القنصل الأمريكي وليام شالر صوّر الحياة الاجتماعية بالجزائر

“البهجة”..بياض يعانق الســّماء

سهام بوعموشة

ربما لم يكن منصفا في كتاباته، ولم يتحرّ الحقائق كاملة، فتجنّى على أهل “البهجة” وظلمهم، ولكنه، مع ذلك، لم يستطع أن ينكر الجمال الذي أحاطت به الجزائر سكانها قبل قرنين، فوصف المنازل والأحياء والمدارس التي يتردّد عليها الأطفال بداية من الخامسة والسادسة، ودقّق في وصف لباس المرأة الجزائرية، بل تعمّق في العادات والتقاليد، ولم يغفل طقوس الزواج وأعرافه.
إنّه القنصل الأمريكي وليام شالر (عمل في بين 1816 و1824)، يروي في مذكراته تفاصيل مهمة عن البنية الاجتماعية الجزائرية، وأسلوب العيش، ويتطرق إلى الحرف، ويتحدث عن المعاملات التجارية.

يصف القنصل الأمريكي لدى الجزائر، الصناعات والحرف التي كانت مبدعة في الحرير والصوف والجلود المدبوغة، وتبلغ قيمة المستوردات الجزائرية من مادة الحرير الخام التي يأتي معظمها من سوريا 80 ألف دولار سنويا، ويقول إنّ المنتجات الرئيسية الجزائرية من الحرير هي شالات، مناديل، أحزمة ونوع من العمائم والقماش الذي يطرز بالذهب، وغيرها من المنتجات التي تستهلك محليا، وهذه المنتجات الحريرية تباع بأسعار أغلى من مثيلاتها من المنتجات الفرنسية والإيطالية.
وبحسب شالر، فإنّ المنتجات الجزائرية أجمل وأمتن، وأنواعها جميلة ودائمة، ولا توجد بضاعة أوروبية تفوق المنتجات الجزائرية في هذا المجال،
مضيفا “كذلك تستعمل كميات كبيرة من الصوف لنسج البرانس والحايك والشالات والسجاد، هذه المنتجات كلها تستهلك محليا، ونسج الصوف شائع في كل عائلة بالجزائر، ولو أنه يجري بطرق بدائية، والإنتاج عادة يستعمل لاستهلاك أفراد العائلة، ولكننا نجد أيضا مصانع في جميع المدن وفي القرى الكبيرة لنسج الصوف”.
ويقول “تصنع في الجزائر أيضا أنواع رفيعة وجميلة من الحصائر، تشكل فرشا للأرضية تشبه السجاد، وكذلك تصنع السلال في الريف، ومن مختلف الأنواع للأغراض المنزلية، وصناعة الجلود ودبغها صناعة معروفة بكل أسرارها في هذا البلد، والجلود المدبوغة والمصنوعة على الطريقة الجزائرية، تبدو قريبة من درجة الكمال”.
إنتاج الأقمشة الخشنة شائع أيضا في الأرياف الجزائرية، يقول شالر، وأسعار هذه المنتجات رخيصة جدا، وهي من حيث النوع تشبه المنتجات الألمانية التي تباع في أسواق الولايات المتحدة الأمريكية.

العمران فنون..

 حاول شالر تقديم فكرة عن الفن المعماري السائد في الجزائر للقارئ، فهو يصف المنازل بقوله إنها مخططة ومبنية على الطراز نفسه، خاصة المنزل الذي سكنه، ويقول: “المنزل الذي سكنته شخصيا سيعطي فكرة عن جميع منازل مدينة الجزائر التي لا تختلف إلا في الحجم وقيمة المواد التي بنيت بها. وهذا المنزل مربع ويبلغ 64 قدما من كل واجهة، وارتفاعه 42 قدما، وثلثه عبارة عن طابق أرضي، حيث توجد المخازن والصهاريج والاسطبلات والأقواس القوية التي تحمل المبنى”.
ويشير شالر إلى أن بقية البناية عبارة عن طابقين في شكل دائري حول حوش مفروش بالمرمر، سعته 30 قدما مربعا، يغطيه بهو مفتوح سعته 6 أقدام، ويقوم كل طابق على 12 عمودا من المرمر الإيطالي، وكل واحد من هذه الأعمدة يكون سندا لاثني عشر قوسا أهليجي الشكل.
ويحيط بالحوش صفان من الأعمدة الرشيقة الجميلة، والسقف مسطح وله حاجز يبلغ ارتفاعه أربعة أقدام ونصف، ومن جهة البحر يوجد بهو آخر مقسم إلى شقق صغيرة عديدة.
ويضيف: “نتيجة لاتساع الحوش، كانت شقق المنزل الذي له أربع واجهات ضيقة جدا وطويلة جدا، وهذا التفصيل والتصميم ملائم جدا بالنسبة لأحوال المناخ، ولكنها بالتأكيد تكون غير مريحة في مناخ أقل حرارة”.
واجهتان من هذا المنزل تواجهان البحر ولهما نوافذ، ولكن المنازل في الجزائر لا تتلقى الضوء عادة، إلا من الحوش، لأنه من غير المسموح لمنزل يشرف على منازل أخرى أن تكون له نوافذ. وجميع النوافذ التي تشرف منها على الشارع أو على الحوش، مزودة بقضبان من الحديد، يقول شالر.
ويشير القنصل الأمريكي إلى أن المنازل المزودة بصهاريج تحصل بها العائلة في موسم الأمطار على ما يكفي الحاجة العادية من الماء، ويقول إن منزله مثل المنازل المشابهة له، ومنزل آخر أصغر منه ويدخل ضمن حيطانه، ويشكل بناية مستقلة بنفسها، وهو يستعمل عادة لإيواء النساء، أو أسرة تابعة لصاحب المنزل الكبير، أو سكن لابنه المتزوج، وكذلك تستعمل البناية في حالات أخرى مطبخا، أو مكاتب، أو حمامات..إلخ.
ويضيف: “هذا المنزل ليس له سوى باب واحد يفضي إلى الخارج، باب قوي ومتين، بحيث يشبه باب قلعة، والعائلة التي تسكنه تملك في داخله كل ما تحتاجه، دون أن يساورها الخوف من الاعتداء من الخارج، وجميع أرضية المنزل مفروشة بالمرمر، أو بالآجر الذي تم تلوينه في هولندا، وجميع غرف الشقق غطيت حيطانها حتى ارتفاع أربعة أقدام بالفسيفساء الرفيع القيمة”.

منزل الجزائري والظّرف الاستثنائي

في جميع المنازل بالجزائر، توجد شقة صغيرة موجودة عند الباب الخارجي للبناية، وفي هذه الشقة يستقبل رب البيت الزوار ويتولى المعاملات، لأنّ الأجنبي غير مسموح له دخول المنزل بسبب وجود النساء، والأجنبي لا يمكنه أن يدخل منزل عائلة جزائرية إلا في ظروف استثنائية.
هذه الشقة فسيحة وفاخرة التأثيث تسمى “السقيفة”، ويُعنى بصيانة الحيطان الخارجية لجميع البيوت الجزائرية، وتطلى بالجبس دائما، ما يجعل المدينة تبدو من بعيد في مظهر أنيق أخّاذ.
يقول شالر إنّ الجزائريين في أوقات الرخاء يحرصون على بناء منازل جميلة، ومن السهل العثور على كثير من المنازل في الجزائر تكون أجمل، ويشير إلى أن الرجال مُحرمٌ عليهم الصعود إلى سطوح منازلهم بالنهار، وبذلك تبقى هذه السطوح وقفا على النساء.
ويقدّم شالر فكرة عن قيمة المنزل الذي كلف بناؤه 100 ألف دولار، وهو يدفع إيجارا سنويا ما مقداره مقداره 250 دولار.

شارع الحلاّقين والسّياسة

يصف القنصل الأمريكي شوارع مدينة الجزائر بأنها ضيقة، مجرد ممرات، وبعض الشوارع لا يمكن أن يمر فيها فارسان على متن جواديهما دون أن يصطدم أحدهما بالآخر، هذه الشوارع مفروشة بالحجر، ويعنى بنظافتها وصيانتها في العادة.
يوجد شارع يسمى الشارع الكبير، يمكن أن تمر فيه عربتان دون أن تلمس إحداهما الأخرى، وهذا الشارع يبلغ طوله نصف ميل متعرج، يمتد من باب الواد أو الباب الشمالي للمدينة حتى باب عزون أو الباب الجنوبي.
في هذا الشارع توجد المقاهي الرئيسية ودكاكين الحلاقين، وفيه يلتقي الذين يهتمون بالسياسة ويتناقشون بالأخبار.
هذا الشارع هو الذي يقصده الجزائري المسترخي ليزيل عن نفسه ما يساورها من ملل وضجر. يجلس في المقهى الذي يفضله، ويتناول قهوته ويتبادل الأخبار ويلعب الشطرنج.
وفي هذا الشارع أيضا، يوجد الدكان المهم الوحيد في الجزائر، يسمى معرضا توجد فيه مختلف الأشياء العادية، وقبالته إسكافي يعكف بوقار، وقد جلس القرصفاء، على الأحذية التي يصنعها، وكلها في متناول يده بحيث لا يحتاج النهوض، يقول القنصل الأمريكي.
وبحسبه، تنقسم مدينة الجزائر إلى أحياء منفصلة تغلق أبواب كل منها بعد صلاة المغرب مباشرة. هذه الأبواب لها حراس يفتحونها للسكان الذين يضطرّون إلى الخروج من المدينة ليلا، وهؤلاء الحراس يخضعون لأوامر الشرطة.

تعليم متطوّر وغير مُكلّف

يتحدّث شالر عن التعليم في مدينة الجزائر بإعجاب، حيث وصفها بأنها تملك كثيرا من المدارس العادية التي يتردّد عليها الأطفال ابتداء من سن الخامسة والسادسة، يتعلّمون القراءة والكتابة.
ويعترف القنصل الأمريكي بالتطور الحاصل في التعليم بالجزائر، قائلا: “نظرا لأنّ الأمور لا تتطوّر بسرعة في هذه البلدان، أميل إلى الاعتقاد أننا مدينون للعرب بالطريقة التربوية التي تعرف عندنا باسم الأنكاستر، فكل تلميذ يحمل لوحة يمكن الكتابة عليها ومحو ما كتب بسهولة، وعلى هذه اللوحة تكتب بوضوح سورة من القرآن”.
ويضيف: “يقوم بقية التلامذة بنقلها بعناية، كل على لوحته والتلميذ الذي يتعلم معنى الكلمة وطريقة كتابتها يعلم ذلك للتلاميذ الآخرين، ويعلم الدرس بصوت مرتفع تلميذ كبير أو معلم يجلس في مكان مرتفع (السدة)، وفي يده عصا يستعين بها لحفظ النظام ولإثارة انتباه الطلبة، وبهذه الطريقة يتعلم التلميذ القراءة والكتابة، والمرجح أن الفضل يرجع إلى هذه الطريقة في وجود هذه الوحدة وجمال الخط العربي، وتعليم الجزائري عندما ينتهي من حفظ القرآن، ويعرف الفرائض التي يعلمها له المعلم نفسه”.
ويؤكّد أن هذا النظام التربوي لا يكلف إلا شيئا قليلا من المال، والبنات يتعلمن في المدارس نفسها تشرف على إدارتها نساء.

ملابس بحسب طبقات المجتمع

 لباس الجزائريين، كما يروي القنصل الأمريكي، يتكون من قطع عديدة بعضها بأكمام والبعض الآخر بدون أكمام، مفتوح في الصدر ومزين بأزرار وزخارف، وبعد ذلك تأتي سراويل فضفاضة ينزل حتى ربلة الساق، وكثيرا ما يلبس الرجل حزاما يلفه مرات عديدة حول وسطه، ويعلق عليه مسدسا ويضع في طياته أيضا ساعته ومحفظة نقوده، ولباس الرأس هو العمامة، والرجلين (البلغة) التي تميز زي الرجل الجزائري، والجوارب لا يلبسها إلا الشيوخ وفي حالة البرد فقط، ونوعية الملابس تختلف باختلاف طبقات الناس وثروة الأفراد وفصول السنة.
وعن الحايك يقول شالر: “ومع ذلك يجب الاعتراف بأن الحايك لباس غير مريح لأنه يتحتّم على لابسه أن يمسكه دائما بيده، وسعر الحايك يختلف باختلاف نوعه. يصنع من الحرير أو من الصوف الأبيض، أو من الصوف الأحمر، ومتى استعمل الحايك غطاء للفراش، فإنه لا يوجد ما هو أفضل منه لتوفير الدفء على خفة وزنه”.
ويضيف: “لباس النساء بقدر ما أمكنني ملاحظته، يتكوّن من قميص صغير يصنع عند نساء الطبقة الغنية من أرفع المواد وأفخرها، ومن سراويل ينزل حتى العقب، وثوب من الحرير أو من مادة أخرى ويكون غنيا بالتطريز بالدنتيل ويغلق بشريط من الوراء، وأخيرا تلبس المرأة الجزائرية حذاء ولكن بدون جوارب”.

جمال الجزائرية..

 يؤكّد شالر أنّ المرأة الجزائرية تعتني عناية خاصة بشعرها، وكثيرا ما ينزل شعر المرأة الجميلة حتى يصل الأرض، والمرأة الجزائرية لا تقنع بالجمال الذي وهبته الطبيعة لشعرها ولحواجبها، فهي تعمل على صبغهما بالأسود مثلما تصبغ بطلاء خاص أظافر أصابع أيديهن، وكذلك يصبغن بالحناء أكفهن وأقدامهن. تلبس المرأة الجزائرية الحلي الثقيلة بما في ذلك خواتم وأقراط الذهب وأساور وخلاخل من الذهب والفضة.
المعدن الشائع في الطبقات الغنية هو الذهب، ثم تنزل النساء حسب طبقتهن إلى الفضة، والألماس أحيانا، ولباس الرأس القومي هو السرمة الذي يصنع من الذهب أو الفضة، حسب الطبقة التي تنتمي إليها المرأة، وهو مخروطي الشكل وفوقه يلقى حجاب شفاف كثيف أو خفيف التطريزة.
ترتدي الفتاة غير المتزوجة على رأسها بدلا من ذلك قلنسوة عادية مطرزة بسكوينات (Seguin)، ذهب إيطالي (كانت العملة المضروبة منه متداولة في مختلف الدول الإيطالية وكان شائعا أيضا في تركيا والجزائر)، والفتاة المتزوجة تعرف حالتها عندما تخرج من بيتها بسراويلها المتعددة الألوان.
ترتدي الجزائرية ثوبا متعدد الألوان وهو ثوب بنات الملوك، وهذا الثوب يغطيه حايكا من النوع الذي تقتضيه الظروف، ومتى سافرت المرأة الجزائرية إلى الخارج، ترتدي حايكا أبيضا يغطي جسمها كله من الرأس إلى العقب، بحيث تبدو وكأنها شبح متحرك.

احترام المرأة

 يحتوي عقد الزواج عادة على شروط تفرض المساواة بين المرأة والرجل الذي يتزوجها أو على الأقل تحميها من أيّ معاملة تعسفية، والواقع أن أثر هذه الفوائد قد زاد واتسع تدريجيا، ونجم عن ذلك أن المرأة العربية لا ترزح في قيود العبودية لزوجها، يقول شالر.
ويجري تخطيط الزواج وعقده بواسطة الأمهات والعلاقات النسوية، التي تسعى بين الطرفين والنساء الجزائريات يلتقين وفي الزيارات المتبادلة في المنازل أو في الحمامات العمومية التي يترددن عليها، والتي تفتح أبوابها في فترة ما بعد الظهر للنساء فقط.
ويروي شالر: “في هذه المناسبات تلتقي القريبة بالقريبة والصديقة بالصديقة ساعات عديدة متوالية ليستغرقن في الحديث الممتع، على حساب أزواجهن الذين يطردون من منازلهم أو يختبئون وراء الأستار الكثيفة في إحدى زوايا المنزل، حيث لا يرون أحدا ولا يسمعون شيئا ليفسحوا المجال للعصابة المرحة”.

الأكلة القومية للجزائريّين

 يتحدّث القنصل الأمريكي في مذكراته عن عادات الجزائريين في الأكل، إذ يشكّل الخبز ولحم الضأن والدجاج والسمك والحليب والزبدة وزيت الزيتون والزيتون والفواكه والخضروات، والكسكسي الذي يصنع من عجينة تشبه العجينة التي تصنع منها المقارونة، الأغذية الرئيسية لسكان البلاد، ويقول: “الكسكس يمكن اعتباره الصحن القومي وهو بمثابة المقارونة في إيطاليا والأرز في الهند، والكسكس يفتل حبات صغيرة عادة في قصعة مصنوعة من الخشب ثم يوضع في كسكاس ويطهى بالبخار وقد يرفق بالمرق والخضروات، أو يقدم بالبيض المسلوق أو بأعشاب حلوة”.
ويسجّل شالر أن الجزائريين لا يستهلكون إلا قليلا من لحم البقر، وهم قلما يذبحون بقرة ولا يذبحون عجلا أبدا، وفي أجود الفصول التي يكثر فيها العشب تعمد كثير من العائلات الجزائرية إلى ذبح ثور أو ثورين وتقطع لحمه ثم تجففه في الشمس، وبعد ذلك يغلى في الزيت ثم يحفظ في أواني ويغطى بالزيت أو بالسمن لاستهلاكه في وقت آخر.

القهوة مشروب التّرف

 القهوة هي مشروب ترف للجزائريين، حيث توجد المقاهي ودكاكين الحلاقين أو مزاولة نوع من أنواع التجارة أو العناية بالحدائق المنزلية أو محاولة تحسين المنزل الريفي لمن يملكون منازل في الريف، فهذه الأشغال توفّر وسيلة لتزجية الوقت، والخروج من الحياة الرّتيبة التي يعيشها الناس.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024