كلفت بمهام جمع الأدوية والاتصال بمنطقة سيق

المجاهدة منصور حفيفي.. ممرضة واجهت الويلات إلى ما بعد الاستقلال

معسكر: أم الخير.س

«لم يكن عملنا مقتصرا على جمع الأدوية وعلاج المرضى والمصابين، إنما انخرطنا في الكفاح المسلح، واشتغلنا في جمع المعلومات وتسليم الرسائل والمناشير والعدة الحربية، مثلما أملى علينا الواجب الوطني مواصلة الكفاح بعد الاستقلال من أجل مواجهة الأوضاع المزرية بعد الثورة التحريرية المباركة”، هذا ما تؤكده المجاهدة فاطمة منصور حفيفي، في حديثها لـ«الشعب” بمناسبة الذكرى 61 لاسترجاع السيادة الوطنية، وهي تحاول التقاط أنفاسها بجهد كبير.

هي من أوائل الملتحقين بصفوف الثورة التحريرية، في العشرينيات من عمرها، كمساعدة تمريض بمستشفى سيق سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، إلى أن ترصدتها شكوك السلطات الاستعمارية وأوقفتها عن العمل بعد إضراب الثمانية أيام، ثم ألقي عليها القبض لتواجه التعذيب والأسر، وتواصل عملها كممرضة بمختلف الأقسام الطبية لمستشفى سيق، بعد الاستقلال.
حاولنا بجهد رصد شهادتها التاريخية عن الظروف الصحية أثناء الثورة وبعد استرجاع السيادة الوطنية، بالنظر إلى الوضع الصحي الذي آلت إليه، نتيجة التقدم في السن، وآثار التعذيب الذي تعرضت له، حيث تعاني المجاهدة الفذة منصور حفيفي، المدعوة فاطمة، من آلام مبرحة على مستوى المفاصل، نتيجة عملية جراحية لمفصل الركبة، وتستعد لإجراء عملية على القلب. ومن صدف الحياة، أن المرأة المجاهدة التي التقيناها في بيتها العائلي بسيق، اشتغلت طويلا بالقطاع الصحي وتعتبر أول جزائرية مسلمة تلتحق بمستشفى سيق سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، مازالت تحتفظ بملامحها الجميلة رغم اثار المرض والتقدم في السن.
تقول المجاهدة فاطمة منصور حفيفي، إن همجية الاستعمار الفرنسي في الجزائر وسياساته الإستدمارية، تسببت بشكل كبير، في انتشار المجاعة والأوبئة والأمراض الملازمة للفقر، خلال فترات ومراحل طويلة من التواجد الاستعماري ببلادنا، الذي لم تقتصر مواجهته على الكفاح المسلح فحسب، إنما التجند لرعاية الجزائريين، في القرى والأرياف، التي تبعد عن المراكز الإستشفائية الاستعمارية بالمدن، ولو أن الخدمات الصحية لهذه الأخيرة كانت تقدم خدماتها الفضلى للمعمرين، بينما تمارسها بتمييز شديد على سكان المدن، باستثناء بعض الحالات الإنسانية، لأطباء أجانب أبدوا تعاطفهم مع الجزائريين وتأييدهم للثورة.
 التحاق المجاهدة منصور حفيفي، بالقطاع الصحي بمنطقة سيق، جاء عن طريق عرض عمل بوساطة من إحدى صديقاتها الفرنسيات، أن تعمل كخادمة بسيطة بالمستشفى في سن 24، قبل ذلك احتاجت إلى إقناع والدها بهذه الوظيفة، لاسيما وأن العرض جاء من شخصية فرنسية، ثم التحقت بفريق التمريض بتوصية من أحد مسؤولي المستشفى، نظير الذكاء الذي تمتعت به، فتلقت تكوينا في التمريض بفرنسا لمدة 6 أشهر.
تقول المجاهدة: “تلقيت تحذيرا من مسؤولة فرنسية بالمستشفى مفاده، التنبيه من التفكير في مساعدة الفلاقة”، غير أن هذه التحذيرات لم تعرها منصور حفيفي اهتماما، فاستعجلت التعاون مع المجاهدين في العام الأول من توظيفها، من خلال جمع الأدوية المتبقية عن المرضى المتوفين أو الذين يغادرون المستشفى، وكذلك الفائض من الأدوية وتسليمها لقادة مراكز الثورة، كل ذلك كان يتم أحيانا أمام أعين إحدى زميلاتها الممرضات الفرنسيات، فتغض عنه الطرف.
وتضيف محدثتنا: “كنت أتظاهر بعدم وجود أي علاقة بيني وبين سكان المنطقة، فتوطدت علاقتي بالفرنسيين العاملين بالمستشفى، حتى أن بعض المسؤولين الأمنيين كانوا يتحدثون أمامي عن عمليات المداهمة والاعتقال التي كانت تبرمج، فأسارع لإخبار مسؤولي خلايا الفداء”.
واستمرت فاطمة منصور حفيفي، على هذا الحال في جمع الأدوية إلى أن توطدت علاقتها بمجاهدات وفدائيات، من عائلات ثورية معروفة بسيق أمثال بن سليم، بن مبارك، بوعجمي، الموفق، حمادي... وأشارت أنها كانت أحيانا تقتني الأدوية من مالها الخاص لمعرفتها بالصيادلة، لإعانة المجاهدين، وكثيرا ما كان يشتبه في نشاطها، لولا أنها كانت تتلقى المساعدة بغض الطرف عنها من طرف بعض المتعاونين والداعمين للثورة، حيث كانت علاقتها بهؤلاء جيدة.
لم تغفل السيدة منصور، عدم لفت انتباه أسرتها إلى النشاط الثوري، الذي لم تكن تعلم عنه شيئا، لكن والدتها تنبهت لنشاطها الفدائي ولقنتها نصائح عن نتائج تعاونها مع الثورة، بالقول: “تعرفين نهاية مصيرك، ستعذبين أو تموتين في كل الحالات”، فترد المجاهدة الجميلة “أعلم ذلك وقبلت به”، فينتهي حديث الأم المجاهدة وابنتها، إلى أن يكتشف أمر الأولى وتقاد إلى مركز الشرطة للاستجواب عن مسدس محشو عثر عليه مخبأ بِقِدر، يعود إلى شقيقها الطالب.
ولما تذكّت شعلة الثورة بمنطقة سيق، استجاب أغلب سكانها إلى إضراب الثمانية أيام، من بينهم الممرضة لدى المصالح الفرنسية بمستشفى سيق، فاقتيدت بسبب ذلك إلى مركز عسكري بسيق لاستجوابها، حول مشاركتها في إضراب 8 أيام، أين تصادف وجودها مع الشهيد أحمد زبانة مصابا على مستوى العين نتيجة التعذيب، وكان الأمر محسوما بالنسبة لفاطمة حفيفي، ولا استسلام إلا بافتكاك الحرية، على الرغم أنها أوقفت من عملها كممرضة بسبب المشاركة في الإضراب العام في 1957، وسجنت نتيجة الوشاية بنشاطها الفدائي لفترة طويلة بمحتشدات عديدة ومراكز تعذيب، ليطلق سراحها في 1960.
وبعد افتكاك الجزائريين لحريتهم، رسميا في جويلية 1962، تقول المجاهدة حفيفي، عرفت الجزائر مرحلة صعبة جدا على الصعيد الإداري، التربوي والصحي على وجه الخصوص، كانت الفوضى ونقص الكفاءات تغلب على كل القطاعات، “حتى أن بعض العناصر التي تولت تسيير مستشفى سيق رفضت إدماجها بمنصبها الذي طردت منه من طرف السلطات الاستعمارية”.
وتعود المجاهدة فاطمة إلى حديثها الذي قاطعته متأسفة، موضحة أن رحيل الجهاز الطبي وشبه الطبي لمستشفيات الجزائر الموروثة عن العهد الإستعماري، في عجز صحي تام، ما استدعى تطوع الأطباء والممرضين المجاهدين، لملء الفراغ وسد حاجة الجزائريين إلى التكفل الصحي، حيث كان الأمر شبيها بمعضلة كبيرة تواجهها الخطوات الأولى للجزائر الحديثة الاستقلال- نحو البناء والتشييد المؤسساتي، ولم يكن ذلك سهلا، إذ يعتبر مرحلة أخرى للمقاومة.
وتواصل المجاهدة فاطمة منصور حفيفي، التحدث بصعوبة، عن الوضع الصحي بعد الاستقلال، فتقول: كان صعبا جدا، لكنه كان منظما ومتميزا بدقة التكفل الطبي والعلاجي، فبعد أن رفض إعادة إدماجها في منصبها، عادت لتلتحق كممرضة متطوعة بمستشفى سيق، فاشتغلت بأقسام عديدة رفقة أحد الأطباء الجزائريين يسمى الدكتور بومدين، وفريق طبي من بولونيا.
تروي محدثتنا: “لم يقتصر العلاج وقتها على الفحص العادي فقط، بل التشخيص والفحص الدقيق للمرضى، مقارنة مع ما يحدث اليوم من خدمات علاجية محتشمة ومتدنية في بعض الأحيان، ولا تمر على مراحل التشخيص الدقيق”.

مجانية العلاج أكبر مكسب صحي حافظت عليه الجزائر
وتضيف: “كان المريض يحظى بعناية خاصة، ولا يحصل على العلاج إلا بعد خضوعه لتحاليل الدم والأشعة. وبالنسبة للأدوية، فكان الأطباء يفضلون وصف الحقن للمرضى بدل الأقراص، حيث كان للحقن مفعول جيد”.
وعن الأوضاع الاجتماعية الصعبة خلال الثورة المباركة، والتي استمرت إلى غاية السنوات الأولى للاستقلال، تقول المجاهدة حفيفي، إن الفرحة بافتكاك الحرية واسترجاع السيادة الوطنية، غطى على ذلك الوضع وأنسى الجزائريين أوجاعهم، رغم عدد الشهداء، لكن المجاهدين مازالوا يشهدون على مراحل بناء الجزائر المستقلة، التي بلغت الهدف المنشود بسواعد أبنائها وبناتها، جيلا بعد جيلا.
لعل المجاهدين لم يقصروا في واجبهم تجاه الجزائر، رغم أن الكثير منهم أمثال المجاهدة المتحدثة، يعانون اليوم ويلات المرض وتعب السنين، وتشير إلى أن أكثر مكسب صحي حافظت عليه الجزائر المستقلة، هو مجانية العلاج في المستشفيات العمومية، دون أن تغفل الإشارة إلى الفرق بين التداوي بهذه المستشفيات والمستشفيات الخاصة، التي تكلف المريض وإن كان مجاهدا من ذوي الحقوق أموالا طائلة لقاء الحصول على العلاج.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024