تأسّست على مبادئ إنسانية سامية

هـذه عقيدة جيـش التّحريـر الوطني

عبد الفتاح بوفاتح جامعة الجزائر 2

 إنّ الدّارس لتاريخ ثورة التحرير الجزائرية، يكتشف أن جيش التحرير الوطني كان منظّما تنظيما محكما، ومن مظاهر هذا التنظيم ما خلّفه من وثائق وإصدارات دلّت على ذلك، ومنها: “كون نفسك يا مجاهد” و«القائد وحرب العصابات” و«رسالة ثائر” و«العمليات السوداء” و«من واقع الاستعلامات” و«واجبات وحقوق المجاهد”. وهذا الكتيب هو ما حاولنا البحث فيه عن الحقوق والواجبات، وما قابلها من ممنوعات وما يترتب عنها من عقوبات، وما وضع للمجتهدين والمجدين من أفراده من جوائز.

 اندلعت ثورة أول نوفمبر وأبانت على نهجها المسلح الذي تبناه جناحها العسكري، جيش التحرير الوطني الذي راح يتطور بتطورها، بل تنامت قوته، وأعطت للثورة ذلك الزخم الذي أجبر المستعمر على إعادة النظر في تقويم ما يجري حوله من تحولات، واقتنع أنّ الأمر يتعلق بمواجهة عسكرية حقيقية شاملة ومنظمة، وليس بتمرد في منطقة ما، أو ثورة جياع قام بها بعض الفقراء، لهذا ضاعف من عدّته وعتاده، وراح يبني الخطة تلو الخطة لإخماد هذه الثورة، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، لأن قدرات جيش التحرير كانت تتطور بسرعة كبيرة، امتزجت أسبابها بالتاريخ الكبير للجندي الجزائري، وبالدين الحنيف الذي يدعو إلى الفضيلة والحضارة، وكان للتضاريس كلمتها حيث شكّلت الغطاء والملاذ الآمن للمجاهدين، بل كانت بمثابة الثكنة الكبيرة التي لا تحدها حدود.
ومن شواهد القوة والتنظيم المحكم، أن الثورة في كل محطات المراجعة والتقويم، كانت تنظر في أمر الجيش وتصدر القوانين التي تجعله يقترب من أسباب الاحترافية على نحو مؤتمر الصومام الذي وضع الأسس الأولى للجيش، واجتهدت الولايات في تنظيم أمورها، خاصة العسكرية ومن بينها الولاية السادسة التي كانت لها إصدارات عديدة ومتنوعة في هذا الشأن، ومن ضمنها مدوّنة “واجبات وحقوق المجاهد”.
من إصدارات الولاية السّادسة
 إصدارات الولاية السادسة على غرار الولايات الأخرى، عديدة، وهذا منذ نشأتها، كانت توزع على المجاهدين على غرار”كون نفسك يا مجاهد” و«القائد وحرب العصابات “ و«رسالة ثائر” و«التعليمات السوداء” و«من واقع الاستعلامات” وغيرها.
هذه الإصدارات كانت تهدف إلى تكوين مجاهدي جيش التحرير الوطني الجزائري وإعدادهم أحسن إعداد، والنسخة التي درسناها، أصلية محررة بالولاية السادسة في الفاتح من ماي 1962، عليها ختم دائري لونه أخضر مكتوب على محيطه “قيادة الولاية السادسة”. “جيش التحرير الوطني الجزائري، وفي مركزه مكتوب أركان الحرب العامة “ يتوسط هذه العبارة شعار فيه نجمة وهلال ورسم غير واضح، وفوق الختم يوجد توقيع بالقلم الأزرق.
يحتوي الكتيب على سبع عشرة صفحة مكتوبة بالآلة الراقنة على جهة واحدة، وباللغة العربية، واجهته مكتوب في أعلاها “الجمهورية الجزائرية”، ليأتي بعد ذلك عبارة “جبهة وجيش التحرير الوطني الجزائري”، يليها على اليمين الولاية السادسة، وعلى اليسار أركان الحرب، وبخط عريض مصمم باليد عنوان الكتيب: “واجبات وحقوق المجاهد”.
أول ما جاء في الصفحتين الأولى والثانية، الديباجة التي تعرف بأن المجاهد هو الذي اختار حمل السلاح والانضمام إلى صفوف جيش التحرير الوطني الجزائري لدحر العدو، وتحقيق الاستقلال التام الذي سيوصل الشعب الجزائري لحكم نفسه بنفسه، وليس من حق أي جندي التخلي والانسحاب من هذه المسؤولية حتى تحقيق تلك الأهداف، وعليه الالتزام بواجباته وله حقوق يتمتع بها.
وهذا ما يفسر تلك الأسئلة التي كانت تقدم للراغب في الالتحاق، ومنها: هل يعلم أن التحاقه بالثورة سيؤدي به إلى الاستشهاد في سبيل الوطن والدين واللغة، وأنه سيموت بين عشية وضحاها؟ وإن كان متزوجا وله أولاد فلن يراهم أبدا، فالالتحاق بالجندية لم يكن إجباريا وكانت القيادة ترفض كل من كان المعيل الوحيد لوالديه.
الواجبــــات
 بعد الدّيباجة، جاء البند الأول انطلاقا من الصفحة الثانية، ليحدّد الواجبات، وقد قسمها إلى أربعة أنواع. الأول: تضمن واجبا واحدا مهما يجبر المجاهد أن يبقى في صفوف جيش التحرير الوطني طول مدة الكفاح التي تنتهي فقط لما تتحقق أهداف الشعب الجزائري، وعلى رأسها الاستقلال.
أما النوع الثاني، فقد تضمّن ثلاثة واجبات على الصفحة الثالثة، أولها الطاعة التي اعتبرها القوة الفعالة، ووسيلة تدعيم النظام وتنسيق الجهد والوقت، فالطاعة من أهم مميزات الحياة الاجتماعية العسكرية في الجيش، ويجب أن تكون تامة، وبدونها تسود الفوضى التي تعتبر جريمة في قاموس الجندية، والجندي يجب عليه أن يضحّي بفكرته لصالح طاعة مسؤوله، ويجب عليه تطبيق الأوامر بدون نقاش في كل الأعمال، كما أن الطاعة تعني النظام الذي يعتبر القوة الحيوية للجيش وعروته الوثقى.
ثاني الواجبات هو الانضواء تحت مظلة جبهة التحرير الوطني سياسيا والتخلي عن جميع الأحزاب، فنداء جيش التحرير الوطني الجزائري اعتبر أنّ الأحزاب السياسية لم تحقّق شيئا، وزادت مآسي الجزائريين التي ابتلوا بالاستعمار منذ 1830، ولهذا وجب استعمال وسائل كفاح أخرى، وجبهة التحرير الوطني تبنت هذا الكفاح، وهي تمثل جناحه السياسي.
ثالث الواجبات تمثل في ضرورة الالتزام بالسرية، لأنها أساس النجاح؛ لهذا نجد أنّ الأسرى من أفراد جيش التحرير الوطني الجزائري، يؤثرون الموت ولو تحت التعذيب على أن يقدموا معلومة واحدة للمحققين الفرنسيين، ولا شك أن شهادة الجنرال أوساريس في الشهيد العربي بن مهيدي، الذي قال عنه أنه رغم محاولاته لإقناعه بتقديم معلومات والعمل مع فرنسا، إلا أنه لم يخن أبدا رفقاءه، وآثر الموت على ذلك.
أما النوع الثالث من الواجبات، فنجده في الصفحتين الثالثة والرابعة، ويتألف من واجبين، أولهما ضرورة تنفيذ المجاهد للأوامر بدون انفعال أو تأخير، ولا شكوى إلا بعد التنفيذ، وهذا تكرار لمكانة الطاعة في الجندية، وذكر للحد الذي تصل إليه، فالطاعة التامة مطلوبة وتقتضي من الجندي تنفيذ ما يتلقاه من أوامر على الفور، وبدون تردد وعدم تنفيذه يضر باتحاد الفوج، ويعتبر خطرا على المجموعة، كما أن الطاعة من الروابط والواجبات المقدّسة التي تركها الشهداء، أما ثانيهما فيتمثل في ضرورة التعامل مع كل المواطنين بالحسنى، كون المواطن هو المدافع الأول عن كرامتهم، وهذه قيمة إنسانية وأخلاقية سامية، تبين بحق السر في قوة العقيدة العسكرية لجيش التحرير الوطني الجزائري، وهذا ما يفسّر نشوء علاقة متينة بين الجيش والشعب خلقت تكاملا وثيقا بينهما، فجيش التحرير الوطني الجزائري، وضع في أولوياته العناية بالشعب والتكفل به اجتماعيا وصحيا، ويظهر ذلك من مساهمة المجاهدين في مساعدة الفلاحين في حرث الأرض وعلاج المرضى من أبناء الشعب.
تطرّق الإصدار في الصفحات الرابعة والخامسة والسادسة إلى النوع الرابع من الواجبات، وتضمّن إحدى عشرة نقطة، تتمثل الأولى في وجوب أداء الشعائر الدينية الممكنة خاصة الصلاة التي لا عذر في تركها، والالتزام بالأخلاق الكريمة، وتحسين السيرة، لأنّ ذلك يقوّي هيبة الجيش.
إنّ هذا الاهتمام بأهم عنصر في جيش التحرير الوطني الجزائري ألا وهو العنصر البشري، يدل عن أصالة هذا الجيش وعمق جذوره في التاريخ الجزائري المجيد، ومن أخلاق الجندي الضرورية أن يتحلى بالصبر الذي يؤدي إلى الصمود وتحمل الظروف الصعبة التي قد يقع فيها، ومنها كذلك التسامح والعفو والصفح، وهذه الخصال لا تكون إلا إذا تمتع الفرد بقوة العزيمة وعظيم الصبر.
وقد شهدت الثورة في مراحلها العديدة صورا من الصفح حتى على العدو، فبمناسبة شهر رمضان سنة 1956، قامت القيادة العليا لجيش التحرير الوطني الجزائري بإطلاق سراح أسير، وبعثت معه برسالة إلى القيادة العسكرية الفرنسية جاء فيها: “ليكن في علمكم أنّنا مسلمون وأنّنا نؤمن بالله لا إله غيره، وبأن الإسلام هو الذي علّمنا الرحمة والسخاء...وأنّنا نبعث إليكم مع الأسير الذي أطلقنا سبيله هذه الرسالة ونطلب منكم - أيّها الجنود - أن تحترموا التعاليم الأخلاقية التي يعمل بها الجنود في أنحاء العالم كله”.
ومن صور الصفح الممتزج بالشهامة والعفة، ما حدث بالقرب من مدينة باتنة في أوت 1959 حينما نصب جيش التحرير الوطني الجزائري كمينا للقوات الفرنسية، وبعد نهاية المعركة تم القبض على أربع فتيات فرنسيات تقدّمت إحداهن وهي ترتعش خوفا وطلبت الرحمة قائلة: “لا تقتلونا..نحن نسوة..”، فكان جواب أحد المجاهدين: “لا عليكن..نحن ثرنا لنحارب الرجال لا النساء”.
ولا يمكن أن نتجاهل خلقا آخر تميز به أفراد جيش التحرير الوطني..الشجاعة والإقدام، ما عوض عدم التوازن في ميزان القوى من العتاد والعدة، إن القوة الأساسية التي يعتمد عليها المجاهدون، هي قوة الروح وقوة العزيمة، وقوة الإيمان، وتلك قوة ما غلبتها في العالم قوة.
أما الثانية والثالثة والخامسة والسادسة فنجد فيها واجب أداء التحية العسكرية للعلم وللمسؤول، صباحا ومساء وفي كل لقاء، وحفظ النشيد الوطني، وواجب تعلم فك السلاح بنوعيه الخفيف والثقيل، والمحافظة عليهما مع التدريب العسكري والرماية، وهذا ما يؤهّل المجاهدين لخوض الصعاب..هذا الإعداد هو ما جعلهم يمتلكون قدرة على السير ليلا في أرض وعرة المسالك لمدة طويلة، وتحمل التعب وقلة النوم والجوع والجراح التي يتعرضون لها، وتحقيق انتصارات مع هذا كله.
في الرابعة والخامسة، نجد واجب تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم على الأقل خمس عشرة سورة، وهذا ما يعزّز ويكمل الواجبات المذكورة سلفا لاكتمال شخصية الجندي، ولم ينس الإصدار حتى أبسط التفاصيل، إذ نجد أنه من ضمن الواجبات التي ذكرتها النقاط السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة، تحمّل المسؤولية في المحافظة على السلاح والصحة والحفاظ على النظافة وتجنب التبذير، إضافة إلى امتلاك أدوات الحلاقة والخياطة والاعتناء باللباس وحلاقة اللحية وشعر الرأس وحمل بطاقة التعريف.
في العاشرة والحادية عشرة، نجد أنه من الواجب الحذر من العدو، فاستعلاماته لا تتوقف عن الترصد، كما أنه يجب إعلام المسؤول قبل الإقدام على أي مهمة ولا عذر بعد ذلك، فنجد في نداء جيش التحرير الوطني الموجه لكل الشعب الجزائري، وخاصة البند رقم 3: دعوة إلى اليقظة وعدم الانسياق وراء البيانات الكاذبة، لأنّ العدو يتربص ويراقب، ويختتم النداء بالتحذير من العواقب الوخيمة لإفشاء الأسرار.
الحقـــــوق
أمّا البند الثاني فتكلم عن الحقوق، وهي لم تقسم إلى أنواع مثلما كانت عليه الحال في الواجبات، بل ذكرت في نقاط عددها إحدى عشرة نقطة، نفس عدد الواجبات، واشتملت عليها الصفحات السادسة والسابعة والثامنة. وأول هذه الحقوق، الحق في الأكل واللباس والمساواة أمام القانون، واحترام الحقوق الإنسانية، كما جعل للمريض امتيازات خاصة، وهذا ما يتماشى مع ما أفرزه مؤتمر الصومام عندما وضع نظاما ماليا تضمّن رواتب للمجاهدين، وأعطى لكل مجاهد الحق في منحة عائلية، كما لم ينس عائلات الشهداء من المجاهدين والفدائيين وأعطى لهم الحق في أن تصرف لهم إعانات مثل المجاهدين.
أما النقطة الثالثة فتحدّد منحة كل فرد من عائلة المجاهد، أو الشهيد أو ممّن هم تحت كفالته وقدّرت بـ 1500 فرنك شهريا، وحتى السكن خصّصت له منحة، وقدّرت بـ 5000 فرنك كأجرة المنزل في المدينة، و3000 فرنك كأجرة المنزل في البادية، لتتطرق النقطة الرابعة إلى الراتب الشهري الذي قدّرته بـ 1000 فرنك شهريا، نلاحظ بعض الفروق الطفيفة بالمقارنة مع الأجور والمنح العائلية التي حددها مؤتمر الصومام، فأجرة العريف مثلا زيدت بـ1000 فرنك.
بالنسبة للنّقاط الخامسة والسادسة والسابعة، نجد أنّها تبين اتساع عناية جيش التحرير الوطني بالجانب الاجتماعي لأفراده بمنحهم حق زيارة أهلهم وفق شروط تحدّدت في ضرورة قضاء سنة في الجيش، وحصوله على رخصة من المنطقة والولاية التي قد تلغى في حالة الطوارئ، كما حدّد للزائر منحة مالية حددت بـ 5000 فرنك مع حمل مسدس، يحق لكل فرد إرسال بريد مع شرط مراقبته، وفي حالة الطوارئ يلغى كذلك، كما يحق له الاستفادة من العلاج الطبي في حالة المرض، أما النقطة التاسعة ففسحت المجال لإبداء الرأي وتقديم المقترحات.
طبعا هذا لا يفهم على أنّه تناقض مع واجب الطاعة، بل هو فتح المجال الإبداع، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالمسير الذي قد تسير عليه الكتائب أو الفيالق، فأهل المنطقة من الجنود، أعرف الناس بدروبها ومسالكها الآمنة.
تطرّقت النقطة العاشرة إلى الحق في التقاعد للذي تجاوز خمس وأربعين سنة، وشهد له طبيب الجيش بالعجز، أو الإصابة، تمنح له منحة تقاعد شهرية قدرت بعشرة آلاف فرنك بالإضافة إلى المنح العائلية، وآخر الحقوق تمثل في الحق للترقية بعد إظهار الكفاءة والإخلاص، لقد منح الجندي حقوقا كشفت عن مساعي القيادة العليا لجيش التحرير الوطني الجزائري لإرساء نظم أسهمت في تنظيم وتطوير الجهاز العسكري للثورة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024