سياسة استعمارية همجية

هـذه خلفيات المشـروع النووي الفرنسي في الجزائـر..

د عبد المجيد بوجلة جامعة تلمسان

ازدادت الاهتمامات الفرنسية بالصحراء على مستوى الدوائر الرسمية السياسية والهيئات العسكرية بإنشاء منظمة المناطق الصحراوية المشتركة O.C.R.S ثم وزارة الصحراء سنة 1957، ورفعت وزارة المالية الفرنسية إلى الجمعية الوطنية الفرنسية توصية لإفراد ميزانية سنوية خاصة بالمنظمة بلغت في العام 1958 ما يقارب 56 مليون فرنك، ثم قفزت عام 1959 إلى 208 مليون فرنك لترتفع سنة 1960 إلى 2855. بينما خصّ البرلمان الفرنسي ميزانية الصحراء باعتماد مالي قيمته 10487 مليون فرنك، ووصل بعد سنة فقط إلى 24655 مليون فرنك وإلى جانب هذا الغلاف المالي، أضاف “الصندوق الصحراوي للتضامن” و«مكتب الاستثمار في إفريقيا” بما يزيد عن 34 مليون فرنك ما بين 1958 و.1960.

كما تنبّهت الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى الخطر الذي يمكن أن يتهدّد مصالحها في الصحراء على نية تنفيذ مشروع سلخها عن بقية الجزائر، حيث انشغلت بنسج المخطّطات، فمثلا على الحدود الغربية كانت سياسة التطويق والخنق من وراء السدّ المكهرب من مرسى بن مهيدي إلى عين الصفراء، وأضافت إليها قيادات الجيش الفرنسي ما ارتبط بمخطط شال، كما استحدثت في منطقة بشار Colomb Bechar حاميات وثكنات عسكرية لمنع الدخول والتنقل إلى التراب الجزائري. ولفرض الهيمنة على الأقاليم الواسعة من الصحراء بالنظر إلى قساوة مناخها ووعورة المسالك، وأنشئت وحدات عسكرية للخيالة والمهاري لرصد حركة السكان البدو الرحل وتسجيل أخبارهم وتفاصيل عن كلّ ما يتصل بحياتهم.
كما أنشئت فرق عسكرية من البدو للاستفادة من درايتهم بالصحراء وخبرتهم في شؤونها بعد أن تم فتح مكاتب خاصة بالتجنيد لدعم فرق الأمن والجيش الاستعمارية، إلى جانب ذلك تعزّز سلك المظليين والطائرات العمودية (المروحيات) بطائرات خاصة للإمداد بالمؤن والعتاد والسلاح والإسعاف والاتصال، وكذلك الشأن بالنسبة للعربات العسكرية البرية التي تتلاءم وبيئة الصحراء.
وأحدث اكتشاف النفط واستغلاله تغيرا جذريا في الإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية، وقد قال الجنرال دوغول في ذلك: “يجب أن نقول إنّ استغلال البترول واستخراجه سوف يظلّ من اختصاص فرنسا، وأنّ للغرب مصالح فيه.. سنحافظ عليه ولن ندعه للغير ولو أدّى بنا ذلك إلى متاعب كثيرة”..
الصحراء الجزائرية مجال للمشروع النووي
لم تخف فرنسا مصالحها الحيوية في الصحراء الممتدة إلى القارة الإفريقية، حيث نشرت المجلة العسكرية في ربيع سنة 1959... “تجد فرنسا نفسها في وضع ممتاز من حيث الحاجة إلى الميادين الواسعة للحرب الحديثة بالنظر إلى شساعة أقاليم الصحراء وقرب اتصالها النسبي بالوطن الأمّ.. إنّ هذه المكانة المميزة كفيلة بأن تحدث تأثيرا قويا في أساليب دفاعنا الوطني نظرا لأهمية الصواريخ من جهة، وإلى مدى ارتباط هذا الموضوع بمسألة التجارب”..
وأكّد شارل دوغول هذه الأهمية الاستراتيجية هذه المرة من خلال مشروع اتخاذ الصحراء فضاء جغرافيا للتفجيرات النووية المرتقبة: “لكي نحافظ على أوضاع آبار البترول الذي استخرجناه، وقواعد تجارب قنابلنا وصواريخنا، فبوسعنا أن نبقى في الصحراء مهما حصل، ولو اقتضى الأمر أن نعلن استقلال هذا الفراغ الشاسع. ولكي يبقى جيشنا في الجزائر ما دام وجوده فيها مفيدا للسيطرة على إقليمها وحدودها، فليس علينا سوى أن نقرّر ذلك”..
انتهت الاستطلاعات العامة والدراسات الاستراتيجية التي عنيت بالصحراء إلى التصويب على رقان المجال الجغرافي المحدّد الإجراء وتنفيذ مشروع التجربة النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وأن تكون قاعدة التفجيرات منطقة الحمودية غير البعيدة عن رقان، ومنطقة تانزروفت القريبة من الحمودية نقطة الصفر، أيّ النقطة التي يطلق منها التفجير. وكان المسؤول المباشر على المشروع النووي الفرنسي في الصحراء الجزائرية الجنرال شارل أيري Général Charles Ailleret، صاحب كتابين هامين لما يقدمانه من شهادة حية عن الموضوع الأول بعنوان: L’aventure Atomique Française, Souvenirs et réflexions والثاني: Général du contingent en Algérie، وعند معاينته منطقة تانزروفت لأول مرة، صرح:
« من المؤكّد أنّ هذه المنطقة تشكّل الفضاء الأنسب والأمثل لتنفيذ التفجيرات النووية دون أن نعرّض جيراننا لأيّة مخاطر، فالمنطقة تكاد تفتقر تماما لعنصر الحياة”..
وإنّ القراءة الموضوعية لهذا الموقف الذي أبداه شارل أيري بشأن المنطقة كمجال لإنجاز التفجير، يلغي - على الأقل من الناحية الأخلاقية - العنصر البشري، بيد أنّ منطقة رقان حينها كانت تضم نحو أربعين ألف نسمة من أبناء الجزائر، وهي إشارة تؤكّدها مصالح الإعلام والاتصال على مستوى وزارة الدفاع، ثم إنّ الجنرال كان على اطّلاع ومتابعة كبيرين بتفاصيل المشروع الذي لم يكن يتجاهل قوّة مفعول التفجيرات على الجزائر.. الأرض والشعب، على مدى الأجيال والطبيعة، وكذا الأضرار الجسيمة التي سوف تحدثها الإشعاعات بفعل سرعة تناثرها جرّاء الزوابع والعواصف الرملية. وقد قدر معدل المسافة التي قد تصل إليها بمئات الكيلومترات.

 المركز الصحراوي للتجارب العسكرية برقان
على ضوء التوصية التي أفضت إليها وزارة الدفاع 30- الفرنسية، أنشئ عام 1957 المركز الصحراوي للتجارب العسكرية : - Le centre Saharien d’Expérimentation Militaire C.S.E.M كمجال لإجراء التجارب في الصحراء، وكلفت الكتيبة الثانية منذ نوفمبر 1957 وإلى غاية شهر أكتوبر 1958 بتسيير الأشغال والإشراف على إنجازها في المنطقة المسماة بالهضبة في الضواحي القريبة من رقان، وفي ذلك يقول شاهد عيان: “لقد شاهدت الفرنسيين في سنة 1957 وهم ينجزون البنايات الغربية والمقرات والقاعدة الجوية حتى تحوّلت المنطقة نتيجة حجم المنشآت والمرافق إلى باريس الثانية مثلما كان يردّد أفراد الجيش الفرنسي..

مصالح المركز الصحراوي للتجارب العسكرية:
القيادة العامة: كان الجنرال شارل أيري Charles Ailleret بحاجة إلى من يرافقه في هذا المشروع، فعين فريقا هاما من العسكريين والخبراء والمهندسين وأوكل قيادة المركز للكولونيل Cellerier المشرف المباشر بعد الجنرال، كما تكلّف أيضا بتسيير مالية المركز وصرفها.
القيادة المشتركة متعدّدة القوّات للأسلحة الخاصة: من الناحية التنظيمية والإدارية تشرف عليها الإدارة المركزية بالعاصمة الفرنسية، ومن الناحية العملية فهي تابعة للمركز الصحراوي للتجارب العسكرية وتتلخّص مهامها في إنجاز كلّ نشاطات المركز والإشراف المباشر عليها، وكان من بين عناصر هذه القيادة زمرة هامة من العلماء في اختصاصات جد تقنية غالبيتهم من خريجي L’Ecole des Armes مدرسة Lyon، بالإضافة إلى بعض الموظفين الكبار.
المجموعة 621 للأسلحة الخاصة: تمثل فرعا من فروع القوات العسكرية Groupe d’Armes Spéciales البرية وظيفتها نقل العتاد والمعدات الخاصة بها، وتوزيعها على مختلف مصالح المركز الصحراوي للتجارب العسكرية وضمان الأمن، كان مقرّها بعين أيكر، ومن أبرز مصالحها سلك الهندسة والإشارة والمشاة والمدفعية.
كتيبة القيادة والخدمات: تعتبر كتيبة القيادة والخدمات الجهة المسؤولة عن مصلحة الإشارة والرادار الجوي، وهي تضم مفرزات على رأس كلّ واحدة منها عسكري برتبة ملازم أول وملازم ثاني احتياطي.
الفرقة الحادية عشر للهندسة الصحراوية: اتخذت هذه الفرقة في البداية مدينة وهران مقرا لها قبل أن تتحوّل إلى رقان غير بعيد عن أدرار قصد الإشراف على عملية إنجاز وبناء قواعد الحياة، وشقّ القنوات وتسهيل المسالك والطرقات.
الوحدة التقنية 620: وتتلخّص مهمتها في إيجاد وسائل وعناصر قياس النشاط الإشعاعي ومجالات تأثيراته.
المصلحة التقنية للقوّات: تتألّف هذه المصلحة من ثلاث وحدات تعرف أولاها باسم وحدة STAY وهي في الأصل جهاز سري مهمته إنجاز الدراسات الخاصة بالأسلحة النووية وقياس النشاط الإشعاعي، تتوزّع على مناطق مختلفة من رقان هي منطقة : أولف تابلبالة - تانزروفت وأقبلي وثانيها وحدة يرمز لها بحرف 2 التي اتخذت من وادي الناموس” ببشار مقرا لها قبل أن تنتقل إلى منطقة رقان للإشراف على كلّ ماله علاقة بالسلاح الكيماوي. وأما الوحدة الثالثة والتي يرمز لها بـ STA/E فمهمتها توفير رادار المراقبة للمدرج الجوي، وذلك لتأمين الطائرات في محيط ومجال التفجيرات ورادار من نوع BAR للإرشاد الصوتي بهدف توجيه الطائرات في حال حدوث اضطرابات جوية.
فصيلة الجندرمة: من مهامها الرئيسة المسؤولية التامة عن المسائل الأمنية الداخلية والخارجية للمركز الصحراوي للتجارب العسكرية، بتشديد الحراسة على المدرج الجوي والحرص على عدم اقتراب أيّ عنصر مهما كانت صفته إلا بترخيص خاص وبصرامة فائقة، كما كانت تكثّف من نصب الحواجز الأمنية في دائرة قطرها أربعون كلم من منطقة الحمودية.
الكتيبة الصحراوية لإقليم توات: كان مركزها بمدينة أدرار ووظيفتها الرئيسية ضمان الأمن للمركز الصحراوي للتجارب العسكرية بمحيط أمن خاصة بعد ما تم تزويدها بعربات خاصة تتلاءم وطبيعة المنطقة أبرزها الشاحنات العسكرية 6×6.
مصلحة مرافق الطيران بالجزائر: على غرار كلّ المصالح الأخرى، كانت مصلحة الطيران بالجزائر استقرت بالجزائر العاصمة بإدارة مركزية، وظيفتها في المركز الصحراوي للتجارب العسكرية تتلخّص في بناء المطارات وإلحاق تجهيزاته من برج المراقبة والمدرجات وسلك الرادار، ويسهر على هذه المصلحة فريق الهندسة الجوية الذي انتقل في مرحلة لاحقة لإنجاز مطار عين امقل.
قاعدة رقان الجوية: أقيمت برقان المدينة الصحراوية قاعدة جوية لإقلاع وهبوط الطائرات ومختلف سلاح الجو كما تم تزويدها برادار خاص من نوع PAR ومصالح للأرصاد الجوي ومحطات خاصة بالحوامات والطائرات الحربية من نوع U52 وDC3 - وC47.

قاعدة الحمودية:
بعدما وقع الاختيار على منطقة رقان لتكون حقل أول تجربة تفجير نووية فرنسية، انتقلت الكتيبة الثانية إلى الحمودية المباشرة أعمالها في بناء قاعدة إطلاق التفجيرات في شهر أكتوبر 1958، وانطلقت الأشغال في بداية شهر نوفمبر من السنة نفسها.
وبعد ثلاثة أشهر، كانت الأشغال جارية في حقل الرماية، وعلى مستوى البرج الذي نصبت فيه القنبلة الأولى التي أطلق عليها اليربوع الأزرق. واعتبارا من أكتوبر 1959 كان المسلك بين رقان الحمودية جاهزا للاستخدام، ونتيجة النشاط الذي عرفه الطريق أخضع خلال فترة وجيزة لأعمال صيانة، وما أن حلّت سنة 1960 حتى كانت الأشغال بمختلف مرافق وورشات قاعدة الحمودية جاهزة تماما، وقد تطلّبت وتيرة الإنجاز السريع مضاعفة عدد العاملين بالقاعدة، فإلى جانب 6500 فرنسي من أفراد الجيش والعلماء والخبراء، تم نقل أزيد من 3500 جزائري غالبيتهم من معتقلين وبسطاء العمال من العوام.
استمرت الأشغال على مستوى قاعدة الحمودية خلال 1960 و1961 بإنجاز منشآت جديدة وتجهيز المرافق وصيانة العتاد والمسالك منها إعادة إصلاح وتعبيد الطرق الرابطة ما بين الحمودية - إغيل، والحمودية - حقل الرماية.
ويذكر شاهد عيان من المنطقة وأحد ضحايا التفجيرات أنّه كان من بين مئات الجزائريين الذين استغلوا في أشغال شاقّة كانوا لا يعرفون طبيعتها، إذ استغرقوا وقتا طويلا في شقّ الأنفاق الأرضية التي سوف تشكّل مخابر وإدارة القاعدة، ولا تزال هذه الأنفاق موجودة إلى اليوم، ومن المكاتب الموجودة بالأنفاق ما كان يخضع للسرية التامة. وعلى سطح الأرض، أضيفت منشآت أخرى متعدّدة ومرافق للترفيه أنجزت في معظمها بسواعد جزائرية.
وبقاعدة الحمودية، أضيفت بعض الفروع والمصالح الرئيسية وأخرى ذات الأهداف الاحتياطية منها مصالح الإشارة المختصة في إصلاح وصيانة المنشآت الهاتفية ومراقبة وضعية الكوابل والخطوط والمراكز الأوتوماتيكية، التي توفر شروط الاتصال الجيدة بين مديرية التطبيقات العسكرية والمركز الصحراوي للتجارب العسكرية وبين فرنسا والجزائر. ومن الأجهزة التي كانت تتوفّر لدى قسم الإشارة جهاز التليكس المشفر وأجهزة التحويل من صنف HF والتلغرافية. كما أضيفت أيضا مؤسسة تحمل اسم SODETEG تتبع من الناحية التنظيمية مديرية التطبيقات العسكرية DAM وتتلخص وظيفة هذه المؤسسة في توفير أجهزة القياس المختلفة ذات الاختصاصات الهندسية وغيرها، وإيصال وتركيب الخيوط والكوابل المختلفة ولضمان أمن هاتين المصلحتين كلّفت كتيبة الأمن بمسؤولية الأمن داخل القاعدة وفي محيطها وشدّدت المراقبة والحراسة عند مداخل القاعدة ومصالحها الحسّاسة.
وبالنظر إلى جميع المرافق والمصالح والتجهيزات التي أوردنا تكون فرنسا قد استوفت كلّ الشروط التي جمعت معظمها في الصحراء الجزائرية تحضيرا لإجراء أول تفجير للقنبلة النووية الفرنسية في عملية أطلق عليها اليربوع الأزرق، صباح يوم 13 فيفري 1960، على الساعة السابعة صباحا، بمنطقة رقان بلغت قوّتها أربع مرات قوّة تفجير هيروشيما وناغازاكي، تفجير أضفى صور الافتخار لفرنسا مثلما تصوّره هذه الجريدة الصادرة في اليوم الموالي من التفجير الذي لم يكن ليمس التراب الفرنسي ولا الشعب الفرنسي بقدر ما سوف يحدث الانعكاسات والكوارث الصحية والبيئية على الجزائر وأجيالها المتعاقبة.
للمقال مراجع

الحلقة الأخيرة

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024