رافقت المجاهدين وأرّخت للثورة التحريرية

الأغنية الثورية.. حناجر قهرت الاحتلال الفرنسي

علي عويش

 

يؤكد الكاتب والمخرج المسرحي دريس بن حديد، أن الأغنية الثورية التي عاصرت سنوات الثورة، كانت تشكّل سلاحاً آخر بيد المجاهدين من حيث دورها في شحذ الهمم وبث العزيمة والاصرار على انتزاع النصر. وأشار إلى أن هذا التأثير استمر لعقدين من الزمن أو ثلاث بعد الاستقلال، فكان لها التأثير نفسه في وجدان الجزائريين.


قال الفنان دريس بن حديد: “الأغنية الثورية إبّان فترة الاستعمار، كانت ناقلةً لواقع الحال بمآسيه وجراحه وكل تلك السنوات المليئة بالدموع والأحزان من جهة، ومن جهة أخرى كانت هنالك أغانٍ حماسية لها تأثير بالغ في نفوس الجزائريين”.
أشار بن حديد، إلى بروز مهنة “القوّال” التي لا تقل أهمية عن الأغنية الثورية أنداك، حيث كانت مهمته في ظاهر الأمر تلاوة الشعر في الأسواق وترديد بعض الحكم والأمثال، غير أنه كان كذلك لسان حال الثورة، يمجّد مآثرها ويشيد بالمجاهدين بعبارات مشفّرة وإيماءات يفهمها الجزائري، وتغيب عن ذكاء ودهاء المستعمر ومخبريه، فشكّلت الأسواق الشعبية وحلقات القوّال مصدراً لأخبار الثورة وهمزة وصل بين الثورة والشعب.
نوّه المخرج المسرحي، بالطريقة الذكية التي تمّ بها تداول الأغاني الثورية في فترة الاستعمار، حيث كانت تحتوي على شيفرات مميّزة تحثُّ على الصمود والوقوف في وجه الاحتلال، كان الفنان وصاحب الأغنية الثورية أنداك يمتاز بذكاء حاد رغم محدودية مستواه التعليمي، فاستطاع إسماع صوته للجزائريين في الوقت الذي كان فيه التضييق على الحريات في الجزائر في أوجّه.
ذكر بن حديد، أن واقع الظلم والطغيان الذي كان يعيشه الجزائريون في الفترة الممتدة ما بين نهاية الثورات الشعبية الى غاية 1954، كانت من أبرز أسباب ظهور الأغنية الثورية بالجزائر، والتي كانت تتمتّع بمكانة قوية في المجتمع الجزائري لأنها مستمدّة من الواقع بالأساس، فكانت صورة فنية مصغّرة لحقبة زمنية تتّصف بالوحشية والقمع.
أبرز محدثنا، مراحل تطور الأغنية الثورية في الجزائر، والتي مرّت بفترات متباينة، بدايةً بـ«فترة الحاجة للأغنية الثورية”، إبان فترة الاحتلال الفرنسي قبل 1954، مروراً بفترة الازدهار وقت الثورة التحريرية.
شهدت الأغنية الثورية بعد 1954، ما يمكن اعتباره عصراً ذهبياً، ازدهرت معه الأغاني الثورية وعرفت انتشاراً واسعاً بين المواطنين، حيث كانت لها المقدرة على الانتشار سريعاً وكان يتمّ تواترها بالسر.
الأغنية الثورية إبان وقت الاستعمار، كان لها الفضل في تجنيد الشباب وانخراطهم في صفوف المقاومة، كما أنها كانت وازعاً لجمع التبرعات والتموين والعتاد للمجاهدين.
ساهمت الأغنية الثورية في هذه الفترة في تنوير الرأي العام حول حقيقة ما يجري على أرض الواقع، ففي الوقت الذي سخّرت فيه فرنسا آلتها الاعلامية للنيل من المجاهدين، ومحاولة ضرب الثورة في مقتل من خلال نشر الدعاية المغرضة وإلصاق مختلف التهم في المجاهدين، نجحت الأغنية الثورية في تصويب رأي الجزائريين والتفافه حول ثورته.
كشف الكاتب بن حديد، عن جملة من العوامل التي أدّت إلى تلاشي بريق الأغنية الثورية في الجزائر وتراجع حضورها في الساحة الفنية، معدّداً أهم المراحل التي مرّت بها انطلاقاً من عصرها الذهبي، وصولاً الى مرحلة الضعف والتراجع.
امتد العصر الذهبي للأغنية الثورية إلى غاية مطلع العقد الثالث بعد الاستقلال، فالجيل الذي عايش الثورة وكان شاهداً على استقلال الجزائر، حافظ على زخم الأغنية الثورية، فكانت تشكّل له “تذكرة عودة” الى أمجاد وبطولات المجاهدين والاعتزاز بالمقاومة والاستقلال، فبقيت الأغنية الثورية محافظةً على مكانتها في وجدان الجزائريين كسجل فني يؤرخ لمرحلة من أهم مراحل تاريخ الجزائر.
وقال:« شهدت الأغنية الثورية بعد ذلك تراجعاً ملحوظاً من حيث قوة التأثير ومدى الانتشار، رغم بقاء بعض الأصوات والمؤلفين الذين برعوا في أدائها، غير أنها لم تحظى بتلك المكانة التي كانت تتميز بها مقارنةً بالأغاني الأخرى، “فذابت بشكل غير صحي مع الملاحم في المسرح والأوبريت وأعمال التلفزيون”.
أشار بن حديد، الى أن الأغنية الثورية تعيش اليوم مرحلة تراجع كبير نوعاً وكماً، فبالرغم من إنتاج ملاحم كبيرة وأعمال تلفزيونية ضخمة شارك فيها كبار الفنانين، إلا أنه طغى عليها البحث عن الريع، فكان المقابل المادي هدفاً لطاقم هذه الأعمال دون الرجوع إلى فحوى الأغنية ولحنها وقوة اللحن والكلمات، فتم التفريط في الأغاني الثورية في هذه الأعمال، فعرفت هذه الفترة إخراج أغانٍ ثورية لها ألحان عاطفية فارغة من المضمون والمعنى، فغابت عنها الكلمات القوية واللحن الحماسي.
أكد المخرج المسرحي، أن الأغنية الثورية في جوهرها أغنية تقبل التجديد والحداثة، بدليل وجود تجارب ونماذج ناجحة استطاعت الوصول الى قلوب الجزائريين وأحيت فيهم حماسة الثورة، داعياً الى ضرورة أن تكون الأغاني الثورية عظيمة على قدر الثورة التحريرية، “ولا نقبل بأقل من ذك”.

مغناطيس فعّال
وعرّج بن حديد، للحديث عن أسباب تراجع الأغنية الثورية بالجزائر، وأشار إلى أن الكلمة التي وصفها بأهم سلاح في الأغنية، تعتبر عنصراً هاماً في نجاحها وانتشارها على أوسع نطاق، وبالتالي، فإن ضعف الكلمات لا يخدم الأغنية، وأكد وجود شعراء كثيرون أبدعوا واستطاعوا ترويض الكلمة وتوظيفها في الأغنية الثورية، فكانت عامل نجاحها إبان فترة الاستعمار.
استطرد المتحدث، للتأكيد بأن النص الأدبي الجيد يجرُّ معه العناصر الأخرى، فالكلمة القوية بمثابة مغناطيس فعّال للّحن القوي الذي يعدّ ضُعفه سبباً آخر في تراجع الأغاني الثورية، كما أن الكلمة واللحن باستطاعتهما جلب الأصوات الصحيحة القادرة على تأدية الأغنية بكل ثقة وثبات.
تابع الكاتب، تشريح واقع الأغنية الثورية في الجزائر، وأبرز جملة من الأسباب التي أدّت إلى تراجعها، فإلى جانب غياب الكلمة، ضعف اللحن وعزوف الأصوات القوية، يبرز غياب الرعاية الرسمية للأغاني الثورية عامل آخر من عوامل الهدم والتراجع، حيث تشكّل الإرادة السياسية والمتابعة والحرص الدائمين حافزاً قوياً وسبباً رئيسياً لنجاح الأغنية الثورية بالجزائر.
قال بن حديد، أن الأغنية الثورية “كلٌ متكامل”، وبأنها توليفة ومجموعة عناصر متكاملة لا يجوز الاستغناء عن عنصر من عناصرها، بدءً بالإرادة السياسية، الكلمة، اللحن، ثم الصوت الذي يليق بقوة أداء الأغنية الثورية.
فعند توظيف الصوت القوي النابع من نية صادقة للفنان، متبوعاً باختيار جيد للكلمة وقوة اللحن مع توفر متابعة وحرص على أعلى مستوى، سنكون حينها أمام عمل فني رائع.
جدّد التأكيد على إمكانية عودة الأغنية الثورية لعصرها الذهبي، إذا ما تمّت بإشراف ومتابعة رسمية من المسؤولين، فاللحن موجود والكلمة القوية المزلزلة لا تزال موجودة، “فالجزائر لا زالت ولادة لقامات فنية سبقت عصرها، يكفي فقط إشراف رسمي على هذه الأعمال واختيار جيد للمغني واللحن والكلمة”.
أحد عناصر الحفاظ على الهوية الوطنية
من جهته، أكد الأستاذ والملحن أحمد خمبلوشي، أن للأغنية الثورية دورٌ مهم في صون الذاكرة الشعبية، فهي ناقل شفهي وموروث لا مادي يؤرخ لحقبة زمنية مهمة في تاريخ الجزائر الحديث، وأن مكانتها في وجدان المجتمع، لا ينبغي أن يكون مبرراً للعبث بكلماتها القوية أو لحنها الحماسي، فالملحن يبث الروح في الكلمات القوية ليعطينا أغنية حماسية ثورية.
أبرز خمبلوشي، أن الأغنية الثورية إبان الثورة التحريرية أحد عناصر الحفاظ على الهوية الوطنية وصونها من الضياع، وأداةً لدعوة الشعب للالتفاف على الثورة من خلال كلمات ثورية تبث في الشعب روح المواطنة وحب الوطن، وقد سايرت الأغنية الثورية كل مراحل تكوين الدولة الجزائرية، فكانت هي الحافز الذي يجعل الشعب متمسكاً بهويته ووطنيته ومبادئه.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024