جهـود فكريــة لإرســاء أســس وعــي وطنـي جزائــري

هكـذا خلــص محمــد الشريـف ساحلي التاريـخ مـن الاستعمـار..

الصادق سليماني

نمـوذج للنخبــة الملتزمـة التـــي لم تنفصــل يومــاً عـن متطلّبـات النضـال

  يُعدّ محمد الشريف ساحلي (1906–1989) أحد أبرز المفكّرين والمناضلين الجزائريّين، الذين أدركوا بعمق العلاقة الجدلية بين تحرير الأرض وتحرير الذاكرة الوطنية، لم تقتصر مساهمته على النّضال السياسي والدبلوماسي فحسب، بل تمحورت حول إطلاق مشروع إبستمولوجي ريادي يهدف إلى تفكيك السّردية الكولونيالية، التي هيمنت على تأريخ الجزائر، ويمثّل فكر ساحلي نقطة تحوّل حاسمة في تأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية، حيث ربط ببراعة بين أدوات التحليل الفلسفي الرفيع وضرورات البناء الوطني بعد الاستقلال، مؤكّداً أنّ الاستقلال الحقيقي لا يتحقّق إلّا بتحرير العقل والتاريخ من قبضة المستعمر.

 ولد محمد الشريف ساحلي في 6 أكتوبر 1906، في تاسغة ببلدية سوق أوفلا في بجاية.. كانت حياته مثالاً للنخبة الجزائرية التي جمعت بين التكوين الثقافي العميق والالتزام الوطني الصارم، حيث وُصف بأنه سياسي وكاتب ومؤرّخ. تلقى ساحلي تكوينه الأكاديمي في فرنسا، حيث درس الفلسفة في جامعة السوربون بباريس، ثم قام بتدريسها في ثانوياتها. لم يكن هذا التكوين الغربي نهاية لمساره الفكري، بل كان نقطة انطلاق لمنهجه النقدي اللاحق.   اللافت في مسيرة ساحلي هو تحويله لطاقته الفكرية من الفلسفة البحتة إلى حقل التاريخ. هذا التركيز الحاد على التاريخ، رغم خلفيته الفلسفية القوية، يشير إلى إدراك عميق بأنّ المعركة الوجودية والوطنية في تلك المرحلة، لم تكن تحتمل التنظير الفلسفي المجرّد، بل كانت تتطلّب “إثبات الوجود” عبر استعادة السردية التاريخية. لقد شعر ساحلي بأنّ الإحساس بـ«استعمار التاريخ” كان بمثابة كابح (Brake) دفعه لتوجيه أدواته الفلسفية المنهجية لخدمة مشروع “تخليص التاريخ” كضرورة وطنية عاجلة، معتبراً أنّ الجبهة التاريخية هي الأشد خطورة وحيوية في مواجهة مشروع الطمس الكولونيالي. وقد سبق هذا التحول الفكري انخراطه المبكّر في الصحافة الوطنية الداعمة للتحرّر، حيث سخّر قلمه في جرائد مهمة مثل “الأمة” (لنجم شمال إفريقيا)، و«النجمة الجزائرية” (لحركة انتصار الحريات الديمقراطية)، و«الشاب المسلم” (لجمعية العلماء المسلمين الجزائريّين)، وصولاً إلى “المجاهد” (لسان حال جبهة التحرير).  
شكّل ساحلي نموذجاً مثالياً للنخبة الملتزمة التي لم تنفصل يوماً عن متطلبات النضال، وأبان عن روح نضالية عالية في حزب الشعب والحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية. وخلال الثورة التحريرية (1954–1962م)، اضطلع بمهام إعلامية ودبلوماسية بالغة الأهمية، حيث عمل على إيصال صوت الثورة إلى الرأي العام الفرنسي وتمثيلها لدى بلدان منطقة شمال أوروبا، وهو ما أداه “بكفاءة واقتدار”.   إنّ دوره الدبلوماسي يفسّر الطبيعة التطبيقية والعملية لأطروحاته التاريخية، ففكره لم يكن مجرّد تأمّلات شخصية، بل كان جزءاً أصيلاً من مشروع بناء الدولة الجديدة، التي تحتاج إلى سردية تاريخية متينة ومحصّنة. كما أنّ علاقته العائلية برئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس (علاقة مصاهرة عبر زواج شقيقته الكبرى بأحد أشقاء عباس)، وضعته في قلب الدوائر السياسية العليا، ممّا منح أفكاره ثقلاً أكبر ضمن النخبة الحاكمة والمفكّرة بعد الاستقلال. واصل ساحلي مسيرته في خدمة البلاد بعد الاستقلال، على مدار عقود في حقل العمل الدبلوماسي كـ«سفير آنذاك” وساهم في تكوين أجيال الصحفيّين.  

الثـورة الكوبــرنيكيـة

 تمثل أطروحة “تجريد التاريخ من الاستعمار” (Décoloniser l’histoire)، التي أصدرها محمد الشريف ساحلي باللغة الفرنسية عام 1965، حجر الزاوية في فكره النقدي، وجاء هذا العمل بعد ثلاث سنوات فقط من استقلال الجزائر، ليؤكّد أنّ تحرير الأرض وحده لا يكفي، وكأنه شعر أنّ المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد. لقد جسّد ساحلي مقولة رواد الحركة الإصلاحية، بأن “تحرير الأذهان مقدم على تحرير الأبدان”، معلناً أنه “محال أن يتحرّر بدن يحمل عقلاً عبداً”.  
لقد أدرك ساحلي مبكّراً أنّ أخطر الأسلحة، التي استخدمتها فرنسا لترسيخ احتلالها كانت “سلاح التاريخ”. فقد عملت فرنسا على تأسيس الجمعيات التاريخية، وكتبت الكتب، ونشرت المجلات، لترسيخ فكرة أنّ الجزائر “أرض مفتوحة” لمن غلب، وأنّ الشعب الجزائري “شعب عقيم” تاريخياً. كان كتاب ساحلي رداً صريحاً وممنهجاً على هذه الأطروحات المسمومة، داعياً إلى ثورة كوبرنيكية (Copernican Revolution) تزحزح المسلمات الكولونيالية في ميدان التأريخ للجزائر.  
إنّ توقيت إصدار الكتاب في 1965 يمثل لحظة مفصلية، حيث احتاجت الدولة الوطنية الجديدة، التي بدأت بترسيخ سلطتها، إلى استعادة سرديتها التاريخية بقوة. كان التحدي يكمن في أنّ الاستقلال السياسي سيكون فارغاً وأجوف، دون استقلال تاريخي وثقافي. عمل ساحلي كدليل إبستمولوجي لتمكين الأجيال الجديدة في الجامعات من أدوات النقد اللازمة لمعالجة هذا الإرث الثقيل. كما أنّ استخدامه لمقولة “الجغرافيا جسدٌ والتاريخ روحٌ” يوضّح أنّ معركته تجاوزت نقد المصادر لتصل إلى إعادة تأسيس الروح الوطنية ووجودها الجوهري. دعا ساحلي المؤرّخين، خاصة الشباب منهم، إلى التحلي بـ “اليقظة الإبستمولوجية” عند تناول أي إنتاج استعماري جاهز يتعلّق بالماضي القريب والبعيد. كان يعلم أن النخبة الجزائرية لا مفرّ لها من اللّجوء إلى هذا الموروث، لأنه كان الوحيد المتوفر تقريباً في ظل الغياب التام للمادة التاريخية الجزائرية المقابلة. لذلك، كان التركيز على المنهج هو خط الدفاع الأول. 
حدّد ساحلي بدقة أنواع الإنتاج الاستعماري، التي يجب نقدها بحذر شديد:    
الدراسات الإثنوغرافية: التي أُجريت في القرن التاسع عشر تحت    وصاية قوات الاحتلال بغرض التوظيف الكولونيالي البحت (كتقسيم المجتمع وتصنيفه).
إنتاج العساكر الفرنسيّين: مثل الجنرال هانوتو (Hanoteau)، وهي كتابات صدرت بوازع عسكري وسياسي، وليست أكاديمية. لملمة المتابعات الإعلامية: التي قام بها صحفيون مثل إيف كوريير (Yves Courrière)، والتي لا ترتقي إلى مستوى الكتابة التاريخية الأكاديمية المطلوبة.  
كان الهدف النهائي من هذا النقد المنهجي هو “تعقيم الشباب” المهتمين بالتاريخ الوطني ضدّ “فيروسات استعمارية”، قد تتسلّل وتنخر “الجسد الوطني الهشّ، الذي التأم بشق الأنفس وصقلته حرب تحرير ضروس”.  
وبقي كتاب “تحرير التاريخ من الاستعمار” من أمهات كتب النقد التاريخي، التي تنير دروب البحث وتنعش الدرس التاريخي في الجزائر.
 لقد فتح ساحلي بأسئلته ونقده للمؤرّخين الاستعماريّين الفرنسيّين طريق البحث التاريخي في الجزائر، الذي يعمل فيه المؤرّخون اليوم في ورشات كثيرة. كما عُرف ساحلي بحدة موقفه في تفنيد أطروحات كتاب الاستعمار المحشوّة بالأكاذيب، التي كانت مجحفة في حق رموز وطنية كبرى، وعلى رأسها الأمير عبد القادر.  
لقد أثبتت هذه الأطروحات أنّ إسهام ساحلي كان متميزاً في إثراء المكتبة الوطنية في ظرفية حرجة، حيث سدّت أعماله “فراغاً كبيراً في حينها”، من حيث طبيعة القضايا المعالجة ومنهجية الطرح. ولتوضيح عمق منهجيته النقدية، يمكن تحليل آليات هجومه على مصادر التاريخ الكولونيالي:  

في صميم معارك الهوية والجدل الثقافي

 وضع محمد الشريف ساحلي نفسه ضمن النخبة الجزائرية، التي خاضت معركة الهوية، إلى جانب مفكّرين بارزين مثل ابن باديس، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، ورغم الاستقطاب الذي ميّز كتابات هذه النخب، رأى ساحلي ضرورة تحقيق “مصالحة مع الذات” و«ردم هوة الخلاف” التي خلّفها الاستقطاب الحاد.  
فيما يتعلّق بالقضية الأمازيغية، وهي جزء لا يتجزأ من هويته الشخصية، أكّد ساحلي أنّ أقوى الدراسات توصّلت إلى “الحامية الجنسية للأمازيغ”، وأنّ الهوية الأمازيغية ظلّت صامدة أمام كبرى الحضارات عبر التاريخ البشري. وشدّد على أنّ الأمازيغ هم “صمّام أمان ووحدة الجزائر”. أما بخصوص ظاهرة العوربة، فقد رأى أنّ الإسلام يمكن أن يقدّم تفسيراً جزئياً ومقبولاً لحدوثها، لكن هذا التفسير لا يمكن أن يتم بمعزل عن الظروف التاريخية، التي سادت المنطقة خلال القرن التاسع الميلادي، حيث كان التقهقر قد أصاب الحضارة الأمازيغية، بسبب الصراع المتواصل مع الحضارات المتوالية، بينما كانت الحضارة الإسلامية حديثة التكوين.  
من المفارقات التي تميّز فكر ساحلي، أنه بالرغم من تكوينه العميق في المدرسة الفرنسية، كان أشد من حذّر من “فيروسات المدرسة الفرنسية القاتلة”. واعتبر نجاته الشخصية من تأثيرها نتيجة لعمل عقله وإمعان نظره في موادها، ليتمكّن من التمييز بين السليم والسقيم.  
نقد النخب ومفهوم “الأرضة المتعلمة”
 لم يتوقف فكر ساحلي عند نقد الاستعمار الخارجي، بل امتد ليشمل نقد النخبة المحلية المتعلمة، التي تخدم المشروع الاستعماري بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وقد استعار ساحلي مفهوم مالك بن نبي، “الأرضة المتعلمة” (La Termite Savante)، لوصف هذا الخطر الداخلي.  
يشير هذا المفهوم إلى أنّ الاستعمار، حتى بعد تحرير الجغرافيا، يظل بحاجة إلى أدوات محلية، كأقلام وأبواق تتكلّم باسمه وتخادع “الجماهير الطيبة”، بحيث لا يُعرف خط الاستعمار الحقيقي ولا صوته. لقد ربط ساحلي هذه الظاهرة بضرورة التحرّر الجذري من “مصادر التلقين” المرتبطة بمؤسّسات الهيمنة الثقافية الاستعمارية، والدعوة إلى البحث المستقل عن تأثيرها. هذا الربط بين نقد بن نبي (الداء الاجتماعي) ودعوة ساحلي (العلاج التاريخي)، يؤكّد وجود محور فكري متماسك داخل النخبة الوطنية، يرى أنّ التحرّر الفكري لا يكتمل إلا بالتحصين ضدّ النخبة المضلّلة، التي تواصل تلقي الإملاءات الفكرية.  
في مرحلة ما بعد التحرير، برز تحدٍ جديد لا يقل خطورة عن الاستعمار ذاته، وهو “تسييس التاريخ” محلياً. بينما كان تركيز ساحلي ينصب على تجريد التاريخ من الاستعمار الخارجي، يرى التحليل الأكاديمي اليوم أنّ فكره يرسّخ قواعد المنهجية التاريخية، التي ترفض أي توظيف أيديولوجي ضيق، سواء جاء من الخارج أو من الداخل.  
إنّ الدعوة التي يطرحها البعض اليوم، للانتقال من “تجريد التاريخ من الاستعمار” إلى “تجريد التاريخ من السياسة” ، هي امتداد منطقي لأطروحة ساحلي المنهجية، فساحلي، مثله مثل النخبة الفاحصة لمنهجه، يقرّ بأن لا سياسة دون تاريخ ولا مبرّر للبحث في التاريخ لولا “التدافع السياسي”.
لكن الخطر يكمن في الظواهر الخطابية المرضية، التي تنتجها المجتمعات عندما يرتبط فيها التاريخ والدين واللغة بالسياسة بشكل مفرط. بالتالي، فإنّ فكر ساحلي يدعو إلى إرساء قواعد موضوعية للنقد الإبستمولوجي ترفض تحويل التاريخ إلى أداة دعائية ضيقة، وتعمل على إيقاظ الحسّ النقدي لدى النخب، فيما يتعلق باستثمار القضايا الثقافية والسياسية في كتابة التاريخ.  
يُعد محمد الشريف ساحلي فيلسوفاً ومؤرّخاً، وظلّ فكره صوتاً قوياً ومبكراً رافعاً لصالح “تحرير التاريخ بعد استعادة الجغرافيا”. كان نموذجاً للنخبة التي تلقت تكويناً فرانكفونياً، لكنها ظلت وفية لهويتها وانتمائها، وقدم مساهمة متميزة في إثراء المكتبة الوطنية في ظرفية حرجة، بفضل أعماله التي سدّت فراغاً كبيراً في المنهجية والطرح.  
المنهج النقدي لساحلي لم يكن دعوة للقطيعة الكاملة مع الإنتاج الغربي، بل كان دعوة للتمحيص العلمي. فقد كان لا يتردّد عن الاستشهاد بالمؤرّخين المنصفين، مثل فرنند بروديل (Fernand Braudel). هذا يؤكّد أنّ جوهر أطروحته كان التحكيم النقدي وتبني المناهج العلمية الرصينة (كالمدرسة الحوليات التي يمثلها بروديل)، مقابل رفض السرديات المسيّسة والمخادعة (مثل تلك التي كتبها الجنرال هانوتو).  
الإرث المفتوح
 رغم ثراء إنتاجه الفكري، فإنّ ساحلي لم ينتج فيما نعلم في مجال الفلسفة بشكل مباشر، مفضّلاً تكريس طاقته كلها على جبهة التاريخ، هذا القرار يعكس أنّ النضال الوطني لم يكن مجرّد جزء من حياته، بل كان القوة الموجّهة الوحيدة لإنتاجه الفكري، ممّا جعله يركّز على الجبهة الأشد خطورة (التاريخ)، التي كانت مهدّدة بالإنكار.  
يبقى فكر ساحلي، وفقاً للتحليلات الأكاديمية، فكراً “خصباً غير مدروس” بشكل كافٍ. ويجب أن يكون موضع بحث جامعي مستقبلي يغوص في العديد من القضايا الفكرية والتاريخية التي تناولها. إنّ استحضار فكره اليوم يكتسب أهمية متزايدة، في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية، حيث يشكّل منهجه النقدي مرجعية أساسية لمواجهة التحديات الهوياتية الراهنة.  
وفي الختام، يمثل محمد الشريف ساحلي، بصفته دبلوماسياً وفيلسوفاً ومؤرّخاً، نموذجاً للمثقف العضوي الذي كرّس حياته لإنتاج سردية وطنية متماسكة ومحصّنة، مستخدماً أدوات العقل النقدي المنهجي لتفنيد محاولات طمس الذاكرة الجزائرية وإثبات وجودها التاريخي الثابت.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19893

العدد 19893

الأحد 05 أكتوير 2025
العدد 19892

العدد 19892

السبت 04 أكتوير 2025
العدد 19891

العدد 19891

الخميس 02 أكتوير 2025
العدد 19890

العدد 19890

الأربعاء 01 أكتوير 2025