرّز الحواشي بالدماء

س.بوعموشة

فضاعـة الاستعمـار قضت علــى الحـرث والنسـل والأخضـر واليابـس

تعتبر مجازر 8 ماي 1945 من أبشع الجرائم الإنسانية، تركت جرحا عميقا في نفوس الجزائريين والمناضلين، الذين أيقنوا خبث نوايا فرنسا الاستعمارية، بعدما شهدوا ما اقترفته من فظائع مروّعة وجثث الأبرياء تحمل بالشاحنات لترمى في قبور جماعية، وهناك من أحرقوا داخل كهوف وحفر، لكن رغم بشاعة هذه المجازر إلا أنّها ساهمت في بروز وعي الحركة الوطنية، والتعجيل في تفجير الثورة التحريرية.
يصف الكثير من المناضلين وأعضاء من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بشاعة ما ارتكب في حق الجزائريين بمدن سطيف، خراطة وقالمة، بأنّها مجزرة حقيقية تجردت فيها فرنسا من القيم الحضارية والإنسانية.

أول مبادرة كانت من طرف محمد البشير الإبراهيمي، الذي تفرد بكتابة مقالة وحيدة بمناسبة الذكرى الثالثة للمجازر في 10 ماي 1948 بعنوان ذكرى 8 ماي، كما نظم شعرا معبرا بالمناسبة في الذكرى الخامسة ونشره في 15 ماي 1950 بجريدة البصائر.
قال الشيخ الإبراهيمي صاحب المقولة الشهيرة: “.. لو أنّ تاريخ فرنسا كتب بأقلام من نور ثم كتب في آخر فصل من هذه الفصول المخزية بعنوان مذابح سطيف وقالمة وخراطة، لطمس هذا الفصل ذلك التاريخ ذلك التاريخ كله. “ويصف الثامن ماي “... يوم مظلم الجوانب بالظلم، مطرز الحواشي بالدماء المطلولة مقشعر الأرض من بطش الأقوياء، مبتهج السماء بأرواح الشهداء، خلعت شمسه طبيعتها فلا حياة ولا نور وخرج شهره عن طاعة الربيع فلا ثمر ولا نور وغبنت حقيقته عند الأقلام فلا تصوير ولا تدوين..”.
وتساءل الإبراهيمي، إن كانت مكافأة الجزائريين، الذين شاركوا في تحرير فرنسا من النازية بدل أن تعطيهم الاستقلال كمكافأة على صنيع أعمالهم، التي قدموها لها أهدتهم قتل وتشريد الأهل وعبر عن ذلك بقوله:« لك الويل أيّها الاستعمار أهذا جزاء من كان يسهر وأبناؤك ينامون ويجوع أهله وأهلك بطان، أيشرفك أن ينقلب الجزائري في ميدان القتال على أهله بعد أن شارك في النصر لا في الغنيمة...فيجد الأب قتيلا والأم مجنونة من الفزع..”، واعتبر ما قامت به فرنسا عملا جبانا.
وتحدث عما جرى في الثامن ماي بحزن وتأثر شديدين: “يا يوم..الله دماء بريئة فيك، ولله أعراض طاهرة انتهكت، ولله أموال محرمة استبيحت فيك، ولله يتامى فقدوا العائل الكافي فيك..ولله أيام فقدن بعولتهن فيك..”.
ويذكر الإبراهيمي، فضاعة الاستعمار التي قضت على الحرث والنسل والأخضر واليابس، واعتبر ما ارتكبه الفرنسيون فاق بكثير ما فعله فرعون في أهله، وقال: “.. ويحهم أهي حملة حربية.. انجلت عن تلك الفظائع الوحشية، التي تكفي وحدها لتلطيخ تاريخ فرنسا بالسواد من تحريق للديار وإتلاف للثمار ونهب للأموال وتقتيل للرجال وتذبيح للشيوخ والنساء والأطفال وانتهاك للحرمات الإنسانية، مما لو رآه فرعون لافتخر بفرات ما فاته منه، فقد كان يذبح الأبناء ويستحي النساء... “. وتحدث أيضا عن سياسة فرنسا الإستعمارية، منذ دخولها الجزائر وصولا إلى مجزرة الثامن ماي 1945.
وأكد بأنّ هذا اليوم سيبقى محفوظا في ذاكرة الجزائريين مهما تعاقبت السنين، وقال:« يا يوم لك في نفوسنا السمة، التي لا تمحى والذكرى التي لا تنسى فكن من أيّ سنة شئت فأنت الثامن ماي وكفى وكلّ من دين أن نحيي ذكراك.. لئن لا يمسحه النسيان من النفوس “.، وأشار في إحدى تدخلاته إلى أنّ هذه المجازر تمثل نهاية لزمن المطالب السياسية وبداية للتحضير الجدي للثورة المسلحة، التي يجب إعلانها مهما طال الزمن أو قصر.

  مجزرة في حق الجزائريين

مناضل آخر تأثر بما حدث يوم 8 ماي 1945 وهو الأستاذ الشاذلي المكي، من الذين ساهموا بصورة فعالة في الإعداد لأحداث 8ماي ومن المناضلين الذين حضروا علم المظاهرات (العلم الجزائري)، وهو من مثل الحركة الوطنية الاستقلالية في المشرق، لكنه للأسف مجهول لدى جيل اليوم.
قال عن الثامن ماي: “ففي هذا اليوم، يوم الثامن ماي 1945، خرجت جموع الشبان والفتيان والكهول والشيوخ متظاهرين في مدن سطيف وقالمة وخراطة...وينشدون أغاني الحرية ويرتلون أغاني الإستقلال وما كانوا يظنون أنّ الكثير منهم سوف لا يرجع إلى أهله وذويه، وأنّ الردّ منهم بالمرصاد، ذلك لم تمض ساعات قلائل من خروجهم من دواويرهم حتى تبدل الحال من مظاهرات سليمة إلى معارك دامية دارت رحاها في نواحي كثيرة من القطر الجزائري”.
اعتبر الشاذلي المكي، ما حدث في 8ماي 1945، مجزرة في حق الجزائريين، وقال أنه خلال هذا اليوم أنشئت الميليشيات وألغيت كلّ الحريات الديمقراطية، وأعلنت حالة الطوارئ وصدرت القوانين الإستثنائية والأحكام العرفية، ووصف إحدى المناظر المؤلمة التي شاهدها: “رضيعا ملوثا بالدماء يبحث عن ثدي أمه المقطوعة الرأس دون أن تستجيب السلطات الفرنسية لصراخ ابنها وإنه لمنظر مؤلم اختلطت فيه مسكنة الرضيع بمصيبة الأم الذبيح”.
وأضاف المكي: “...وأما في مقبرة قالمة فلقد رأينا عربات نقل يملكها الجيش الفرنسي، ترمي على الأرض بأكياس كبيرة ولقد هالنا أن لا تحدث هذه الأكياس ساعة إلقائها على الأرض أيّ صدى، فاقتربنا من العربات فإذا بالداخل جثث ممزقة منهوشة مزقها الرصاص وأخرى نهشها الغراب “، وقال أنّ ما جرى في الثامن ماي مصيبة كبيرة للجزائريين، وأكد أن المستعمر لا يفهم إلا لغة السلاح والقوة، وفتح الطريق في وجه الجزائريين للقيام بثورة الفاتح نوفمبر 1954، ودعا الجزائريين إلى عدم العودة إلى الوراء.
وقال أيضا: “ الثامن ماي 1945، يوم دموي عاشه الجزائريون وأن فرنسا كانت بالمرصاد ضد الجزائريين في معركة من طرف واحد فقط، وأن فرنسا هي المسؤولة الوحيدة عن هذه المجازر وإيقاظ الجزائريين من سباتهم العميق وثقتهم العمياء، التي كانوا يولونها لفرنسا”.
يتضح لنا من شهاداتهم حجم الجريمة، التي نفذتها الدولة الفرنسية صاحبة الشعار المزعوم “الحرية، العدل والمساواة”(..)، والتي كانت تتغنى بأنّها دولة متحضرة جاءت لتمدن الجزائريين، لكن يوم 8 ماي 1945 كشفها وعرى زيفها أمام العالم، ورغم ذلك لم تعترف بجريمتها لوقاحتها بل حملت المسؤولية للمناضلين السياسيين الجزائريين والتيارات السياسية الناشطة آنذاك منهم حزب أحباب البيان والحريات لفرحات عباس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتغاضت عما فعله أبناء جلدتها من مليشيات المستوطنين والمظليين وأعوان الشرطة، وهذا ما تبرزه كتابات الضباط الفرنسيين وتقاريرهم عما حدث يوم الثامن ماي1945.

رواية دوفال المزيّفة..

تحدث القائد العسكري الفرنسي، ريمون دوفال، الذي شارك في إبادة الجزائريين بسطيف وقالمة وخراطة، ومن العناصر المسؤولة ولها علاقة مباشرة بهذه المجازر، في التقرير الذي وجهه آنذاك إلى قائد الجيش الفرنسي بالجزائر والمؤرخ في ماي 1945، إلى الشبه الذي يوجد بين الظروف التي أعقبت كلّ من الحرب العالمية الأولى والثانية، و-بحسبه فإن- الانتصار الفرنسي في 1918، قد أعقبته مشاكل قوية بفعل نشاط الأمير خالد، فإنّ الإعلان عن الانتصار على النازية في 1945، فتح عهدا من العنف، وركز في تقريره عن منطقة الشرق الجزائري -عمالة قسنطينة -مجال سلطته ومركز الأحداث التي شهدتها المنطقة في ماي 1945، والتي أدت دورا كبيرا في السياسة الجزائرية.
ويشير دوفال، إلى دافع مهم وهو ما دفع بالفرنسيين إلى الانتقام، حسب روايته ويذكر أنه بعد 1946، أصبح الكثير من الجزائريين يروّجون لفكرة الانهيار الكلي لفرنسا أمام ألمانيا وتعليق الجزائريين وكل شعوب المستعمرات الفرنسية في شمال إفريقيا بميثاق الأطلسي 14 أوت 1941، وتأكيده على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحدث عن مطالب النخبة بقيادة فرحات عباس، الذي اخترع مطلبا جديدا وهو مطالبته بجزائر كاملة الحرية في إطار فيدرالي فرنسي أضاف القائد الفرنسي.
ووصف ما حدث في الثامن ماي 1945، من وجهة نظره، في محاولة يائسة للتملص من الجريمة النكراء، محملا مسؤولية ما وقع للمسلمين والأهالي مثلما يصفهم ويجعل الفرنسيين مجرد ضحايا لمؤامرة دبرها أنصار حزب الشعب الجزائري وأحباب البيان والحرية.
وذكر دوفال، أنّ ما حدث بسطيف بسبب الجزائريين وقال: “ هم من بادروا بإطلاق النار بعد أن رفضوا أوامر المحافظ المركزي للشرطة، بوضع اللافتات التحريضية، وحدوث مناوشات بين المتظاهرين المسلمين والشرطة الفرنسية، وبسبب محاولة هذه الأخيرة جمع اللافتات، في هذه الأثناء أطلقت عيارات نارية فحدثت ثورة عارمة، وطورد الفرنسيون في الشوارع وأطلقت عليهم نيران المسدسات وطعنوا بالخناجر فصاح الجزائريون لنقتل النصارى “، هذا هو ادعاء وزيف الإستعمار للتستر على جرائمه.
ويركز التقرير، الذي عثر عليه المؤرخ عمر بوضربة، بالأرشيف على ذكر استفزازات الجزائريين، وتحدث بدقة عن عدد الضحايا من مدنيين وعسكريين ولا يصرح بعدد الضحايا، وحسب التقرير فعددهم لم يتجاوز العشرة تقريبا بينما يشير إلى المئات من الموقوفين.
وختم تقريره بضرورة مواصلة عمليات التطهير في المناطق الشرقية والغربية لإقليم اختصاصه، وذلك من أجل استرجاع الأسلحة المخبأة من طرف المسلمين، وبالفعل تواصلت عمليات القمع الرسمي إلى ما بعد شهر ماي 1945.
وكتب إلى رؤسائه: “ لقد منحتكم السلام لمدة عشر سنوات، ولكن يجب ألا ننخدع إذ يجب أن يتغير كلّ شيء في الجزائر”، وهنا يتضح روح الانتقام والكراهية التي يوليها الفرنسيون للجزائريين.

 مزاعم وتملّص من الجريمة..

وفي برقية أخرى بتاريخ 29 ماي 1946، يوصي دوفال، بالحذر الشديد في استعمال المدفعية أثناء العمليات، فالغرض المنشود حسب تعبيره هو إعادة الهيئة إلى السلطة والثقة في أسرع وقت وتحقيق عودة القبائل إلى دواويرها، وأنّ الهدف ليس تطبيق تكتيك الأرض المحروقة، ولكن هو الحصول على تسليم الأسلحة مثلما يصفها بأنّها كانت سريعة ومتزنة ولا يذكر تدخل سلاح الطيران إلا ثلاث مرات فأودت بحياة اثنين من الجزائريين وإصابة ثالث بجروح خطيرة، وبخصوص الاعتقالات الاحتياطية فإنّها شملت 639 شخصا فقط.
ويرى دوفال، بأنّه من المستحيل معرفة عدد المسلمين، الذين سقطوا على إثر إطلاق الشرطة الفرنسية النار عليهم، وقال: “ إنّ الفرق العسكرية أثناء الصراع مع الثوار قتلت حوالي 500 إلى 600 مواطنا، بينما بسطيف كانوا حوالي 20 قتيلا وآخرون يقولون 40 قتيلا”.
ويؤكد الباحثان عبد الحميد زوزو، وعمر بوضربة، أنّ دوفال، ينفي ارتكاب الفرنسيين جيشا وميليشيات التقتيل الجماعي والنهب خلال الأسبوعين الأولين، بل حتى أثناء الأسبوع الثالث، وأنه حاول من خلال تقاريره إعطاء صبغة شرعية على القمع والتعليمات القمعية، التي قامت بها فرنسا في 8ماي 1945، وأنها جاءت كرد فعل على استفزازات الجزائريين، ولمح إلى أنّ القمع جاء ردا على تنامي الوعي الوطني، الذي برز في تيارات عديدة خاصة أحباب البيان والحرية، يضيف بوضربة.

لجنة تحقيق بول توبير Tubert

في 18 ماي 1945، عيّنت لجنة رسمية للمباحث بقيادة بول توبير، هذا الأخير حرر تقريرا حول أحداث الثامن ماي، انتقل أعضاء اللجنة إلى سطيف، صباح الجمعة 25ماي1945، ثم انتقلت إلى قسنطينة وبعد ذلك صدر أمر بإيقاف هذه اللجنة من طرف الجنرال ديغول، والعودة إلى الجزائر العاصمة.
 وحسب شهادة توبير، هناك ظروف دفعته للقيام بهذا التقرير أبرزها التعليمات المقدمة للمجلس من طرف الأمين العام، من خلال قتل 122 أوروبي من بينهم نساء واغتصاب البعض منهن وتشويه بعض الجثث، وتطرق للظروف النفسية للجزائريين قبل المجازر في هذا التقرير، والتي كانت حسبه سببا فيما حدث يوم 8 ماي 1945، خاصة ذلك الصراع النفسي الذي كان بين الفئة الأوروبية والفئة المسلمة وأكد أنّ الأوروبيين في غالب الأحيان يجيبون بمصطلحات احتقار.
وقال المتحدث: “ إنّ عبارات السلالة الدنيئة كانت دائما على أسماع الجزائريين وكانوا محط استهزاء وسخرية من طرف الفرنسيين، ويظهر ذلك خاصة بمنطقة قسنطينة، حيث أعطى أستاذ من منطقة بجاية مثالا مكتوبا عليه جملة: “أنا فرنسي وفرنسا وطني”، فحول الشباب المسلمون هذه الجملة وكتبوا: “أنا جزائري والجزائر وطني، وأستاذ آخر شرح الدرس حول الامبراطورية الرومانية وحالة العبيد فيها فأجابه التلميذ “مثلنا نحن”.
ويرجع توبير، الأسباب المباشرة لمظاهرات 8 ماي 1945 إلى أنّها ذات طابع سياسي هدفها تحرير مصالي الحاج، واستقلال الجزائر، وأنّ مظاهرات الثامن ماي هي الوحيدة، التي انتقلت إلى ثورة شعبية فتحولت إلى المناطق المجاورة والأحزاب السياسية والجمعيات هي التي دعت إلى المظاهرات. وحمل المسؤولية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لأنّهم على حدّ قوله كانوا على صلة بالحركة الاسلامية في الخارج.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ توبير، عين حاكم عام على مدينة الجزائر من 1945 إلى 1947 ثم رقي إلى رتبة لواء ثم مستشار في الإتحاد الفرنسي.
الكتابات الفرنسية جاءت غير منصفة واتصفت بالذاتية، والأرشيف ما يزال في طيّ الكتمان والكثير من الحقائق مخفية في مراكز الأرشيف الفرنسي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19461

العدد 19461

الأحد 05 ماي 2024
العدد 19460

العدد 19460

السبت 04 ماي 2024
العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024