قمع وقتل وشـرّد..

هكـذا حاول الاستعمـار إفشال إضـراب الثمانيـة أيـام

صلاح الدين زنو جامعة حسيبة بن بوعلي - الشلف

 أول حدث بارز يمكن الإشارة إليه في الظروف الداخلية السابقة لإضراب الثمانية أيام هو انعقاد مؤتمر الصومام 20 أوت سنة 1956م. كون هذا المؤتمر له فضل كبير في تنظيم الثورة الجزائرية وهيكلتها من خلال القرارات المنبثقة عنه، ومن جراء هذه القرارات تم الإعلان على شيئين بارزين مثلا حدثا كبيرا في تاريخ الثورة الجزائرية ألا وهما “معركة الجزائر”، و«إضراب الثمانية أيام”، ومن بين الظروف الداخلية التي أعقبها الإضراب، هو تأسيس لجنة التنسيق والتنفيذ CCE في 20 من شهر أوت سنة 1956م، وتكمن أهمية هذه اللجنة : أنها هي التي كانت تشرف على الإضراب، وأن من دعا إليه شخصيا هو العربي بلمهيدي.

سياسة القمع الفرنسية تعد ظرفا من ظروف خاصة بعد تعين “في مولييه” على الرأس الحكومة الفرنسية اليسارية، وتزكيته من طرف المجلس الوطني الفرنسي وذلك بمنحه كامل الصلاحيات في الجزائر، كما كان حدث بارز آخر يفرض وجوده ضمن الظروف التي سبقت إضراب الثمانية أيام، ألا وهو إضراب الفاتح من نوفمبر سنة 1956م، هذا الإضراب قام به الإتحاد العام للتجار الجزائريين تضامنا مع جبهة التحرير الوطني، كما شارك فيه الشعب الجزائري بشتى أطيافه أيضا، وتزامن الإضراب مع الذكرى الثانية لاندلاع الثورة المجيدة.. إلى جانب التضامن مع FLN كان الإتحاد العام للتجار الجزائريين يسعى إلى فكّ الضغوطات التي كان يعاني منها الفلاحون الجزائريون من طرف السلطات الاستعمارية.
تعد معركة الجزائر 1956-1957م كظرف داخلي آخر يمكن أن ندرجه ضمن قائمة الظروف التي كانت قبيل انطلاق الإضراب، هذه المعركة تعد هي الأخرى محطة بارزة في تاريخ الثورة.. ويوجد خلاف حول من أعلن عنها، فهناك من يقول عبان رمضان، وهناك من يرجعها إلى العربي بلمهدي، لكن ما يهم هو أنّها قامت في المدينة من أجل فكّ الضغط على الأرياف.

 الظروف الخارجية:
إنّ أهم ظرف خارجي نتطرق إليه هو الحادثة التاريخية الفريدة من نوعها، وهي حادثة اختطاف الطائرة التي كانت تقل الزعماء الخمسة، كانت هذه الحادثة في يوم 22 أكتوبر من سنة 1956م حيث قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية بتنفيذ عملية قرصنة جوية من أجل إحباط مخطط جبهة التحرير الوطني في الخارج.
يعد العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر من سنة 1956م ظرفا خارجيا آخر لما قبيل الإضراب: وذلك لمشاركة فرنسا في هذا العدوان على البلد الشقيق مصر بحجة دعمه للثورة الجزائرية.
ومن بين الظروف الخارجية التي كانت سابقة لإضراب الثمانية أيام، نجد الدعم الذي لعبته الكتلة الأفرو-آسيوية في تدويل القضية الجزائرية وذلك من خلال توسيع دائرة الدعاية للقضية الجزائرية من النطاق العربي إلى النطاق الدولي.

مجريات وسير أحداث الإضراب
بعد تسطير أهداف الإضراب والإعلام به لدى شرائح الشعب وبالخصوص التجار والعمال، تم تحديد تاريخ بدايته على أن يكون في يوم 28 جانفي إلى غاية 04 فيفري تزامنا وعقد الدورة الاستثنائية للجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة، حتى يكون رسالة يدلي بها الشعب الجزائري من أجل قضيته الوطنية، ففي اليوم الأول من الإضراب، خيم هدوء كبير على المدن الكبرى، فالشوارع كانت شاغرة والمحلات مغلقة، وأصبحت المدن خاوية على عروشها، رغم القمع الفرنسي خاصة من قبل فرقة المظليين، إلا أنّ الأوضاع بقيت على حالها إلى حين انقضاء مدة الإضراب.
نورد هنا بعض الإحصائيات التي عرفتها العاصمة، وما خلفته من شلل جراء إضراب الثمانية أيام:
تضررت المصالح الاستشفائية بعد استجابة 95% من الموظفين الجزائريين لنداء الإضراب.
المحلات التجارية الجزائرية كلها مغلقة بنسبة 100%.
المقاهي العربية مغلقة بنسبة 100%.
مشاغل ومخازن الحامة مغلقة بنسبة 100%.
المصالح الإدارية للسكة الحديدية مغلقة بنسبة 100%.
مراكز البريد والموصلات، مغلقة بنسبة 100%.
أما على المستوى الخارجي، فقد لقي الإضراب تأييدا منقطع النظير، مثلما حدث في تونس حين أعلنت في يوم 30 جانفي 1957م إضرابا عاما دعت إليه التنظيمات العامة دام إلى غاية منتصف النهار، تضامنا مع جبهة التحرير والشعب الجزائري، كما نقلت صحيفة “الصباح التونسية” حيثيات هذا الإضراب من أجل دعم القضية الجزائرية.
أما في فرنسا، فقد احتضن المهاجرون الإضراب منذ اليوم الأول من انطلاقه، وكان ناجحا هو الآخر لأبعد الحدود، واستطاع أن يبلغ الرسالة، وهذا ما جعل شريحة من المواطنين الفرنسيين يتعاطفون مع الثورة الجزائرية، ولقد تزامن هذا الإضراب وبعض الهجمات العسكرية قادها جيش التحرير الوطني على بعض المواقع الخاضعة للسلطات الفرنسية، واستطاع جيش التحرير أن يكسب الغنائم من ذلك، علما أنّ الإضراب، كان يهدف بعد تحقيق التلاحم بين الشعب والثورة، إلى فكّ الضغط على الأرياف، ولذلك قرر أن يكون في المدن، ومن جهة أخرى فإنّ المدن بها عدد كبير من السكان ومراكز الصحافة ووكالات الأنباء ما يسمح بتدويل القضية تماما مثلما هي حال العاصمة.

السياسة الاستعمارية ضدّ الإضراب:
إنّ تاريخ الجزائر خلال الفترة الاستعمارية كان حافلا بالأحداث، خاصة في شكل المقاومات التي وقف بها الشعب الجزائري نداً لسياسة التسلط الاستعماري، فقد حاول الشعب الجزائري الأعزل منذ بدايات الاحتلال الوقوف ضدّ سياسات فرنسا بما أوتي من قوة، فبدأ النضال عن طريق المقاومات الرسمية والشعبية والسياسية خلال القرن 19م، لكنه لقي ردا عنيفا من فرنسا وذلك بإصدار مجموعة من القوانين الجائرة في حق هذا الشعب، ناهيك عن المصادرة والإبادة والتعذيب.
أما في مطلع القرن 20م، أراد الجزائريون تجربة شيء آخر، وهو الكفاح السياسي من خلال الأحزاب والتيارات، لكن النضال اختتم بمجازر 08 ماي 1945م الرهيبة.
أما في مرحلة انطلاق الثورة وما أعقبها من حوادث كهجوم الشمال القسنطيني 1955م ومؤتمر الصومام 1956م ومعركة الجزائر 1956م كلّها أيضا لاقت ردا عنيفا من طرف الاستعمار الفرنسي، وبقيت العجلة تدور إلى غاية الاستقلال.
وفي الحديث عن رد فعل السلطات الفرنسية وموقفها من إضراب الثمانية أيام نقول إنّ رد فعلها كان منذ بدايات هذا الإضراب، ففي نهاية اليوم الثاني من الإضراب، يعني يوم 29 جانفي قام حوالي 10 آلاف جندي فرنسي من فرقة المظليين على رأسهم الجنرال جاك ماسو، بتكسير أبواب المحلات التجارية وإتلاف ما فيها من السلع، كما قاموا بعملية مداهنات مع التجار وإرغامهم على العمل وبالقوة، وأتبعت هذه السياسة بسلسلة من الاعتقالات العشوائية شملت كلّ أطياف وشرائح المجتمع الجزائري من الرجال والنساء.
قامت الفرق العسكرية الفرنسية أيضا بعمليات قمع وتعذيب واسعة في حقّ الشعب الجزائري من جرائها أصبحت المدن تعيش حربا حقيقية، كما ألقت السلطات الفرنسية القبض على نفر كبير من الجزائريين كان جلّهم ينتمون إلى الحزب الشيوعي الذي سيتم حلّه بعد ذلك.
وكان من جملة السياسات الفرنسية ضدّ الإضراب أيضا ما سيأتي ذكره من خلال النقاط التالية:
قامت السلطات الفرنسية من أجل تضليل المجتمع الجزائري وإبطال هذا الإضراب بإنشاء إذاعة سرية سميت “بصوت الجزائر الحرة المجاهدة” محاكاة لإذاعة الثورة “صوت الجزائر الحرة المكافحة” (سياسة التضليل).
إلى جانب هذا، كانت فرنسا ترسل إنذارات للشعب المضرب من أجل أن لا يستجيب لقرارات الجبهة، وإن تمادى في ذلك سيتعرض إلى أقصى العقوبات من طرف فرنسا، على غرار ما صرحت به فرنسا في وهران وقسنطينة (سياسة التخويف والتهديد).
قام كلّ من الجنرال ماسو والمصالح الدعائية بتوزيع مناشير مزيفة تحمل اسم جبهة التحرير الوطني وصور للعلم الوطني من أجل تشويه سمعة الإضراب.
سياسة القمع والتعذيب التي مارستها فرنسا في صفوف الجزائريين استمرت طيلة فترة الإضراب، كما أجبر التجار والعمال الموظفون الإداريون منهم خاصة إلى الخروج للعمل، ومنهم عدد كبير أهينوا وذلك بقيامهم بإفراغ القمامات، كما تم أيضا فصل عدد كبير منهم بعد ذلك عن العمل وتعويضهم بعمال فرنسيين.
قامت السلطة الاستعمارية الفرنسية، كرد فعل على الإضراب، بعمليات تمشيط واستنطاق بالعاصمة، وقامت بمحاصرة أحيائها مثل حي القصبة الذي يعد مهد ومركز الإضراب، وتم إيقاف منذ بدايات الإضراب 190 جزائري، و1660 عملية تفتيش 85 حالة منها في بن عكنون لوحدها.
ولوصف الوضع الكارثي للسياسة الفرنسية الغاشمة أكثر، نستدل بما جاء في صحيفة “المقاوم الجزائرية”، حيث وصفت الوضع المتأزم في الجزائر بقولها: “تقوم السلطات بأعمال الانتقام وتصطاد المسلمين كالأرانب عند منعرجات الشوارع.. بينما المدينة مملوءة بسيارات جيب.. إننا نشاهد حربا حقيقية على الرصيف، وقد قضى الجنود وجه النهار في اعتقال المسلمين وإرغامهم على الوقوف رافعي الأيدي فوق رؤوسهم ووجوههم إلى الجدران، وتركهم ساعات طويلة على تلك الحالة”.
ومن بين الإهانات التي تعرّض لها الشعب الجزائري لما قام السجناء الجزائريون بإضراب عن الطعام، قامت السلطات الاستعمارية بحملهم إلى المواني وأجبرتهم بالقوّة على تفريغ حمولة البواخر وبسرعة، أما غير السجناء فقد أجبروا على القيام بأعمال حقيرة كان من بينها إزالة شعارات الإضراب المكتوبة على الجدران باستعمال فراشي الأسنان.
اعتبر الوزير الفرنسي بالجزائر، ربير لاكوست، أنّ الإضراب يعد حركة تمردية ولذلك توعد بقطع رؤوس كلّ المنظمات التجارية والاقتصادية الجزائرية والتفنن بتعذيبهم واضطهادهم، وحتى نفيم إلى خارج البلاد.
قامت السلطات الفرنسية بكشف مخطط لجنة التنسيق والتنفيذ واستطاعت أن تمسك بأحد قيادييها وهو العربي بلمهيدي الذي مورست عليه أبشع أنواع التعذيب من قبل العقيدين بيجار وبول أوساريس، إلى أن استشهد، وكاد باقي قيادات CCE أن يقعوا في قبضة الجيش الفرنسي لولا تدخل الفرنسيين المتعاطفين مع الثورة الذين سهلوا لهم عملية الخروج من الجزائر.
وعندما نذكر ردود الفعل الفرنسية على الإضراب من خلال الصحافة، نجد أنّ جلّ الصحف الفرنسية مارست سياسة التضليل من أجل إفشال الإضراب والمشروع الذي يصبو إلى تحقيقه، فهذه صحيفة “صدى الجزائر “ في وصفها عن أحداث اليوم الثالث من الإضراب تقول : “إنّ الأوضاع في الجزائر عادية والتحاق عدد كبير من العمال بمناصبهم وعدم استجابتهم للإضراب” أما “صحيفة الجزائر”، فقد صرحت قائلة: “إنّ أولى علامات التعب بدأت تظهر في الحركة الإضرابية مؤكّدة أنّ نسبة الاستئناف بدأت ترتفع مقارنة بالأيام السابقة”
كما قالت الصحيفة عن أحداث اليوم الرابع: “إنّ الإضراب في منحنى تنازلي وإنّ جبهة التحرير الوطني مهزومة في المدن”.
 وحين نجمل أساليب القمع والتعذيب التي انتهجتها فرنسا ضدّ إضراب الثمانية أيام يمكن أن نختصرها في النقاط التالية:
قامت فرنسا باستخدام مكبرات الصوت تطلب من خلالها التجار بالتوجّه إلى دكاكينهم.
قامت فرنسا أيضا بعمليات اقتحام ومداهمات للبيوت من أجل إخراج التجار ونهب الدكاكين والمحلات التجارية انتقاما من أصحابها الذين رضخوا إلى الإضراب.
نقل العمال بالقوّة إلى دكاكينهم من أجل إحباط الإضراب.
عمليات التحقير والاعتقال والتعذيب التي تعرّض لها الشعب الجزائري من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية: كرمي القمامات وإفراغ حمولة البواخر وحذف شعارات الإضراب بفراشي الأسنان.

ختاما

ومن خلال ما سبق، يمكننا حوصلة النتائج كالآتي: رغم ردود الفعل والسياسات والأساليب التي لجأ إليها المستعمر الفرنسي من أجل ردع المضربين وإفشال الإضراب إلا أنّ الشعب الجزائري وقف بالمرصاد، بل إنّ الصحف الفرنسية نفسها تقر بأنّ إضراب 28 جانفي 04 فيفري 1957م كان ناجحا ولأبعد الحدود حسب ما صرح به يوسف بن خده.
هذا الإضراب زاد من تلاحم الشعب بثورته، وخفّف الضغط على الأرياف.
زاد من كسب وتعاطف الدول مع القضية الجزائرية، ومن تعاطف شريحة من الفرنسيين مع الثورة الجزائرية، كما زاد الإضراب أيضا من تعاطف الدول العربية وفي آسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية مع القضية الوطنية.
- أهم شيء حقّقه إضراب الثمانية أيام هو إدراج القضية الجزائرية في الدورة الاستثنائية للجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة وهذا مكسب عظيم تحقّق لثورة التحرير الوطني.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024