دارت رحاهـا يوم 20 نوفمبر 1954

معركـة “مجاز الصفـا”.. هنـا ترسّخ قــرار الاستقلال..

بيتور علال جامعة الجزائر 2

تعتبر معركة مجاز الصفا من أهم المعارك والمواجهات التي خاضها جيش التحرير الوطني ضدّ قوات الاحتلال، وتكمن أهمية هذه المعركة كونها جاءت في وقت مبكّر من أيام الثورة المباركة، كما شهدت سقوط أحد قادة هذه الثورة شهيدا بعد مضيّ عشرين يوما من إطلاق رصاصتها الأولى، وهو الشهيد البطل باجي مختار، فكيف كانت أحداث هذه المعركة؟.

قبل الخوض في غمار هذه المعركة المصيرية من معارك جيش التحرير الوطني، يتوجّب علينا أن نضعها في السياق على نتائجها، حتى نصنّفها في مكانها اللائق في السجل العام الذي يمكّننا من فهم أسبابها وملابساتها، والوقوف التاريخي للشعب الجزائري.
وقعت هذه المعركة الخالدة في ناحية سوق اهراس التي تنتمي بدورها إلى منطقة الشمال القسنطيني، وهي المعروفة تاريخيا بالمنطقة الثانية في ترتيب المناطق الثورية التي أقرّها اجتماع 26 جوان 1954 في المدنية، المعروف باجتماع الـ22 الذي حضره باجي مختار بصفته ممثلا لناحية سوق اهراس..
كما كانت هذه الناحية في نشاط “اللجنة الثورية للوحدة والعمل” جزءا من منطقة الشمال القسنطيني وكلّف بقيادتها الشهيد باجي مختار، يقول أحد رفقاء الشهيد: في مارس 1954 التقت مجموعة من القادة المسؤولين في المنظمة السرية المحلة. والذين يوحّدهم الموقف من ضرورة الانتقال إلى العمل الثوري ضدّ العدو، وكان بينهم باجي مختار فتباحثت المجموعة في كيفية إعادة جمع شمل أعضائها الذين تشتتوا منذ سنة 1950. وأدّى هذا اللقاء إلى تكوين اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وكان باجي مختار أحد أعضائها ومسؤوليها النشطين. وقد كلّف من طرفها بمنطقة الحدود الجزائرية التونسية تحت قيادة ديدوش مراد.
كانت هذه الناحية أيضا في هياكل المنظمة الخاصة تحت قيادة باجي مختار، حيث كلّف من طرف الهيئات الحزبية بتشكيل أولى الأفواج شبه العسكرية للمنظمة الخاصة، وقد قام بهذه المهمة بتفان وانضباط، دون أن يتخلّى عن مهامه كعضو بالمجلس البلدي الذي انتخب فيه عضوا سنة 1947.

مجاز الصفا في السياق الثوري..

لم تكن هذه المعركة الأولى التي خاضها الفوج العسكري الأول لناحية سوق اهراس، إنّما وقعت بعد سلسلة من العمليات العسكرية. بينها عملية 07 نوفمبر 1954 التي استهدفت منجم الناضور للزنك جنوب شرق مدينة قالمة، كان الهدف من هذا الهجوم الاستيلاء على السلاح والمال، حيث يوجد بالمنجم مجموعة من الحراس المسلّحين، كما يسكن به مدير المنجم وبعض العاملين من الأوروبيين، وقد تم تجريد الحراس من أسلحتهم وإخراج المهندس من بيته دون مقاومة، بعد أن قطعت خطوط الهاتف والأسلاك الكهربائية غنم الثوار 8 بنادق و 700 خرطوشة و 450 ألف فرنك قديم كانت في خزينة المنجم “ أما في البيان الذي نشرته برقية قسنطينة، فقد استولى المجاهدون على 03 بنادق من نوع (موزیر) و03 مسدّسات و 6000 كلغ من المتفجرات و480 ألف فرنك قديم..
لقد شرح باجي مختار للفرنسيين أسباب تلك العملية. وأبلغهم بأنّ الثورة التحريرية قد اندلعت ثم سلّم المهندس وصلا مختوما بختم جبهة التحرير الوطني باستلام المبلغ.. فعل ذلك حتى لا يتهم المهندس بأنّه هو الذي أخذ المال واختلق حكاية الاعتداء.

عملية عين سينور..
هي محاولة لتخريب جسر في عين سينور يوم 11 نوفمبر 1954، هذا الخبر ذكره الشهود الذين اعتمد عليهم العياشي في تحقيقه المنجز حول «باجي مختار» في مجلة أول نوفمبر، لكن بتاريخ 02 نوفمبر، وهو التاريخ الذي لم تجد له أثرا في المراجع الأخرى، ولم تجده في برقية قسنطينة كما لم يشر إليه التقرير الشهري المفصّل للأمن الفرنسي الخاص بشهري - أكتوبر ونوفمبر..

كمين عين تحممين..
وصل إلى علم باجي مختار أنّ قطارا قادما من تونس باتجاه الجزائر محمّلا بالجنود مع خط السكة الحديدية الرابط بين تونس عنابة، وكان باجي قد تمركز مع الفوج في جبل بني صالح بعد عملية منجم الناضور.
قرر باجي أن ينصب كمينا للقطار للاستيلاء على الأسلحة، فاختار منعرج تحممين، لأنّه يسهّل عملية انحراف القطار، ويقع في سفح جبل بني صالح، لتكون عملية الانسحاب ناجحة فقام الفوج بتخريب السكة الحديدية في المكان المحدّد في انتظار القطار، ولكنه تأخر عن موعده فاستبدل بقطار محمل بالفوسفات فوقع في الكمين وتحطّمت عرباته..
ذكرت برقية قسنطينة ما نصّه: يوم الأربعاء صباحا حوالي الساعة الثانية وأربعين دقيقة، تعرّض القطار رقم: 62 54 المكون من قاطرتين و29 عربة المحمل بـ900 طن من الفوسفات في اتجاه عنابة إلى حادث خطير، حيث خرج عن السكة، تبعا لعملية تخريبية على بعد مئات الأمتار عن محطة عين تحممين على الخط الرابط بين سوق اهراس وعنابة، وبالضبط عند العمود رقم (74+600).
ثم ذكرت البرقية أنّ القطار رقم : 80-62، تأخّر عن موعده، فأعطيت الأوامر ليبقى في محطة عين عفرة. لينطلق مكانه قطار الفوسفات. حيث تعرّضت السكة الحديدية للتخريب أربعين دقيقة قبل مرور القطار.
هذه العملية سبقها تفجير للسكة الحديدية في عين سينور ليلة 11 إلى 12 نوفمبر على الساعة 23 و 25 دقيقة، لكنّها لم تحدث أضرارا في السكة. ويشير تقرير الدرك الفرقة سوق اهراس للملازم Boisson أنّ معلومات أفادت بوجود 15 فردا بالقرب من السكة أين وقع حادث التفجير.
إنّ عملية منجم الناضور كانت يوم 07 نوفمبر، ثم تلتها عملية عين سينور يوم 11 نوفمبر، ثم تلتها عملية عين تحممين ليلة 16 إلى 17 نوفمبر، لأنّ خط سير المجموعة بدأ بمنجم الناضور. ثم وصل إلى عين سينور، أين تم تجريب المتفجرات، حيث لم تعط نتيجة مرضية، فقرر باجي الاستيلاء على مفاتيح حلّ براغي السكة من محطة معين عفرة - وقد أشارت البرقية إلى ضياع هذه المفاتيح التي يكون قد استعملها الفوج في تخريب السكة. ويقوي هذا الطرح، أنّ عملية تخريب السكة في عين تحممين تم بحلّ البراغي التي تثبت السكة على طول 30 متر.

قرار التمشيط..
بعد عملية عين تحممين انسحب باجي والفوج الذي معه إلى دوار الرقائمة الكائن بمجاز الصفا في مزرعة بن شواف لصاحبها شايب دالي.
في يوم 18 نوفمبر 1954، تلقت السلطات الإدارية والأمنية معلومات عن الفوج المتواجد في الناحية، كان تسريب المعلومات الاستخباراتية سريعا، فقد وصلت للإدارة مساء يوم الخميس 18 نوفمبر التي أوصلتها بدورها للسلطات العسكرية - ممثلة في المقدم قائد المنطقة العسكرية في نفس اليوم، الذي أعطى الأوامر القائد قطاع سوق اهراس بالتحرك وفي يوم 19 نوفمبر صباحا، انعقد لقاء في سوق مجاز الصفا مع القايد وشيخ الجماعة والشانبيط والباشاغا، وأعطيت المعلومات الدقيقة عن المجموعة وأسماء أفرادها والأسلحة التي تملكها، وفي المساء على الساعة الرابعة عقد اجتماع موسّع لقيادة الوحدات التي تشارك في التمشيط بمقر قيادة القطاع العسكري بسوق اهراس، وتقرر القيام بالعملية صباح يوم 20 نوفمبر 1954.

وحدات القوات الاستعمارية المشاركة في المعركة
شارك في معركة مجاز الصفا ستّ وحدات من القوات الاستعمارية الرابضة في المنطقة الحدودية الشرقية والقطاع العسكري لسوق اهراس هي:
الوحدات الموجّهة للاسترجاع (Bouclage) : استعملت أربع وحدات للاسترجاع، وحدتان من الناحية الشمالية دورهما غلق المنفذ من محطة السكة الحديدية إلى غاية دار حراسة الغابة كاف الكورات على الطريق رقم (21) غير المعبد، ويتعلّق الأمر بالكتيبة الثانية من الفوج الأول للصبايحية وأربعة أفواج من السرب الخامس لوحدة الدرك المنتقلة.
وحدتان من الناحيتين الجنوبية والغربية، كلّفتا بغلق المنفذ من الجسر الواقع على منعرج عين تحممين إلى غاية محطة مجاز الصفا، ويتعلّق الأمر بفصيلة من الفوج 15 للقناصة السينغاليين، وفصيلة من فيلق المظليين.
واستعملت وحدثان للتمشيط.. الفيلق الأول من الفوج الأول القناصة المظليين من جهة السكة الحديدية وعلى يمين وادي ميزة.
مفرزتان من السرب الخامس لوحدة الدرك المنتقلة ينطلقان على يمين الطريق رقم 21، وعلى يسار وادي ميزة.

مسرح العمليات
وصلت القوات الاستعمارية إلى مسرح العمليات تباعا منذ الصباح الباكر، فقد خرجت المفرزتان إلى الطريق على الساعة الرابعة والنصف فجرا، وانطلق فيلق القناصة المظليين من محطة القطار على الساعة الخامسة والنصف. أما الوحدات الموجّهة للاسترجاع، فقد وجدت في أماكنها بداية من الساعة السادسة.
في يوم السبت 20 نوفمبر 1954 على الساعة الثامنة صباحا، شرعت القوات العسكرية الاستعمارية في عملية التمشيط، ولم تكن على دراية تامة بالموقع المحدّد الذي يتواجد فيه الثوار، ولم تلبث أن توصّلت إلى المزرعة التي اتخذها الثوار موقع رباط.
كان للمزرعة سياجان، سياج خارجي عبارة عن سور قصير وضع خصيصا لرسم حدود المشتى، وهو على بعد 100 متر من البيوت وسياج داخلي (سياح الشرف كما يسمى) يحمي المسكن الموجود وسط الداليا، هو عبارة عن سور متين من الحجارة، يتجاوز علوه قامة الإنسان، وفيه عدد من النوافذ والأبواب التي تؤدّي إلى الغرف الثمانية.
أطلق المجاهدون زخات من الرصاص على المجموعة المهاجمة التي اختبأ أفرادها خلف سور المزرعة الخارجي بمحاذاة الباب، ثم حاول أحد المظليين اقتحام المزرعة بتخطي السور الأول، فأصيب إصابة قاتلة سقط على إثرها، في حين استمرت المجموعة المتبقية في إطلاق النار على المجاهدين المتحصّنين خلف السور الداخلي في الجهة الشرقية من المزرعة، والتحقت القوات الأخرى في محاولة منظمة لاقتحام المزرعة على الساعة الواحدة ظهرا، لكنّ المحاولة باءت بالفشل، وسقط إثرها جنود آخرون.
بعد فشل الاقتحام الأول، أعطيت الأوامر بابتعاد القوات المهاجمة عن المزرعة، وبدأ الرمي بالمدافع الـ37 الموجودة على بعد 600 متر شمال شرق المزرعة، واستمر القصف بعشرات القذائف المدفعية، ثم حاول المهاجمون الاقتحام مرة أخرى على الساعة الثانية زوالا، لكنّ المحاولة باءت بالفشل، وسقط على إثرها أحد المظليين قتيلا، إلا أنّ مجموعة أخرى تمكّنت من الدخول إلى أحد البيوت أين وجد أحد المجاهدين شهيدا يحمل - بندقية إيطالية. لكنّ هذا الدخول لم يكن منه جدوى مع صمود المجاهدين وصبرهم على مواجهة جحافل الأعداء.كان باجي مختار يردّ على العدوّ ويوجّه جنوده. ويساعد بعضهم على استعمال بنادقهم القديمة، إلى أن بلغت الساعة الرابعة مساء، حيث أصابته عدّة رصاصات من رشاش العدوّ فاستشهد إثرها وهو يردّد: “رانا جيناك ضياف يا محمد (صلی الله عليه وسلم) ياك متنا في الجهادا”..
ابتعدت قوات العدو الفرنسي مرة أخرى لتترك المجال للمدفعية والقذائف المتفجّرة، لكنّ مقاومة المجاهدين لم تتوقّف، واتخذ قرار إضرام النار في المزرعة، فاشتعلت النيران في البيت الأول وخفت صوت الرصاص، ومع اشتعال البيت الثاني على الساعة الخامسة مساء انسحب المجاهدون، وتمكّنت قوات العدوّ من اقتحام المزرعة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024